OCP

التابي يغازل حيه و يكتب: من ذاكرة “افريقيا” التي في القلب.

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عبد الكريم التابي
( هذه الترنيمة كتبت في أحد ليالي ربيع سنة 1993 أي أنها تكمل اليوم ربع قرن من الزمن الذي مضى، ونشرت بجريدة “أنوال” وأعدت نشرها في عدد من المواقع، وأعيد اليوم نشرها لارتباطها بسياق النبش في الذاكرة الذي نزل علي كمن يكتب وصاياه الأخيرة في انتظار العشاء الأخير. وافريقيا للقراء الذين لا يعرفون، هي أحد أحياء ابن جرير الهامشية القديمة، والتي لعب كثير من أبنائها دورا مهما في تاريخ ابن جرير المعاصر، سياسيا وثقافيا ورياضيا وإعلاميا).
افريقيا امرأة صالحة للجنون والإبداع.
‘’أيتها اللؤلؤة ، إنك تسكنين آخر قطرة من دمي ، وحين تشاهد الريح عذابنا فلسوف تنفجر’’.
لكم آمنت في عينيك بالأحلام والشعر
لكم قدست في لألاء نورهما سنا الدهر
( من قصيدة “حسبتك” للشاعر ادريس الجاي)
عيناك لازورديتان مفتوحتان دوما لأبخرة وحرائق ونفايات الوادي . شعرك الغجري تتدلى ضفائره على إزار مطرز بخرق الأطفال البالية . بين عيونك وعيون أهليك يستوطن الحزن الهادئ حقولا وغابات . على خديك المتوردين ندوب جراح غدر الخلان والغرباء . على ناصيتك وشم بسعة الغدر والخيانة . من دروبك الضيقة ينحدر قطران الغبن والمهانة . من لظى شفتيك تفوح شهوات الحب .
وأنا أحبك ..كم أحبك .. أيتها المنتحلة لاسم قارة الجوع وذبابة “التسي التسي” ، ومقابر الموت في “أنكولا” و”لورانسو ماركيز” . كنت أنتشي بمنظر صغارك وهم يقرعون الطبول عند رواح الشمس، و على جنبات الوادي، يلوحون بصواريخ الحسين البلاستيكية ، يدعمون بلا شروط أطفال العامرية الموتى والمحاصرين .
حملتك الطبيعة نبتة على أجنحة الجوع والفقر، مهاجرة من فصولك الأربعة العجفاء ، وحطتك دون تحديد طوبوغرافي على قارعة سفحي الوادي ،الذي سيصبح فيما بعد ابنا شرعيا لك ، يعتد بحمل اسمك المتأصل من سلالة أنجبت باتريس لومومبا وكوامي نيكروما ويوليوس نيريري وجمال الناصر ونلسون مانديلا والمهدي بنبركة وعبدالكريم الخطابي ، وزنجيا أدمى القيد معصميه ، وبطاقة نووية من الصبر والاحتمال يصيح : شكرا لك يا رب ، لأنك خلقتني زنجيا أسود، من فصيلة “كونتا كنتي” ومعاناته الفوقبشرية ،كما صورها بشكل رائع السينياست فليكس هالي.
من طين الأرض المعطاء وتبن البيدر زمن الخير ، نسجت لأبنائك أعشاشا تستمد دفئها من بساطة الإنسان وكدحه المستمر .ترعد السماء هنا ، تشق سيوف البرق أديم السماء هناك ، تبكي السماء بغزارة ، يهدر الماء طوفانا جارفا . تجرف أبنيتك الطينية السيول الهائجة ، تختفي المعالم ، فتنعزلين عن العالم ، فنسعد ـ نحن أولاد إفريقيا ـ بإجازة مفتوحة تريحنا من إرهاب المدرسة ، ويغار أولاد الدوار الجديد ويتمنون الطوفان والفيضان .
يوقظني شذا أزهار البرتقال الفواحة من عرصة ‘’بلمحجوب’’في تلك الصباحات الآذارية اللطيفة ، فأفتح المذياع الصغير ، فتطلع القديسة فيروز بصوتها الملائكي صداحة من ضفاف نهر الليطاني فتشنف سمعي ب( عم بيتضوي الشمس ع الارض المزروعة . عم بيتضوي الشمس والدنيا ع توعى) .وبعد أن جرجرنا الزمن غدونا نرددها منحوتة كالآتي:عم بيضوي الشمس والطلبة في السجن، عم بيضوي الشمس والجماهير في السجن . نعم يا فلاح ، يا رمز الكفاح.
نشرب الحليب الذي يوزعه فلاحون فقراء على ظهور الدواب ممزوجا بعبير الأقحوان .. يقرأ مذيع نشرة السابعة الأخبار، فنصغي السمع للتطورات في الحرب المستعرة في جنوب شرق آسيا في “سايكون” و”لاووس” و”هانوي” و”بنو مبين”بينما في شرق المتوسط الحزين، تعصرنا الغصة ومدافع الهاون والبازوكا الإسرائيلية تدمر طائرات العرب حتى قبل إقلاعها، ومع ذلك فالعرب اعتبروها حرب الكرامة .
نسرع الخطو محملين بعبق روائح الزهر المنبعثة من عرصة بلمحجوب شبه عراة وشبه حفاة ، بملابس رثة، هي بقايا ومخلفات إخوتنا الكبار. نحشو محافظنا (أكياس بلاستيكية ) بأدواتنا المدرسية البسيطة جدا والتي يترأسها ضابط الإيقاع المايسترو أحمد بوكماخ ، إضافة إلى قطعة خبز عزلاء بائتة ، ندخرها لوقت الاستراحة، لنستمتع بمذاقها اللذيذ ك”كوتي” نصرفه للمعلم بالتقسيط غازات لا تشبه غاز الخردل إلا في كونها تبعث استرخاء الأعصاب، وتدمر جدول الضرب، وترفع ما لا يرفع، وتحول الناصب جازما، والناسخ منسوخا .
وأنا أحبك ..كم أحبك أيتها الراقدة في هامش المدينة. أعطيتني الأبجديات الأولى للمعرفة مع ربيع ‘’براغ’’ وانتفاضة “أولاد خليفة”، ومعركة الخامس من حزيران، وانتفاضة الطلاب في فرنسا ، ومشروع السافل وليام روجرز، وقدسية الأب ‘’هو شي منه‘ .
واليوم، قضى رجالك الطيبون نحبهم ، والتهمت بلدوزيرات الحضارة المزيفة شجيرات البرتقال والكرز من جنبات الوادي، ودكت الآبار، واختفت الحقول الصغيرة المجاورة، ولم يعد الفلاحون البسطاء يفيقون في الأصباح الآذارية والحزيرانية الجميلة ليوزعوا الألبان. وولى عهد التكافل في الأحزان والمسرات. وبحت حناجر النسوة من زغرودات الفرح احتفاء ب ‘’تخريــــجة ‘’طويلب صغير لسلكة من القرآن، أو لنجاح تلميذ في الشهـــادة الابتدائية. إلا أن المعمار لا زال على حاله كما اختطه الرجال البسطاء، ولازالت المسيلات تنحدر دامعة من الأزقة، ولازالت بعض الدور الطينية قائمة تصارع الخرسانة والحديد المسلح. لا زالت المستنقعات تصيب عيون الأطفال بالرمد. لا زال الوادي قاعدة انطلاق عدوان وإغارة البعوض. لا زال الصيف يسرح العقارب والحشرات السامة. لا زال الناس يتوالدون رغم حملات تنظيم الأسرة. لا زالوا يلدون ويولدون وينتشرون في المزابل حفاة عراة ،يتلقحون ويتمنعون من جراثيمها. لا زالوا يتكيفون مع هذا الوسط الملوث، يحرقون الإطارات المطاطية ، يتمثلون ‘’كرانـــــــدايزر ‘’.لازالوا يتحلقون حول القرابين التي يصطادونها وهم يستحضرون مشاهد الهنود الحمر في أدغال الأمازون وأحراش الكولورادو.
لا زال خريجو المدارس العاطلون والمعطلون يجوبون الأزقة نهارا، حتى إذا تهالكت الأجساد، تفرق الجمع، إلى أن تنحدر الشمس إلى مغيبها، فينزوون في الزوايا والأركان حتى إذا سرت النشوة في  الأوصال ، انتشلوا المرحوم باطما من نومته الأبدية، وأنشدوا معه :
وليام أليام
يابنتي مالكي عوجة  واش من سباب عرجتني بيــه
تارة تسقيني حليـب   تارة تسقيني حدجــــــة
واليوم مات عباس …وانقرض جيل الغيوان ..والمهدي عامل ..وفرغت الأركان من جلسات الإمتاع والمؤانسة، ولم يعد هناك من يردد الموال:
ياوتعـــالي  تعــــالي
نعيد ليك ما جــــــاري
وأنا خليت خيمتي وخليت الـدراري
رحلت الجدة الودود السموح فاطنة الشلحة، التي اضطرها مغرب الجوع والفقر إلى أن تهاجر بمعية أطفالها الخمسة مشيا على الأقدام، من نواحي أيت أورير إلى دوار البكارة بنواحي الصخور. رحل الجد بنعيسى الشلح بعدما حوصر لشهور  أثناء تواجده بمنطقة خنيفرة في أحداث مولاي بوعزة وهو لا يعلم عن الثورة الموؤودة سوى سومة الفدادين التي جاء من أجل حصدها. رحل جندي لاندوشين الخال بوجمعة بوخار، ولم ينل من عذابات المقاومة في مغرب الاستقلال غير أصبع اقتلعته شظايا قنبلة انفجرت أمامه في أحد أحياء مدينة فاس. رحل سقاء الحي العم ‘’الكبير’’الذي حملته الجدة على ظهرها من أيت أورير إلى دوار البكارة. رحل الوالد، المثابر، السمح، الصبور، المناضل الاجتماعي، ‘’با لحســـــــــــــــــــــــن ” الذي يعرفه أهل درب السلطان بزنقة ملوية ،والذي حصل له ولنا شرف تقديم الواجب للشهيد عبدالله الحداوي .
مات الصديق العزيز  عبدالنبي، يوم داهمه الموت المتسربل في سيارة غادرة وهو يتأبط حروف الهجاء ، ويمسك في راحتيه حافظة أقلام متهالكة، ليوزع واجبه المهني على نفر من صبية هذا الوطن، الذي لا يملك منه إلا بطاقة للتعريف قيل أنها وطنية، ورقما للتأجير لا ينفع الأحياء منا في توفير كفن للدفن ،ولا في رد غائلة الجوع في يوم ذي مسغبة .
مات عبدالرزاق ، مات البشير ، مات السي أحمد الحمزاوي الذي استهوته أجواء إفريقيا ،وغدا مداوما على السمر في جوفها حتى الهزيع الأخير من الليل، قارئا لشعر السياب، ومشاركا في نقاش “أزمة حضارة، أم أزمة البورجوازيات العربية”، ونديما  في العبير المعتق من الدرجة الصفر، وباحثا عن وجود الله في كتابات الأخضر عفيف، وصادق جلال العظم.
ماتت الوالدة أمي “لالة” ربيعة التي لا أدري كيف اكتسبت هذا “الشرف والتشريف”، وهي اليتيمة الفقيرة المعدمة، إلا من نبع لا ينضب من الكوثر والحب والسخاء. ماتت التي لا تمل من شغبنا . ماتت التي وزعت  اسمها  على الأطفال والشباب والنسوة لينشدوه ويتربوا على ذكراه .
وأنا أحبك ، كم أحبك.
 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.