ملف مجلة قناة الجزيرة تخصصه لقبيلة الرحامنة : الجزء الاول
الملف من اعداد فاطمة سلام مجلة الجزيرة
في الرحامنة كما في غيرها من الأقاليم ذات الغالبية القروية، ينتشر “التّعزاب” أو “العزيب”، ويعني أن يهجر راعي الغنم والماعز بشكل خاص بيته خلال مواسم معينة خصوصا في موسم الحصاد، ويقيم وسط الحقول التي يتوفر فيها الكلأ لقطيعه، ينصب هناك مع رعاة غنم آخرين خيمات مؤقتة من أجل السكن، ويقتصرون في عيشهم على المواد التي تنتجها ماشيتهم، من قبيل السمن والحليب واللبن، وينتهي “التّعزاب” حال انتهاء الموسم واختفاء التبن والحشائش من الحقول.
ولأن تربية الماشية تصبح مكلفة أكثر خلال مواسم الجفاف، وهي متوالية على الرحامنة، ولانعدام ما ترعى فيه بالحقول، وارتفاع أسعار العلف حتى لا يستطيع الفلاح مسايرتها بعد الخسائر التي تكبدها خلال موسم الحرث، لم يجد مصطفى (41) عاما بديلا عن “التّعزاب”، كان يمتلك مئتي رأس غنم عليه أن يضمن بقاءها، لذا حسم قراره بالترحال بها نحو غرب المغرب، المنطقة البعيدة عن الرحامنة بمئات الكيلومترات، لكنها الأخصب، وتشهد سنويا تساقط كميات كبيرة من الأمطار، ما يؤهلها لإنتاج كميات وافرة من الحبوب والتبن لاحقا.
اتفق مصطفى مع مالك أحد الحقول في الغرب، على تأجير مساحة كافية لقطيعه طوال ثلاثة أشهر، وهي فترة الحصاد وأيضا المدة المتبقية على انطلاق موسم الحرث الجديد، ولأن الجهد مضن ولن يتحمل أتعاب مرافق له، كان لابد أن يأخذ معه زوجته، تاركين أبنائهما في عهدة أختهم الكبرى.
يقول مصطفى لـ”مجلة الجزيرة” إن “التّعزاب ليس اختياريا، هو صعب وقاس ويتطلب صبرا كبيرا، لكن توالي سنوات الجفاف على الرحامنة يكاد يهلك ماشيتنا، ونحن لن نسمح بذلك”. أقام وزوجته في خيمة نصبوها وسط الحقل المستأجر، وسوروا إلى جانبها بجذوع شجر السدر القصير الأطراف حظيرة لقطيعهم.
يقول مصطفى “لم تكن الخيمة كافية، وكان علينا أن لا نعتمد كلية على منتجات غنمنا، فأخذنا معنا كفاية من الطعام المعلب” بالرغم من ذلك يرى الرجل أنه كان محظوظا بالحصول على عزيب أرضه خصبة، إذ لو لم تكن كذلك لاضطر إلى أن يستمر في الترحال، وحيث شبع قطيعه يقيم.
يقولون في الرحامنة باللهجة المغربية إن “الكسيبة كتعمر الشكارة” أي أن تربية الماشية تملأ المحفظة مالا، لكن مصطفى وغيره من الرعاة الذين يضطرهم الجفاف إلى “التعزاب” باتوا يرون أن “الماشية كتخوي الشكارة” أي تفرغ المحفظة من النقود، لكن دون أن يعني ذلك أنهم قد يتخلون عنها يوما، تربية الماشية في الرحامنة من الأصول الراسخة والممتدة في دماء كل رحماني، تربيتها تعادل الشرف والنخوة وكل الأمور الحيوية الأساسية في الحياة، وفقدانها يعني البؤس وقطع الرحم مع الأرض، وهو الأمر المرفوض كلية لدى الرحامنة.
عيد الأضحى الماضي كان أول عيد تقضيه “نعيمة” زوجة مصطفى بعيدا عن أولادها و”معزّبة” أي مقيمة في العزيب، ترعى مع زوجها قطيعهما، وتطبخ إن تيسر وتغسل له. تقول لمجلة الجزيرة “صحيح أننا بنينا عريشتين من القصب وأغصان الشجر، جعلتا مقامنا أفضل منه في الخيمة، وبنيت فرنا تقليديا من الطين لأجل الخبز، وذبحنا أضحيتنا، ونحاول أن لا نحرم أنفسنا من طقوس العيد، لكنه ليس هينا أبدا أن لا تكون مع أولادك في هكذا مناسبة” لكن مع ذلك تتشاطر ربيعة مع زوجها بأن لا حياة لهم دون قطيع، وبالتالي عليهم أن يعتنوا به جيدا.
أصحاب الأرض حيث “عزّب” مصطفى ونعيمة، كانوا كريمين معهما بحيث منحوهما عند انتهاء موسم الحصاد نصيبا كما قالوا “من خيرات الله” وكان يكفي ذلك حتى تطمئن نعيمة إلى وجود كفاية أسرتها من القمح لأجل الخبز، ولذروه لأجل الحرث القادم “كيفما كانت الظروف علينا أن نفكر بأن أمامنا موسم حرث يجب أن لا نخلفه، ربما يكون هذه السنة أفضل” هي هكذا دورة حياة الأسر في قرى الرحامنة.
في ظرف آخر يعني “التّعزاب” أيضا أن يغادر مربي الماشية قطعة الأرض المقام عليها بيته، إلى قطعة أرض أخصب، تكون في ملكيته أو يكتريها، لكن مع بيت طيني بها، لا يهم إن كان صغيرا المهم أن يكون مأوى جيدا، وليس شرطا أن ترافق الزوجة زوجها إليها، بالأخص إن كان سيقتسم العزيب معه رعاة غنم آخرون، لكن في حال رافقته يكون وضعها كـ”نعيمة” راعية للقطيع وللبيت/الخيمة ولزوجها.
وليس “التّعزاب” خاليا من البهجة كلية، بل إن العلاقات الإنسانية بين رعاة الغنم وطرائفهم تتحول إلى مثار تندر شعبي كلما انتشرت، كما أن حفل “الدزازة” أو جز صوف الغنم، يكون بهيجا وكريما، حيث يحرص مربو الأغنام على تخليصها من صوفها أول الصيف لارتفاع درجات الحرارة بالمنطقة، ويكون ذلك بصيغة احتفالية تحضر فيها وليمة من لحم الغنم، ويدعى إليها مقرئو القرآن، كما يمكن للنساء أن يجتمعن ويغنين للبركة والخير، ولهذا سميت “الدازاة أيضا” بـ”عرس الغنم”.
إن البداوة والخلوة لا تجعل من “العزّابة” أناسا قساة أوخشنين، بل بشرا يؤمنون بالرعاية بصدق، وهو التناقض الجميل ذاته لدى أرض الرحامنة، صعبة لكن أيضا خصبة جدا ما إن ترتوي.