OCP

الدكتور الباحث محمد ناجي بن عمر يحقق في كتاب إبن السكاك

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

صدر  مؤخرا للدكتور محمد ناجي بنعمر مؤلف جديد عبارة عن تحقيق لمصنف ابن السكاك،( كتاب نصح ملوك الاسلام:بالتعريف بمايجب من حقوق آل البيت الكرام).
الكتاب الجديد الذي يقع في 142 صفحة من الحجم المتوسط والصادر عن كلية الاداب بأكادير قدم له الاستاذ محمد المازوني  وحاول من خلاله الباحث في التاريخ محمد ناجي اغناء الخزانة المغربية بعمل  سيفيد كل مهتم بدراسة تاريخ فئة اجتماعية، كان لها الحضور الوازن في مجريات التحول السياسي منذ قيام دولة السعديين في بداية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، حيث أضحى العنوان المميز لها، سواء في التأليف المغربي، أو الأجنبي، الدولة الشريفة.
وبحسب محمد المازوني فإن المتتبع لخطوات التحقيق في كتاب الدكتور ناجي ، يظهر له جليا بأن المحقق وفق في تقديمه بحسب الشروط العلمية، والمنهجية، وقواعد التحقيق المتعارف عليها في المدرسة المغربية، بحيث اتسم عمله باعتماد منهجية واضحة وآلية تحقيق ميسرة، اعتمدت على قاعدة المفاضلة بين نسخ المؤلف، ثم مقابلتها ومقارنتها، بالتوضيح اللازم، وتذييل النص المحقق بالشروح المطلوبة و بالتعاريف المكملة، من دون إثقال ولا تكليف.

تقديم الاستاذ محمد المازوني:

اعتمدت الدولة المرينية على فئة الأشراف ضمن خطة سياسية ترمي إلى إضفاء المشروعية على دولتهم، و ارتبطت في الكثير من جوانبها بسياق تأسيس هذه الدولة و بمقاصدها السياسية و رهاناتها الداخلية و الخارجية .
و بالرجوع إلى هذا الموضوع الذي عالجه أكثر من باحث متخصص، اتضح أن سياسة المرينيين الأوائل اتجاه فئة الأشراف استنفذت كل “طاقتها التوظيفية” مع نهاية عهد أبي  عنان( 759ه/ 1358م)، لكن من دون أن يكون بمقدور من راهن عليها الحد من تبعاتها الاجتماعية و السياسية؛ فقد أصبحت فئة الأشراف خلال العهد العناني في مرتبة اجتماعية سامية مؤسسة على قواعد مخزنية مرعية، كما أصبح لها جهاز داخلي منظم تولى فيه النقيب أمور الضبط و الإشراف و  رعاية مصالحها، فتولد عن ذلك بروز شعور بين مكوناتها بأن لها حقوقا مستحقة على الدولة و المجتمع على السواء، من جهة العناية الرسمية أو من جهة التقدير الواجب من مطلق العوام. وقد ترتب على هذا  الأمر تجسيد هذه الاعتبارات في صورة نظام أخلاقي ملزم مستند في إقرار إلزاميته على موجبات شرعية و دينية، جعلت البعض من العلماء يعتقد بأن النظر إلى وجه الشريف، كالنظر في “الذات الكريمة” (ابن السكاك)، مما يعني بروز منظومة قيم مستحدثة تتجاوز في أبعادها الرمزية ما كان سائدا من تصورات ثقافية مترسخة في منظومة القبيلة المغربية.
لم تكن المخلفات الاجتماعية النتيجة الوحيدة للسياسة “الشريفية” المرينية، بل نعتقد أن وقعها المادي كان أكثر فاعلية؛ فقد انتظمت سياسة الحكام المرينيين الأوائل اتجاه الأشراف على قواعد المصالح المتبادلة؛ فمقابل توظيفهم المفترض، منحتهم الدولة امتيازات مادية و معنوية، وفق ترتيب مخزني منظم، سيصبح بعد ذلك تقليدا متأصلا سيسير عليه الحكام اللاحقون .
و من الواضح أن ما تحصّل عليه الأشراف في العهد المريني الأول من اعتبارات معنوية و امتيازات مادية، كان الحافز الأكبر لاستقطاب المزيد من الطامحين للفوز بمرتبة “الشريف” التي ستجعل صاحبها خارج نظام الرعية، في وقت كان فيه السواد الأعظم من عامة الناس ملزما بالخضوع لنظام الواجبات الشرعية و غير الشرعية و لثقل الكلف المخزنية، الطارئ منها و غير الطارئ. و لعلنا بذلك ندرك دواعي الإلحاح الذي أظهرته أكثر من جماعة للانتماء لآل البيت؛ فالأمر متصل في البدء و المنتهى بالرغبة في الحصول على مكاسب مادية و إعفاءات وظيفية، أكثر منه صرخة استعطاف بواجب الاعتناء  بنسل الذرية الكريمة .
لقد تبيّن أن سياسة الجرايات التي سنّها المرينيون الأوائل لفئة الأشراف، لم تكن إلا آلية محدودة الأثر  أوجبتها، كما سلف الذكر، مقتضيات السياسة؛ فحين انتهت لعبة الرهانات السياسية و المراهنات الداخلية، عادت الدولة إلى مراجعة “مخططاتها الأولى” و تقيّيم نتائج سياسة حكامها الأوائل في ظل ظروف سياسية مختلفة عن البدايات.
فقد ترتب على نهاية العهد العناني ( 1348- 1358)دخول الدولة المرينية في طور أزمة ازدادت معالمها بتنامي الضغوط على المغرب الأقصى، الأمر الذي حتّم على خلفاء أبي عنان التملص من الالتزامات السابقة اتجاه الأشراف؛ من قبيل إلغاء المراسيم التقليدية الموجبة تكريمهم و التوقف عن تجديد  الظهائر السابقة لهم و التراجع عن منحهم الامتيازات المادية. و حتى يكون لهذه الاختيارات مسوغا شرعيا، استند أولئك الحكام على قاعدة التمييز المبني على “نظرية ضعف الشرف” للحد من ظاهرة “الانفجار الشريفي” في عهود السلاطين الأوائل.
و في مقابل هذه الإجراءات، ظهرت بعض المواقف الرافضة من جانب النسيج الشريفي، عبرت عنها- و إن بصور مغلفة – كتابات بعض العلماء الذين راعهم ما حصل من تدني في أحوال الشرفاء، فتكفّلوا بالتعبير عنها نيابة عنهم؛ فكانت هذه الكتابات إذانا بانطلاق حركة تأليف جديدة، سيكون لها حضور بارز بين الإنتاجات الفكرية في العهود القادمة.
اعتنت هذه المؤلفات في المقام الأول بقضية الأنساب و بيوتات الأشراف المشهورة، غير أن سعي بعض مؤلفيها لم ينحصر في مجرد التعريف بها و بفضائلها، بل اتجه إلى تحوير مضامينها لتستجيب لمطالب المتضررين من الأشراف، لكنها مع ذلك لم تكن على نفس الدرجة من الإقناع؛ فبعض المؤلفين اعتنوا بالدفاع عن فروع كانت أحقية شرفها مقطوع بثبوتها، بينما عجز البعض الآخر عن إيجاد ما يدعم موقفه في الدفاع عمّن كانت حجته ضعيفة؛ و في كلتا الحالتين- و مهما كانت النوايا الخفية من التأليف- ظل القصد واحدا و هو تذكير أولي الأمر بواجبهم الشرعي بضرورة العناية بآل البيت الكرام، مهما كانت مراتبهم و حججهم وكيفما كانت أحوالهم، الأمر الذي يثبت أن هذه التصانيف الجديدة لم توضع جزافا، بل صنفت لتكون حمّالة قضية. و كيفما كان لون لبوسها، منقبيا أم نسبيا أو استعطافيا ، فإن مقاصدها ظلت محدّدة بالرسائل التي انطوت عليها و التي تراوحت بين النصيحة الموجبة، كما هو حال كتاب ابن السكاك، و التذكير الصريح، كما هو حال بعض المصنفات المجهولة المؤلف.
و يبدو في اعتقادنا أن مقياس التمييز بين مضامين هذه الرسائل لا يعود إلى مقتضيات الصياغة الأدبية، بل إلى صعوبة إيجاد وسائل التبليغ المستند وجوبا إلى قرائن الإثبات؛ فابن السكاك، الذي وضع تأليفا استعطافيا، كان يدافع عن قضية تبدو نظريا عادلة بمنطق التاريخ، بينما أجبر البعض من المؤلفين على توظيف المنقبة كسلطة “تخويفية”، لأنهم كانوا يفتقرون لعناصر الإسناد التاريخي المطلوبة للدفاع عن قضية اعتبروها بدورهم عادلة.
و بين “عدالة” قضية كل طرف، تنتصب الحدود الفاصلة: فإذا كان ابن السكاك مقتنعا بأنه يدافع عن فروع معترف بها رسميا و ربما شعبيا، فإن البعض الآخر، وجد نفسه مجبرا على اقتفاء مختلف الطرق و استعمال كافة السبل لانتزاع إقرار مخزني صريح بأحقية من يدافع عليهم في الانتساب لآل البيت، مع أنه كان يعرف أن كل الإحصاءات التي لجأ إليها الحكام السابقون لضبط فروع الشرفاء، قد أقصتهم من العدّ و أبعدتهم عمليا من صحيفة الشرفاء.
عتبة في النظر إلى قضية الشرف
من البديهيات التي لا يجادل فيها اثنان، أن بعض بواعث الاهتمام بقضية الشرفاء تعود في المقام الأول إلى مخلفات المأساة الإدريسية في أذهان المدونين و الحولين. فمن الواضح أن ما ترتب على نهاية هذه الدولة شكل بالفعل مصدر إلهام لتصور تحول سياسي و اجتماعي في تاريخ المغرب، دفع بالبعض إلى ربط مآل الشرف في العهد المريني بالمحنة التي لحقت بالأدارسة على أيدي المروانيين و أعوانهم الزناتيين في بداية القرن الرابع الهجري، وخصوصا على يد موسى بن أبي العافية المكناسي الذي حمّله المؤرخون مسؤولية اختفاء “الأشراف” و تشردهم و اندماجهم في الأوساط الأمازيغية .
فانطلاقا من سنة 317 ه، و بفعل ما قام به موسى ابن أبي العافية المكناسي من قمع ممنهج و اجتثات واسع لبقايا الدولة الإدريسية، اقتنع أكثر من مؤرخ أن الأدارسة دخلوا فيما يشبه “مرحلة كمون اجتماعي” دامت قرابة الثلاثة قرون، انسلخوا خلالها عن شاراتهم النسبية و اندمجوا في البيئة المحلية و تقمصوا تقاليدها و عاداتها، بل أصبحت لهم أنساب مستحدثة تحيل على منظومة القبائل الحاضنة لهم؛ من دون أن تظهر عليهم علامات التميز أو الحظوة، كما لو أن القبائل التي احتضنتهم كانت مدركة لما قد يترتب على ذلك من عواقب؛ حتى أنه في العهدين المرابطي و الموحدي، اللذين برزا كتجارب سنية مقدرة لمكانة الرسول صلى الله عليه و سلم، لم يظهر أمر الشرف بمظهر التكريم أو التبجيل، بالرغم من محاولات بعض المؤرخين الوسيطيين وضع التجربة في سياق النماذج الفردية، كاجتهاد ابن خلدون في إثبات شرف المهدي بن تومرت، المبني على نفس الاعتقاد السابق.
و من دون الدخول في حيثيات التبرير أو الجدال حول هذا الرأي أو ذاك، نعتقد أن أمر القمع الإدريسي يجب أن يوضع في ميزان التاريخ و السياسة، و ليس في ميزان النظر العاطفي فقط. ومن المحقق كذلك، أن الدولة الإدريسية لم تقم فقط على مبدأ الشرف كمقوم إيديولوجي حامل لبذرة مشروع سياسي، كما لم يكن لهذا المبدأ ما يبرره من الناحية الاجتماعية في البيئة الأمازيغية آنذاك. وقد تكون حالة ورود المولى إدريس الطريد، عامل تأثير نفساني على الجماعة التي احتضنته، لكنها بمنطق التاريخ والسياسة،  غير كافية للقول بأن المولى إدريس أقام الدولة لأنه فقط سليل الدوحة النبوية. إذا افترضنا جدلا أنه كيّف قواعد النظام على مقتضيات الشرف، فكيف يمكن أن نتصور دولة مؤسسة على مبدأ رمزي ذي بعد عاطفي، و ليس على مقومات مادية و شروط بشرية مدعمة؟
نعتقد أن الخلط بين كون المولى إدريس من آل البيت و بين تأسيسه لدولة شريفة، أمر قد يبدو من جهة النظر التاريخي خارج منطق التاريخ و لا يستقيم معه التحليل الموضوعي. قد يكون القمع الذي سلّط على أتباعه، و هم في هذا السياق، مجرد تمثّل لنظام سياسي منقرض، هو الذي جعل التعاطف يتحول إلى آلية تأثير ذهني أفلحت في تصوير الأمر في منتهى ما وصل إليه من اعتقاد بأن كل منتسب إلى الدولة الإدريسية هو شريف بالدم و ليس بالسياسة.
قد يكون المؤرخ بدوره قد أدرك بذهنيته الالتقاطية هذا الاعتقاد، لكن منطقه يفرض معالجة القضية في سياق التاريخ و ليس من منظور مآسي من تبقى من أتباع الدولة الإدارسة.
إن اختيار الأستاذ الجليل محمد ناجي بن عمر تحقيق  كتاب “نصح ملوك الإسلام” لابن السكاك، كان موفقا، لما يحمله هذا المصنف من قيمة تاريخية لمسارات قضية مركزية في تاريخ المغرب، وهي قضية الأشراف، الذين طبعوا بمكانتهم معالم الدولة المغربية الحديثة. ومما يعزز حسن الاختيار، أن ابن السكاك، لم يصنف مؤلفه لمجرد الدفاع عن هذه الفئة، بل كان حريصا على تبيان الكثير من الجوانب المتصلة بالوضع الاجتماعي لها وإبراز جوانب التحول الذي حصل بفعل امتلاك الشرفاء لوسائل التأثير ، حينما أضحوا يمثلون قوة اجتماعية داخل الدولة المرينية.
نعتقد أن الأستاذ محمد ناجي بن عمر، بإخراجه وتحقيقه لمصنف ابن السكاك، قدم للخزانة المغربية عملا سيفيد كل مهتم بدراسة تاريخ فئة اجتماعية، كان لها الحضور الوازن في مجريات التحول السياسي منذ قيام دولة السعديين في بداية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، حيث أضحى العنوان المميز لها، سواء في التأليف المغربي، أو الأجنبي، الدولة الشريفة.
بتتبع خطوات التحقيق ، ظهر جليا بأن المحقق وفق في تقديمه بحسب الشروط العلمية، والمنهجية، وقواعد التحقيق المتعارف عليها في المدرسة المغربية، بحيث اتسم عمله باعتماد منهجية واضحة وآلية تحقيق ميسرة، اعتمدت على قاعدة المفاضلة بين نسخ المؤلف، ثم مقابلتها ومقارنتها، بالتوضيح اللازم، وتذييل النص المحقق بالشروح المطلوبة و بالتعاريف المكملة، من دون إثقال ولا تكليف.
ولعل من فوائد التحقيق في عمل الأستاذ بمحمد ناجي بن عمر، الرجوع إلى أصول المتن وتبيان مستويات الاستشهاد ودرجة صحته، مما يسر سبل معرفة الكثير من الأصول التي اعتمدها ابن السكاك في نصحه. وعلى الرغم من كل هذا، ظل المحقق حريصا على عدم تجاوز عتبة المتن ، سواء فيما يتصل بالشروح، أو ما تعلق بالهوامش والطرر، بل شكل هاجس إخراج النص أقرب ما يكون لصاحبه، الدالة الموجهة لتحقيقه.
ومن حسنات هذا العمل كذلك، اعتماده على قاعدة بيبليوغرافية هامة جمعت بين مصادر متنوعة، منها ما يخص التحقيق، أو ما له صلة بالتاريخ، أو تلك التي اعتنت بالجوانب اللغوية، حيث ظهر جليا امتلاك المحقق لملكة التحقيق المسند على معرفة متمكنة من قواعد اللغة، نحوا ،وإعرابا ،وشرحا، واستنباطا؛ وهو ما أضفى على نص التحقيق قيمة علمية كبيرة، ومنحه كثيرا من المصداقية والموثوقية.
وفي منتهى هذا التقديم، ننوه بعمل الأستاذ محمد ناجي بن عمر، لما اتسم به من التزام بضوابط التحقيق العلمي ،ونجاحه في إخراج نص من النصوص التي سوف تثري المكتبة الجامعية، لما يحمله هذا المصنف من إفادات ذات قيمة للباحث في التاريخ والمهتم بقضية الشرفاء.
وفي الأخير، نتمنى للأستاذ الجليل محمد ناجي بن عمر، التوفيق في مساره العلمي وبالمزيد من العطاء الخلاق.
الأستاذ محمد المازوني

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.