فور تنمية
في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة التي يشهدها المغرب والعالم، يبرز جيل Z كظاهرة معقدة تثير أسئلة متعددة حول الوعي، والهوية، والعلاقة بالسياسة، وبالمدرسة، وبالثقافة الرقمية الجديدة. هذا الجيل الذي وُلد في زمن الصورة والسرعة، يعبّر اليوم عن ذاته بوسائل غير تقليدية، من الاحتجاج الرقمي إلى ثقافة المانغا والفانتازيا والراب، في تفاعل متشابك بين المحلي والعالمي.
لفهم هذه الديناميات، نحاور الباحث،فوزي بوخريص أستاذ السوسيولوجيا والانثروبولوجيا بشعبة الأنثروبولوجيا بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل القنيطرة. الذي راكم دراسات وكتابات تحليلية رصينة حول قضايا الشباب والتحولات الثقافية والتربوية بالمغرب. من خلال هذا الحوار، نحاول استكشاف رؤيته النقدية لاحتجاجات جيل Z، وعلاقتها بأزمة المدرسة والثقافة، وبالتحولات العميقة التي تطبع علاقة الأجيال الجديدة بالعالم الرقمي، وبالفضاء العمومي، وبالسياسة نفسها.
حاوره :خالد سلامة
س : بداية كيف يمكن أن نفهم جيل Z في ضوء التحول الذي طال مفهوم “الجيل” نفسه، خاصة في زمن تداخلت فيه العوالم الرقمية مع التجارب الحياتية للأفراد، إلى حد أن أبناء الأسرة الواحدة باتوا ينتمون إلى أجيال مختلفة في التفكير والتمثل والتواصل؟
بوخريص : تجب الإشارة أولا إلى أن مفهوم “الجيل” نفسه يحتاج إلى توضيح. فالجيل عرف تغيرا جوهريا. في السابق، كان التمييز قائماً بين جيل الراشدين وجيل الذين لم يبلغوا بعد سن الرشد. وهكذا كان جيلان يتفاعلان داخل المجتمع على مدى زمني مهم نسبيا. غير أن تسارع وتيرة مجتمعاتنا على جميع الأصعدة قد قلب هذه المقاربة رأساً على عقب: إذ تقلّصت مدة الجيل. واليوم، داخل الأسرة الواحدة، لا ينتمي الابن في الثانية والعشرين من عمره، وأخويه البالغين على التوالي السادسة عشرة، والثامنة، إلى الجيل ذاته!
و يلاحظ الآباء اليوم مدى التحوّل المذهل في مواقف أبنائهم، وفي اختلاف أساليب تفكيرهم، وطرائق عيشهم، ورؤيتهم للمستقبل، وتمثلاتهم للحياة ذاتها، وخاصة تغيّر أنماط التفاعل بينهم، إلى حد الحديث عن قطيعة بين الأجيال…
من الناحية الرمزية، يُعد “جيل Z” أول جيل بأكمله يولد في أحضان العالم الرقمي، جيل لم يعرف مطلقاً عالم ما قبل الإنترنت. جيل يتقاسم أفراده ثقافة رقمية مشتركة، معولمة وتعاونية. يتميز هذا الجيل بالبحث عن أجوبته في تفاعلاته مع أقرانه، ولا سيما عبر شبكات التواصل الاجتماعي. فهذا الجيل يواجه العالم مواجهة مباشرة، دون توسط الراشدين ووصايتهم، وبعيدا عن أي علاقة عمودية…
كما يتميز جيل “زد” عن الجيل الذي سبقه، بانجذاب كبير إلى المؤثّرين على غيرهم(النجوم، والسياسيين…الخ)، سواء كانوا على فيسبوك أو يوتيوب أو إنستغرام أو تويتر…
ويتعين الانتباه إلى أن شباب “جيل زد” ليسوا جماعة متجانسة، لا اجتماعيًا ولا سياسيًا. وقد بدا واضحا في خضم احتجاجاتهم بأن نوعية وزخم الفعل الجماعي للشباب المتمدرس، وخصوصا الطلبة(رمزية وسخرية وتمرير رسائل….الخ) مختلف عن أشكال الفعل الجماعي للشباب الذي يعيش حالة هشاشة و تدهورا اجتماعيا(خطاب مباشر وعنف وتخريب…الخ).
وهنا نشير إلى أن رؤية الصحافة والإعلام والرأي العام لجيل زد غلب عليها طابع التجانس والتطابق، والحال أننا أمام ملامح صورة لجيل “زد” يطبعها التعدد والتنوع، إذ يعيش الشباب المعني، تنوعًا في أوضاعهم السوسيو-اقتصادية والدراسية ورساميلهم الثقافية. صورة أشبه بفسيفساء من التطلعات والمشاريع، قد تتقاطع أحيانًا وقد تتباعد. صورة لا بد أن تبقى غير مكتملة، لأن تتبع الشباب يعني أيضًا تتبع قدرتهم على الابتكار، والارتداد، وخلق اللامتوقع…
س : إلى أي حد يمكن اعتبار المطالب التي يرفعها جيل Z في المغرب تعبيرًا عن وعيٍ جِيلي مستقل، أم أنها امتدادٌ لمطالب اجتماعية شاملة تُعبّر عن أزمة وطنية أكثر منها شبابية، في ظل تآكل الوسائط التقليدية للعَرْض النضالي وفقدان الثقة في القنوات السياسية والمؤسساتية القائمة؟
بوخريص : فعلا من الأسئلة المهمة المغيبة عند التفكير في احتجاجات هذا الجيل، سؤال: هل المطالب التي يرفعها هذا الجيل نابعة من واقعه الشبابي؟
لكن كما يعلم الجميع المطالب التي يحملها هذا الجيل هي مطالب اجتماعية: الصحة والتعليم ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، الخ. الأمر يتعلق بمطالب لا تخرج عن دائرة العرض النضالي المتوفر سياسيا ونقابيا ومدنيا.
فهل العرض النضالي الوطني لم يعد يستجيب لانتظارات هذا الجيل؟
أم أن الشكل الذي تطرح به هذه المطالب الاجتماعية إلى حد اليوم، والطريقة التي يدار بها التفاوض والصراع حولها، وطبيعة الفاعلين الذي يقدمون أنفسهم مدافعين عن هذه المطالب(أحزاب ونقابات وجمعيات…)…هل كل ذلك، لا يرضي جيل زد، ولا يستجيب لانتظاراته؟
إن المتتبع لمطالب حركة “جيل زد” لا يمكن إلا أن يصطدم بالمفارقة التالية: فالشباب يصنع الحدث بحركته الاحتجاجية الواسعة ، وأشكال تعبئته المدنية، الافتراضية(ديسكورد…) والواقعية، من خلال النزول بالآلاف إلى الشوارع والساحات في المدن الكبرى والصغرى، في مراكز المدن وهوامشها…الخ، لكن هؤلاء الشباب لا يتحركون باعتبارهم شبابا، بل باعتبارهم يمثلون المطالب الاجتماعية لكل المغاربة أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا، نساء ورجالا. فالأمر نفسه حصل مع حركة عشرين فبراير، ومع الحراكات الاجتماعية في جرادة وفكيك وآيت بوكماز أو غيرها، التي كان الشباب محركها وقلبها النابض.
فرغم وسم الحركة ب”جيل زد”، فعلى مستوى مطالبها لا يحضر موضوع الشباب كجيل بمتطلباته وانتظاراته، بل تحضر مشكلات الوطن بكامل تعقيدها، وهذا يجعل هذه الحركة تختلف عن بعض حركات الشباب التي عرفتها بلادنا، بالمعنى الحصري لكلمة “شباب” مثل حركة المعطلين، طلبة الطب….الخ.
لكن من جانب آخر، طبيعي أن تعبر احتجاجات جيل زيد عن مطالب المجتمع ككل، وليس عن مطالب الشباب فقط، بالنظر إلى ما يمثله الشباب بالنسبة لكل مجتمع، فالشباب كما اعتبرت آن ميكسيل، عمرٌ وزمن من الحياة، وهو أيضًا حالة تعكس صورة المجتمع، بآماله وتعطيلاته، بتطلعاته وانسدادات آفاقه ( Anne Muxel، 2018)…
فعلى الرغم من القيمة الرمزية التي تمنح للشباب في مجتمعنا اليوم، باعتبارهم المستقبل وبصفتهم صناع الابتكار والابداع والتقدم . إلا أنه لا يشفع للشباب قيمتهم الرمزية المثمنة وأهميتهم الديموغرافية، التي يزداد الرهان عليها حتى في ظل تراجع أعدادهم… ذلك
علاوة على أن الشباب هم الضحايا الأبرز للسياسات العمومية المنتهجة، الموجهة بمنطق اقتصاد السوق. فكما كشف إمانويل طود Emmanuel Todd ، يؤدي اقتصاد السوق إلى تدهور المستوى المعاشي للشباب في كل مكان في العالم، خصوصا في بلدنا الذي تتعزز فيه آليات اقتصاد السوق بالريع والزبونية والفساد…والنتيجة هي إقصاء الشباب والدفع بهم نحو الهشاشة (البطالة) أو في أحسن الأحوال نحو الوظائف والمهن الدنيا…الخ.
وكما يوضح عالم الاجتماع لويس شوفيل Louis Chauvel ، في ظل الاقتصاد النيوليبرالي صارت للشباب قيمة أقل مما للفئات الأخرى، إذ يشعر الشباب نسبيا بأنهم متخلى عنهم ومتروكين لأشغال “السخرة”. فاقتصاد السوق يسحق الشباب، ويجهز على حقهم في الشغل الكريم والمنصف، وعلى حقوقهم في الترفيه والاستهلاك والحركة…الخ.. طبعا، نسبة قليلة فقط من الشباب الحاملين لشهادات من المؤسسات التعليمية الخاصة أو الأجنبية المرموقة، والذين يسميهم بورديو وباسرون “الورثة”، هم في منأى من ميكانيزم التفقير هذا…
س : في ضوء التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المغرب، إلى أي مدى يمكن اعتبار خروج جيل Z إلى الشارع نتيجةً حتمية لمسار طويل من التفاوتات البنيوية، وفشل السياسات العمومية في الاستجابة لتطلعات الشباب في العدالة الاجتماعية والكرامة الاقتصادية؟
بوخريص : طبعا لا يمكن لنا والحال كذلك أن نستغرب لاندلاع احتجاجات “جيل زيد” ، ربما يجدر الاستغراب لتأخر تفجر الاحتجاجات إلى اليوم، لاعتبارات أهمها:
أولا – ما ورد في خطاب ملك البلاد الأخير الذي أقر بأن المغرب يسير تنمويا “بسرعتين”، فطالب بتنمية شاملة ومتوازنة تستجيب لطموحات جميع المناطق والمواطنين…
ثانيا- اعتراف حكومة أخنوش، في آخر ولايتها، بالعجز عن إيجاد حلول لمعضلة تشغيل الشباب، بالرغم من البرامج الممولة والميزانيات المرصودة التي لم تحقق الأهداف المتوخاة منها، والتي على العكس، رفعت من نسبة بطالة الشباب وعمقت أشكال التشغيل الهش في صفوفهم، كما رصدت معطيات المندوبية السامية للتخطيط…
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مسلسل الاجهاز على الحقوق الأساسية للشباب، المقترن بتعزيز دعائم اقتصاد السوق وتوسيع مداه ليشمل القطاعات الحيوية(التعليم والصحة…)، لم يبدأ مع حكومة أخنوش، فمع حكومة العدالة والتنمية بلغت سيرورة تعزيز اقتصاد السوق مستويات قياسية(تحرير أسعار المواد الأساسية(المحروقات…الخ)، الترخيص للجامعات الخاصة، سن التوظيف بالتعاقد. الخ)، ودعم الخوصصة لاسيما في مجالي الصحة والتعليم، فطبيعي أن يكون الشباب في المغرب أولى ضحايا هذه السيرورة…
س : هل يمكن قراءة احتجاجات جيل Z كعلامة على ولادة شكل جديد من الوعي السياسي لدى الشباب، يقوم على المشاركة الرقمية والتعبئة الأفقية والسخرية كأداة نقدية، بدل القطيعة التي يُفترض تقليديًا بينهم وبين الفعل السياسي المنظم؟
بوخريص : فعلا من الإشكالات التي تطرح نفسها اليوم مع هذه الاحتجاجات الشبابية، اشكال العلاقة المتوترة بين الشباب والسياسة: فهل فعلا شبابنا اليوم غير مسيّسين، ولا مبالين وغير فاعلين في الحقل السياسي؟ أم أنهم فقط يؤمنون ويمارسون أشكالًا جديدة من التسييس وممارسات مغايرة للمواطنة؟
صحيح يتعبِّر بعض فئات الشباب عن عدم اكتراث بالسياسة، وتبدي فئات أخرى شعورا بالإحباط: من عدم الإحساس بالتمثيل من قبل السياسيين الذين يوظّفون الشباب أكثر مما يُحسنون الإصغاء إليهم وإحباط من غياب نقاش سياسي عمومي يرقى إلى مستوى التحدّيات الراهنة. فالشباب على العموم واعون، في مجملهم، بالعالم الذي يعيشون فيه وبانعدام سياسات عمومية حقيقية، تقدم أجوبة مناسبة عن القضايا الملحة التي تشغلهم مثل الصحة والتعليم والتشغيل…
في الماضي، كان التزام الشباب السياسي يستند إلى قيم ومثل أعلى؛ حيث كان المناضلون يجتمعون في إطار تنظيم، وحول نظرية مشتركة، ويكافحون من أجل بزوغ مجتمع جديد. أمّا اليوم فلا وجود لشيء من هذا القبيل. إن الشباب يرفضون الانتساب إلى أحزاب سياسية أو الارتباط بإيديولوجيات عقائدية جاهزة.
الشباب يريدون أن يتكلّموا باسمهم الخاص، ولا يرغبون في الشعور بأنهم تابعون لتنظيم سياسي مثقل بالبيروقراطية والانضباط الجماعي. إنهم لا يريدون منح تفويض مطلق وانتظار ولاية كاملة قبل أن يكون لهم صوت مسموع.
وبتعبير آخر، إن الشباب لا يرفض الالتزام والمشاركة في أشكال التعبئة الجماعية لخدمة القضايا الحيوية للمجتمع. فهم يتميّزون ببراغماتية سياسية( لم تكن لدى أسلافهم)، تجعلهم يتطلعون إلى أشكال جديدة من الالتزام. إنهم يرغبون في التعبئة حول أعمال محدَّدة في الزمان والمكان وملموسة أكثر من الالتزام ببرنامج غالبًا ما يظل غير مُنفَّذ. وعموما لا يملك الشباب صبر المناضلين التقليديين، فهم يتميزون بسرعة التفاعل مع الحدث، والسهولة في استعمال الوسائط الرقمية.
والأجيال الصاعدة، مثل جيل زد، لا تتردد كثيراً على الفضاءات المخصّصة للأنشطة ونقاشات السياسية الكلاسيكية( مثل مقرات الأحزاب السياسيّة) والتي يرتادها أساساً جمهور أكبر سنّاً، ينتمي إلى الفئات الاجتماعيّة-المهنيّة العليا. وحتى على مستوى الفضاءات الرقمية، التي صارت اليوم تتميز بقدرتها الكبيرة على التعبئة وفتح فضاءات للنقاش ولتمرير الأفكار السياسية وحشد الطاقات، فإن الشباب يفضلون عليها شبكات التواصل الاجتماعي، أو منصات خاصة بأنشطتهم الترفيهية (Discord ) مستفيدين بطريقتهم الخاصة، وبفضل تملكهم للكفايات التقنية الرقمية، من كل الموارد التقنية للأنترنيت. فثقافة الانترنيت، تقوم على أنماط أخرى من الفعل السياسي، تفضل التعبئة التفاعلية السريعة، على حساب الالتزام التأملي الانعكاسي الطويل الأمد.
ويمثل ما يسمى ب”الربيع العربي” مثالًا على القوة الجماعية التي يستطيع الشباب حشدها من خلال الاعتماد على شبكات التواصل الاجتماعي.
واليوم يثبت الشباب، وخاصة جيل زد، مرة أخرى هذا التسخير المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي في التعبئة والاحتجاج، وفي قدرتهم على توظيف هذه الإمكانيات الرقمية في الالتفاف على أشكال الضبط والمراقبة الأمنية التقليدية. ورأينا مع توظيف “Discord” كيف أن عملية اتخاذ القرار الجماعي دخلت بعدًا جديدًا مع الديمقراطية المباشرة الرقمية، وكيف تراجع شكل التنظيم العمودي ليفسح المجال للاتصال الأفقي.
ثم مسألة أخرى مهمة، يتعين الانتباه إليها هي أن الدعابة والسخرية لهما موقع حاسم في أنماط التواصل وفي تداول المعلومة لدى الأجيال الصاعدة. إن فن السخرية، بما في ذلك السخرية من الذات، يشكل نموذجًا جديدًا للتنشئة الاجتماعية ولمعرفة العالم المحيط، وللتفاعل معه، بما فيه التفاعل السياسي.
فالأجيال الجديدة تدرك السياسة من خلال عدسة الضحك والسخرية. فهم لا يأخذون أي أمر على محمل الجد، وبالأخص يحولون المؤسسات والسياسات والأشخاص البارزين في الحياة العامّة (السياسيون، النجوم، شخصيات الإعلام) إلى مادة للسخرية.
ولاحظنا جميعا كيف حول الشباب الموقوفين من جيل زد في أول يوم من احتجاجهم، لحظات توقيفهم إلى مشاهد ساخرة، فصاروا يلتقطون صورا جماعية داخل سيارات الشرطة ، سرعان ما يحولونها إلى “ميمزات” les mèmes ويسجلون السطوريات ويبثونها على المباشر. بل إن هناك من المحتجين من أطلق رجال الأمن سراحهم بسبب امتلاء سيارات الأمن، فاقترح أحدهم الركوب واقفا و طالب آخر بتنظيم مسيرة احتجاجية للمطالبة بالزيادة في عدد سيارات الشرطة…
إن شيوع هذه الثقافة الرقمية القائمة على السخرية لدى جيل زد والأجيال الصاعدة، قد توحي بنوع من انعدام الثقة السياسية لدى هذه الأجيال. غير أنّها في الواقع تجسيد لسلوك نقدي تجاه الواقع السياسي، كما يمكن النظر إليها باعتبارها أداة معرفية رفيعة، وخَلاقة للمعاني، وصانعة لتفسيرات وروابط مبتكرة، قد تساهم في تقريب المسافة بينهم كأجيال صاعدة وبين العالم السياسي. وقد أدرك بعض السياسيين، في العديد من بلدان العالم ذلك، فسعوا إلى توظيف آليات الفكاهة لاستمالة الشباب وحثهم على التفاعل مع أفكارهم وأفعالهم…
وإجمالا، ” فكرة عدم تسييس الشباب خاطئة” كما نلاحظ عمليا في الميدان، وكما أكدت عدد من علماء الاجتماع بخصوص تجارب مجتمعية أخرى. فالشباب ليسوا غير مبالين بالحياة السياسية، بل يختارون المساهمة فيها بطريقتهم الخاصة وفي القضايا التي تعنيهم.
وانطلاقا مما سبق ، يتعين على الحكومة والأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية ألا تنتظر قدوم هذا الجيل إليها، وطرقه لأبوابها لاستقطابه وتأطيره والتحاور معه وتعبئته، لأن هذا لن يحدث، بل هي مطالبة بأن تراجع خطاباتها وأدوات عملها لتأخذ بعين الاعتبار خصوصيات ممارسات وتفاعلات هذا العمر من الحياة مع السياسة، بل و كل أعمار الحياة âges de la vie ، كما أوضحت عالمة الاجتماع آن ماكسميل Anne Muxel في كتابها ” السياسة على امتداد العمر La politique au fil de l’âge”، بما في ذلك طبعا تلك الأعمار التي صار لها اليوم حضور وازن في مجتمعنا (المسنين مثلا)، لكنها لم تكشف بعد عن ذاتها سياسيا…
س : إلى أي حد يمكن النظر إلى احتجاجات جيل Z بوصفها امتدادًا لأزمة أعمق تطال المدرسة والثقافة في المغرب، حيث فشلت المؤسسات التربوية في مواكبة التحولات الرقمية والقيمية التي أعادت تشكيل وعي الشباب وذائقتهم الجمالية خارج أسوار التعليم الرسمي؟
بوخريص : فعلا هناك من يرى أنه لا يمكن الفصل بين ما يقع من احتجاجات لجيل زد وبين فشل السياسة العمومية في مجالات التعليم والثقافة والشباب والرياضة، الموجهة لهذه الفئات العمرية الشابة. فهناك من يربط مثلا، وبشكل آلي بين هذا الجيل وبين Les NEET أفراد المجتمع الذين بدون دبلوم ولا تكوين ولا شغل. وهناك من يعتقد أن ما يقع اليوم غير مفصول عن ما حدث قبل سنوات قليلة في المعرض الدولي للكتاب بالرباط من تدافع “مراهقين” و”يافعين” للحصول على توقيع كاتب روايات فانتازيا…
لا شك أن “جيل زد” يرتبط ثقافيا بظهور ثقافة مشتركة جديدة، هي”ثقافة المانغا culture manga “، التي تشمل إضافة إلى ألبومات المانغا، الأشرطة المرسومة عموما BD وعالم الموضة والموسيقى وألعاب الفيديو. الأمر يتعلق بظاهرة عالمية ، ناتجة عن صناعة المانغا التي انطلقت منذ سنوات الستينيات في اليابان والتي اجتاحت العالم ككل، والتي تتميز إضافة إلى نمط إنتاجها، بتنوع العرض، الذي يتيح لكل شخص إيجاد ما يبحث عنه في المانغا، مهما كان جنسه وسنه وذوقه الفني[1]
ولا يمكن فهم شغف الأطفال والمراهقين بثقافة المانغا وبالأشرطة المرسومة وبكتب الفنتازيا، دون استحضار خصوصية ثقافتهم، التي هي بالأساس ثقافة صوت وصورة وعوالم رقمية.
صحيح أن الضحية الأساسية لثقافة الأطفال والمراهقين، الذين لا يقرأون كثيرا اليوم، هي الكتاب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. فعادة لا يقرأ الأطفال والمراهقين الروايات والقصص الطويلة، التي تتطلب صبرا وتركيزا، يفتقر لهما المراهقين والشباب. فمثل هذه النصوص هي مدعاة للملل بالنسبة لهم[2]…
الاحتفاء الكبير جدا الذي تحظى به ألبومات المانغا والأشرطة المرسومة وكتب الفنتازيا في معارض الكتاب الدولية (أجنحة خاصة، حفلات توقيع الإصدارات الجديدة…الخ) من طرف الفنانين ودور النشر وجمهور القراء، خصوصا في المعارض المنظمة في عواصم الثقافية الكبرى (بروكسيل، باريس، نيويورك، طوكيو…الخ)…
والمفارقة هنا أن وزارة الشباب والثقافة والاتصال ببلادنا، ورغم ما يمكن أن يقال عن سياستها ومنهجية تدبيرها، بدأت تنتبه إلى هذه التحولات، بالانفتاح على الإصدارات الجديدة التي تتوجه إلى جيل زد والأجيال الصاعدة عموما، من خلال استضافة حفلات توقيع كتب المؤلفين المفضلين رقميا لدى هذه الفئات (ظاهرة أسامة المسلم وغيره)، كما بدأت تعمل على تصميم فضاءات المعرض بتصورات جـمالية وسينوغرافية وظيفية تستجيب لأذواق جمهور الأطفال والمراهقين والشباب، من خلال إفراد فضاء خاص يحتضن أشهر أعمال ورسومات مبدعي عالم مارفيل، وتنظيم لقاءات مع مبدعي التصميم والتحرير العالميين في دور الأطفال في عالم مارفال ودي سي كوميكس، بل و تنظيم معرض دولي لكتاب الطفل والشباب سنة 2023، يفرد مساحات للأشرطة المرسومة وللألبومات والكتب المنغمسة في عالم الأساطير والأبطال الخارقين،…الخ.
لكن ما يعاب على هذه الإجراءات والمشاريع الرسمية وغيرها(مثل دعم صناعات ألعاب الفيديو ببلادنا)، هو انها غير محكومة برؤية علمية دقيقة وبتصور سياسي متوافق حوله، وغير مسنودة من باقي الفاعلين الآخرين في الحقل الثقافي ببلادنا(كتاب ومبدعون ودور نشر، والفاعلون في مؤسسات التربية والتكوين في مهن الثقافة…الخ)…
أما على مستوى علاقة الثقافة المدرسية بثقافة الأطفال و المراهقين اليوم، فالمؤكد أن المدرسة (ولا حتى الأسرة) لم تعد وحدها المصدر الأساسي لثقافة المتمدرسين. فمن خلال الألعاب والأنشطة الترفيهية، ومواقع الأنترنيت، وأغاني الراب والهيب هوب والأفلام والرسوم المتحركة، والأشرطة المرسومةBD، يستمد المتمدرس الأدوات الثقافية التي تساهم في تشكيل وعيه وتوجيه سلوكاته في المدرسة وفي المجتمع عموما.
زمن التعلم في المدرسة محدود جدا مقارنة مع زمن خارج المدرسة، و مع الأسف السياسة التربوية لا تركز سوى على ما يجري داخل المدرسة، التي يتم تصورها كمجال مغلق ومعزول، أشبه بزاوية أو ضريح sanctuaire ، وتهمل الزمن الحر الذي للأطفال والمراهقين، الذي يشكل “الوجه الخفي من التربية”. أي ما يتواجد في ما وراء حدود المدرسة، في الزمن الذي يقضيه التلميذ قبل التحاقه بالمدرسة، وعند خروجه منها، وبالموازاة معها، وخارجها.. والذي يخضع فيه الطفل والمراهق لمجموعة من التأثيرات وخصوصا تأثيرات العالم الرقمي…الخ.
لهذا نبه عدد من علماء الاجتماع والباحثين في علوم التربية إلى أهمية المدرسة الموازية الرقمية في التربية والتثقيف، والتي بقدر ما تشكل منافسا حقيقة لدور المدرسة الرسمية، بقدر ما تشكل فرصة للتكامل معها. من هنا التحديات المهمة والصعبة المطروحة على أي سياسة تربوية وعلى القائمين عليها، من أجل توظيف واستثمار كل الوسائل والآليات التربوية والثقافية الرقمية التي تنتمي إلى هذه المدرسة الموازية في ما يقدم في المدرسة الرسمية، لأجيال نشأت مع الأنترنيت ومتمكنة من الكفايات التقنية الرقمية…
[1] Jean-Marie Bouissou, Manga. Histoire et univers de la bande dessinée japonaise, éd Philippe Picquier, 3e édition, 2014.
[2] Michel Fize, L’Adolescence, éd FIRST-Gründ, Paris, 2010.