حوار الفكر والبيئة: الباحث منير الحجوجي يقدّم ميلونشون في مواجهة الرأسمالية

فور  تنمية .ترجمة الباحث منير الحجوجي

 

في هذا الحوار، يقدم جون ـ ليك ميلونشون Jean-Luc Mélenchon، اليساري الراديكالي والبرلماني عن منطقة بوش دي رون، ورئيس حزب “فرنسا الأبية” في الجمعية الوطنية، تصوره للإيكولوجيا. ان التفكير في الأرض من الصعب فصله عن الصراع ضد الرأسمالية. لنتابع.

 

مجلة روبورطير: هل تعتبر نفسك إيكولوجيا؟.

جون ـ ليك ميلونشون: بكل أريحية نعم. حتى وإن كان من الممكن تعريف المقولة في قلب فضاء شاسع من التعريفات.

سؤال: ماذا سيكون تعريفك إذن؟.

جواب: كلمة أولا حول مساري. أنا ابن اليسار الأكثر تقليدية، الأكثر انتاجية، معرفيا وسياسيا. كنت مقتنعا جدا بأن تطور القوى الإنتاجية كان هو ما شكل على الدوام مقدمة التقدم الاجتماعي لأنه كان يرفع من كمية الثروات القابلة للتوزيع. لم نكن نتساءل إلا قليلا حول محتوى الحاجيات التي يتوجب إشباعها. أتذكر أني سمعت حججا من قبيل: “يقترح الرأسماليون سيارات مرسيدس من أجل الأغنياء وسيارات بخيلين للفقراء. نحن نوفر المرسيدس للكل”. كان هناك حديث عن مجتمع الاستهلاك للتنديد بالاستلاب الذي يخلقه أكثر مما كان هناك حديث عن التدمير الذي يحدثه. كنت من ضمن الذين كانوا لا يقبلون بالمرة أعمال “نادي روما”. كنا نعتبر تلك الأعمال موالية للرأسماليين، الذين كانوا هنا للتلاعب بعقول الناس وتحبيب بؤسهم لهم. استفاق وعيي لأول مرة وأنا أتعرف على ألان بومبار، الذي كان يثير قضايا عدة حول البيئة.

سؤال: متى كان اللقاء؟.

جواب: المرة الأولى التي بدأت فيها التحدث الى بومبار كانت سنة 1977. بعدها جاء الاحتجاج على النووي. كنت في منطقة الإيسون، حيث توجد هضبة ساكلاي، التي بنيت فوقها مفوضية الطاقة الذرية. كان هناك معارضون كثر للنووي التقليدي.

سؤال: في قلب المفوضية؟.

جواب: نعم. هكذا اشتغلت فكريا مع رجل كان يدافع عن المحطات التي تعمل بالأملاح الذائبة. كانت شخصيات مثل بومبار تعيد النظر في بداهة بالنسبة لمثقف مثلي متخصص في الأدب والفلسفة. كنت غارقا في وهم التقنية القادرة على الوصول الى الكمال المطلق. في الحقيقة، حلول أخرى غير تلك التي كانت مطروحة كانت ممكنة. أخرون كانوا يناقشون خيار الانشطار النووي. مثل هذا الأمر كان يفتح أفاقا أخرى. والجميع كانوا يلتقون في التنديد بأخطار النووي كما كنا نعرفه. لكن أن تكون من اليسار الأول وضد النووي اعتبر في تلك الفترة تناقضا. يجب أيضا ألا نبالغ في قدرة الوعود الدينية على التأثير في البشر، أو في قدوم يوم ينبعث فيه مفهوم سيضيئ حياتنا ويحولها. لم يقع لي هذا الأمر في أي مجال، ولا حتى مع الماركسية، التي شكلت في نظري استمرارا لنصوص طلهارد دو شاردان.

سؤال: هل كنت قرأت طلهارد دو شاردان؟.

جواب. نعم. وبشغف.

سؤال: في أي سن؟.

جواب: لن أجيب. سوف تسخرون كثيرا مني.

سؤال: أبدا. اطلاقا.

جواب: في سن 14-15.

سؤال: وماركس، اكتشفته لاحقا؟.

جواب: نعم، كان الولوج الى ماركس أسهل. أنا أنحدر من وسط كاثوليكي. أقرأ كل المنشورات البابوية، فهي تهمني. لكن لنمر على هذا. لقد أدخل طلهارد دو شاردان التاريخ الى حلقة الايمان. بعدها سيقوم ماركس بفصل التاريخ عن الايمان باعتباره المحرك العفوي للبشر، ما سيجعل المرور من التاريخ الى الايمان – ومن الايمان نحو التاريخ – أقل صعوبة. نفس الشيء اذن فيما يخص الإيكولوجيا، فأنا لم أتأثر بالخطاب الديني، إذ أن وضعيات محددة هي التي هزتني. قادني ماي 68 نحو ماركس، وقادتني تشرنوبل (كارثة 1986. المترجم) الى النووي.  

سؤال: الشيء الذي زعزعك هو النووي، وليس تطورا ما على مستوى منهجية فكرية؟.

جواب: كانت هناك قضية تشرنوبل. فلقد أذاع كل من ميشيل ريفازي و”لجنة البحث والاعلام المستقلة حول الاشعاع” أخبارا أقلقتني حقيقة. كتبت الى السلطات لمعرفة ما يقع. منحوني جوابا اعتبرته سبة في وجه الذكاء: نفس الأجوبة المسكوكة التي قدمت سنتين أو ثلاث سنوات لزملاء أخرين.

وحتى أتمكن من أن أحصل على فكرة أكثر دقة، قمت بزيارة محطة نوجنت – سير – سين. انها المحطة النووية الوحيدة في العالم المشيدة عند رأس النهر الذي يزود العاصمة بالماء!. بعد الزيارة، صعدنا الى السطح، وحتى أكون لطيفا مع الناس الذين كانوا هناك، والذين كانوا مثلما تبين لي غير مرتاحين لما يقع، قلت لهم: “يا سلام، لديكم غابة جميلة، لابد أنها مليئة بالحيوانات!”. فأجابني أحدهم: “نعم نعم، لكن مشكلنا نحن ليس الأيل والظبية، ولكن الأرانب. لأنهم يقضمون من الخيوط الكهربائية”. نظرت اليه. تغير لونه. الجميع تغير لونه. تبين للسيد أنه أطلق حماقة. “أبدا أبدا، لقد وضعنا أسلاكا في العمق، وكل شيء على ما يرام”. ثم غادرنا حاملين معنا خوفنا. فهمت أن هؤلاء الناس لا يتحكمون في الأشياء مثلما يدعون. بإمكان الأرانب أن يهدموا محطة نووية توجد على بعد 50 كيلومتر من العاصمة. هذا هو ما ظهر ذلك اليوم. لا أعرف ما ان كانت الأمور لازالت على حالها أو أنهم قاموا بدفن الأسلاك في عمق أكثر لمنع الأرانب من المرور. لكن هذا هو ما قاله لي ذلك الرجل. انطلاقا من تلك اللحظة بدأت مسارا من التساؤل عما يمكن فعله مكان النووي. بدأت أهتم بالطاقات البديلة. ومع الطاقات البديلة فإنكم تمرون نحو أفكار أخرى. وهنا جاء لقاء فكري أخر، مع ابنتي، المناضلة الإيكو – جمهورية. هكذا بدأت تكويني على يد ابنتي.

سؤال: ابنتك تناضل في إطار جمعية، أليس كذلك؟.

جواب: لا، كانت إيكولوجية في فترة الاعدادي ثم في الثانوي. هي مهتمة، تقرأ، تثير أسئلة. ثم تبين لي الطابع البدائي لما كنت أقوله. وكما يحدث غالبا في العلاقات بين الأباء والأبناء لم نكن ندخل في السجال العقيم، بل كنا نناقش بمنطق الانتباه المضياف، منطق تبادل الأفكار، منطق الحب، باختصار. وحتى ننجح نقاشنا، كان علينا أن نجد حججا جيدة، وعندما كنا لا نجدها، كنا نعترف بأننا أخطأنا. لعبت ابنتي دورا محرضا وهي تدفعني الى القراءة حول هذه المواضيع التي لم أنتبه اليها أبدا. وتحديدا حول الطاقات البديلة والتغذية.

سؤال: من هم مفكرو الإيكولوجيا الذين طبعوا مسارك؟.

جواب: لا أحد. مقالات، أوراق، نعم. لا يمكنني أن أقول بأني أتبع قراءة ممنهجة ولا أستطيع أن أتحدث لكم عن كتاب في الموضوع. قرأت كثيرا، وناقشت كثيرا.

سؤال: إليتش، كورز، جوناس؟.

جواب: كورز، نعم، ولكن بشكل سيء، إلول من بعيد، فيريليو[2] أكثر (أنظر الحوار مع فيريليو في موضع أخر من الكتاب. المترجم). لكن ليبييتز، الذي نظر للبردغم الإيكولوجي تاركا في النهاية ورائه الحركة الاشتراكية، هو من خلخلني في العمق.

سؤال: هل قرأت “منشور لوداطو”؟.

جواب: نعم، بطبيعة الحال.

سؤال: هل منظرك للإيكولوجيا هو البابا فرانسوا؟.

جواب: لم يعلمني البابا شيئا ولكني أبديت اهتماما فعليا لما قال. فالمنشور الذي أذاعه خطير جدا. يضم المنشور أشياء كان بالإمكان نعتها بالمهرطقة لو كان راطزيكر، بونوا 16، البابا السابق، لازال في منصبه. والسبب هو أنه وضع طلهارد دو شاردان ضمن المنشور البابوي. في النهاية، اذن، انتقلت من ورقة الى أخرى. لقد وقع عندي التحول بالضبط في تلك اللحظة. المرة الأولى التي كتبت فيها عن الإيكولوجيا، كان ذلك من أجل مؤتمر الحزب الاشتراكي سنة 2008. أدخلت مفهوم “التخطيط الإيكولوجي”. لأنه في تلك الفترة فهمت عماذا كنا نتحدث – بما في ذلك كرجل جاء من التقليد الاشتراكي ومر عبر ماركس. يتحدث ماركس عن الطبيعة ك “جسد لاعضوي للإنسان”. لا يفصل ماركس الانسان عن الطبيعة. مررت اذن عبر ماركس وفهمت بأن الأمر يتعلق حقا بالإيكولوجيا السياسية. لا يتعلق الأمر بنزعة بيئوية، إذ أن الطبيعة ليست هي ما يتم الدفاع عنها هنا. الإيكولوجيا هي أن نعتبر أن هناك نسقا حيا واحدا متطابقا مع الحياة البشرية. وكان هذا بالنسبة لي هو الجملة المفتاح. نتحدث عن الخيرات المشتركة. الخيرات المشتركة هي تلك التي تسمح ببقاء النسق الحي الوحيد المتطابق مع الحياة البشرية. انطلاقا من هذا، بدأت الأمور تتنظم، تتضح في ذهني.

سؤال: هل كان بإمكانك أن تصل هذا الماركس الى طلهارد دوشاردان؟.

جواب: يغير طلهارد من التصور الحلقي للإيمان. الايمان الأولي الذي كان يدرس لطفل ذي 8 أو 9 سنوات، كما كان الحال معي، هو ايمان حلقي: كل يجري نحو خلاصه، نقطة الى السطر. كل يقوم بأعمال خيرة. ثم يقوم الله بتقييم الخير والشر. لكن طلهارد يضيف نقطة: أنت مسؤول عن اكمال القصة وتنزيل عمل الله على الأرض.

سؤال: انها بشكل ما الماركسية؟.

جواب: هناك بعد تصاعدي، هناك سهم، هناك منحى للتاريخ. لكن ليس هناك معنى للتاريخ. هناك فقط اتجاهات ممكنة. في المادية التاريخية كما أعدت قراءتها – وهذه من الأشياء التي قادتني نحو الحديث عن “نزعة إنسية جديدة”- الكائنات البشرية مسؤولة عن إتمام تاريخها. نعيد هنا نحو الواجهة مسؤولية لم تكن موجودة. كانت الطبيعة مجرد موضوع منذور للهيمنة، للغزو. والأن، أتكلم عن انسجام بالمعنى المادي: توافق الأزمنة. انطلاقا من هذا، دخلت الى الحكومي الملموس مع التخطيط الإيكولوجي.

هناك الكلمة المستفزة، التي أعشقها: كلمة “تخطيط”. لو كنت فقط قلت: “لدي نقاط مشتركة مع الإيكولوجيين”، لقالوا: “مهم جدا لكن هذا لا يهمنا بالمرة”. لكن الحديث عن تخطيط يعني الحديث عن تفعيل ملموس. التخطيط هو التحكم في الزمن، تحكم الكائنات البشرية في الزمن، الذي هو البعد الخفي واللامادي للواقع الاجتماعي، بما في ذلك الواقع السياسي.

سترون لماذا وكيف سنمر من الزمن الى الإيكولوجيا. هناك برمطران يحركان التاريخ. الأول، هو بنية الزمن كخاصية للعالم الاجتماعي وليس كخلفية مجردة. هنا نقلت فكرة سطيفين هوكنغ الى العالم الاجتماعي. انطلاقا من هذا، يتشكل عندكم تصور خصب حول فهم الزمن، الذي لن يكون في العمق، بالنسبة لمعتنق النزعة المادية، شيئا أخر غير مجموع ايقاعات. البرمطر الثاني هو عدد الكائنات البشرية. يتم توصيف الزمن باعتباره مدار الكوكب حول الشمس. وما دمنا في قلب حضارة زراعية، فهذا له معنى، هو المعنى الذي يتوافق مع النظام الاجتماعي. لكن القطائع التقنية الكبرى التي تسمح بتطور عدد السكان لم تعد لها علاقة بالدورات حول الشمس، ان علاقتها الجديدة هي الأن مع كتلة الكائنات البشرية. ان العدد (بضم العين)، وتدقيقا تشعبات العدد، هي البرمطر المركزي في دينامية تاريخية لا يشكل صراع الطبقات الا مقولة ثانوية ضمنها. حتى يكون هناك صراع طبقات، يجب أن يكون هناك تراكم، ومن أجل هذا يجب أن ننجح في تحقيق تراكم. اذن، يجب أن يكون هناك أصلا عدد معين من الكائنات البشرية.

لقد شرحت هذا في كتابي عصر الشعب L’ère….. ، المنشور سنة 2014. خلاصتي كانت أنه في كل مرة تضاعف فيها البشرية من عددها، تقوم في نفس الأن بتغيير نظامها الاجتماعي وحضارتها.

سؤال: الزمن برمطر موجه (بكسر الجيم. المترجم) اذن؟.

جواب: انتظر. يقود برمطر الزمن الى التساؤل عما نبحث عنه. هل هو الانسجام؟ الانسجام، قد يظهر هذا أمرا ميتافيزيقيا. لكن لا. الانسجام هو توافق حلقات الزمن. وهو ما يقودنا الى الإيكولوجيا.

سؤال: ما هي حلقات الزمن؟.

جواب: هناك زمن الافتراس ثم زمن إعادة تشكيل – انطلاقا مما توفره وسائل الطبيعة – ما قمنا بانتزاعه من الطبيعة. وهذا يفترض أو يقود نحو مفهوم جديد: هو مفهوم التشعب، عوض مفهوم الثورة. ونحن نغير برمطرا في المسار العام يمكن لدينامية التاريخ أن تغير مسارها كليا. تضعني هذه الأفكار الثلاثة على أرض الإيكولوجيا السياسية، ولكن من زاوية مادية.

سؤال: الزمن، العدد و….؟.

جواب: والديناميات التي تفعل في قلب التاريخ. هكذا ولجت مجال التخطيط الإيكولوجي. بعدها، أحسست بأني قادر على الانطلاق من المفاهيم الأساسية للإيكولوجيا السياسية: مواردنا المشتركة، الوحدة غير القابلة للكسر بين الانسان/الطبيعة. كتبت الصيف الفارط نصا حول النزعة الإنسية، حاولت فيه أن أبين الرابط الموجود في التاريخ بين الفكر الإيكولوجي وتيار الأنوار القديم. ننطلق هنا من مركزية الكائن البشري، وهو ما لا يناقض الفكر الإيكولوجي، بما أن الطبيعة تتوقف، في الوقت ذاته، على أن تكون موضوعا لتصبح جزءا لا يتجزأ من السيرورة الشاملة. لم يعد الانسان يتفكر نفسه في علاقته بنفسه ولكن في علاقته بالطبيعة. ومادام لم يعثر على شروط، على مفاتيح تحقيق الانسجام، أي على توافق الأزمنة والحلقات، فسيعيش في تناقض مع النمط الذي مكنه من التطور على حساب قدرته على التأقلم.

في الثلاثين سنة الفارطة تضاعفت الساكنة العالمية، وهي تستمر في التكاثر. لذلك فان الرهان هو التثوير الجذري للنمط الحالي للإنتاج وللاستهلاك. لكن حذار، فقضية الاستهلاك ليست شيئا ثانويا. فللكائن البشري ذاته حاجيات مشروطة ثقافيا – ورأسمالية عصرنا تعلمنا هذا أفضل من أية فترة في التاريخ. إذا لم نثور هذا النمط في الانتاج والاستهلاك، فان الكارثة آتية لاريب فيها. من الممكن أن نتدخل في كل الحالات، لكن الكارثة قد ترسلنا جميعا الى الحائط، فرديا وجماعيا.

سؤال: كيف تواجه الكارثة الإيكولوجية المفترضة؟. 

جواب: عبر الثورة المواطنة. الفكرة هي أن يستعيد البشر التحكم في مصيرهم. يقوم النسق باستلابنا، بمعنى أنه يحمل الأفراد المسؤولية عن وضعيتهم حتى يجعلهم يقبلونها. من هنا أهمية نسق الإعلام. تعلمنا التربية أن نكون مستقلين، والإعلام، على هذا المستوى، يسمح لنا بالتوفر على المادة من أجل التفكير. لكننا اليوم لا نتوفر، على المستوى الجماهيري، على المواد من أجل التفكير. لدينا أدوات تواصل جماهيرية، بطبيعة الحال. هناك أيضا بوادر مقاومة تحاول أن تبقي على المشعل للأسف في اتجاه أخر. لكن الظلامية الحالية هي أكبر من الظلامية الدينية. الظلامية الدينية هي مرة واحدة في الأسبوع، مع طقس الصلاة في الكنيسة، أما ظلامية الاشهار ووسائل الاتصال، فهي تعمل كل يوم، كل الساعات، على طول الوقت.

سؤال: تثوير أنماط الإنتاج والاستهلاك لتفادي الكارثة، ماذا يعني هذا بشكل ملموس: التقشف، العفة؟.

جواب: واحد، أن نوقف النووي. يجب خلق مصادر أخرى للطاقة. بعدها لا يمكن أن نستمر في أكل أشياء تمرضنا. كيف يتم حل هذا المشكل؟ بأشياء بسيطة: مثلا، برمجة طعام بيو مئة بالمئة في المطاعم المدرسية. الألية الاقتصادية الأساسية ستكون هي إعادة الاستثمار المرحل الى البلد. كل ما يمكن إعادته يجب إعادته. ثم التقليص من المساحات التي تصمد أمام ماء السقي. اذن يجب العمل بشكل مختلف.

باختصار، نأخذ الأشياء واحدة تلو الأخرى، نأخذها من جانبها الملموس. هكذا نسائل الجوانب الملموسة للمنطق الكلي للنسق. فتصبح المعركة السياسية معركة ثقافية. الرهان هو إطلاق علاج تطهيري كبير. ويجب القيام بذلك بهدوء وبشكل منهجي.

لكننا لن نذهب عند الناس لنقول لهم بأن هذه المتعة أو تلك هي من الأن فصاعدا ممنوعة. لا يمكن للعفة أن تكون أمرا فوقيا. العفة هدف، لكنها لا يمكن أن تكون أمرا.

ان العنصر الأساسي للخروج من النووي هو التقليص القوي من استهلاك الطاقة. كيف يمكننا أن نخرج من النووي إذا لم نقل بأنه لابد من التقليص بشكل كبير من استهلاك الكهرباء؟.

سنبدأ بالقول بأنه يجب أن تكون لدينا طاقة بديلة حتى نستعملها بسرعة كبيرة. يجب أن نغير التشريع ونشرح للناس لماذا. لأن هناك استعجال، لأن النووي خطير. بعدها سنقول: “أيها الأصدقاء، لابد أن ينزل البعض ويصعد البعض الأخر. لابد من تقليص استهلاك الكهرباء”. سنتناول الأمر بشكل ملموس استنادا الى المصلحة العامة. تتطلب الثورة المواطنة شعبا ثوريا مواطنا.

سؤال: هل هناك تخطيط إيكولوجي فيما يخص تقليص استهلاك الطاقة؟.

جواب: طبعا، لأن جزءا معتبرا من استهلاك الطاقة هو عبثي تماما. لكن يجب ترك كل الملفات مفتوحة. لا يجب أن نبدأ بما يثير سخط الجميع. على الإيكولوجيا أن تكون محفزة على العمل، على طرق أخرى للعيش. هكذا سيمكننا أن نكسب أغلب الناس وندفعهم الى الحسم لفائدة الصالح العام. سنقوم بتفكيك النووي بمساعدة مهندسي النووي.

سؤال: عبر التقنية. التقنية هي ميتافيزيقيتك بمعنى ما…

جواب: لا لا.

سؤال: سنستعمل كلمات أخرى: “عمل الانسان”…

جواب: لا لا لا. هذا أمر يتجاوز الفيزياء، وليس عندي الكثير من هذا. ما عدا نوع من الاعجاب الصوفي بالنسق الكبير وألياته العجيبة جدا في الدمج. لكن ليس لدي ميتافيزيقا خاصة بالتقنية، الأمر مختلف.

سؤال: قلت بأنه من الصعب الحديث عن العفة. ولكن، عموما، أليس من الممكن أن نقول لساكنة الدول الغنية كفرنسا: “إذا أردتم تفادي الكارثة، علينا حقا أن نغير أنماطنا في الاستهلاك. اذن علينا أن نقلص من الاستهلاك”. هل يمكننا أن نقول هذا؟.

جواب: فلنقم اذن بهذا الأمر إذا كنا نريد أن نضع أنفسنا في وضعية تلحق الضرر بنا. لا يجب القيام بذلك بهذه الطريقة. يجب بالأحرى رسم خط للأفق الذي نأمله. أقول في المدارس الكبرى حيث أنشط بعض المحاضرات: “أدرسوا جيدا لأننا سنحتاجكم، لأنه يتوجب وقف هذا الأمر أو ذاك من أجل شيء مختلف”. مثال أخر: تريدون فلاحة قروية وبيو؟ جميل جدا. يجب التوفر على 400000 قروي جديد. من الضروري أن يكون هناك محرك، منفعة تحرك الناس. يجب اثارة رغبة الناس في التملك الجماعي، وهي الرغبة التي لا بد لها أن تمر عبر مواجهة ثقافية مع أنماط الحياة، مع طرقنا في العيش. لهذا السبب يسمى هذا “ثورة”، لأننا سنغير نظام الملكية في بعض المجالات. تغيير تراتبية المعايير. تغيير القيم المهيمنة للمجتمع. لكن يجب أن يستند كل هذا على رغبة، على ارادة، على حماس. أنا متيقن من أن شبان هذا البلد، وهم من ضمن الأكثر حيوية ونشاطا في أوروبا، مستعدون لهذا الأمر.

سؤال: تستمر الساكنة العالمية في التكاثر، وتحديدا في افريقيا. ما هي الانعكاسات الملموسة لهذا التكاثر على عالم القرن 21؟.

جواب: الكائنات البشرية دائمة التنقل سعيا وراء اعمار الفضاء. أكثر من نصف البشرية وصلوا عبر البحر. المرحلة اللاحقة هي إعمار ل 70 بالمئة من الكوكب التي يشكلها البحر. لقد ولج البشر البحر: انهم يقومون بالحفر، يستخرجون البترول، يرمون بالأزبال. انه الموضوع الملموس القادم: انهم في طريقهم الى ولوج البحر.

سؤال: انها في نهاية المطاف مسألة الهجرة؟.

جواب: هي مسألة شاملة. النوع البشري نوع اكتساحي، نوع يعمر كل الفضاءات التي يجد أمامه. يجب اذن العمل على تشعيب دينامية التاريخ. التشعيب هو تغيير واحد من مجموع البرمطرات. بإمكاننا تغيير مسار البشرية ان كان محركنا المركزي هي إرادة تحقيق الانسجام مع الطبيعة.

أنا قلق جدا من كوننا وصلنا الى المحطة الأخيرة وكوننا عاجزين عن اختراقها، كما حصل مع الإمبراطورية الرومانية، التي انهارت على نفسها. لقد كانت امبراطورية محلية. اليوم، نحن نشكل امبراطورية شاملة. إذا ما تركتم الأمور تسير على هذا النحو لمدة 100 سنة، لن يبقى هناك أي أحد.

سؤال: نحن هنا أمام خطر إيكولوجي حقيقي.

جواب: نعم. لكن ليس بمقدوري الكلام بهذا الشكل لأن مثل هذا الكلام يشل التحرك، يكزز الرأس. الخوف لا يساعد على الرغبة في التقدم. ليس مما يساعد على تحفيز الناس.

سؤال: من أجل الختم، سؤالان خاصان بالمستجدات الإيكولوجية. ما هو مستقبل الحركة البيئية المسماة “زاد” (المناطق التي يتوجب الدفاع عنها. المترجم) لمنطقة نوطرودام دي لاند؟.

جواب: نحن هنا أمام خليط ثقافي لابد وأنه سيفرز شيئا ما. سيفرز أولا “زادات” أخرى. ليس هناك انتصارات كبرى في هذه اللحظة. سيكون اذن لهذا الانتصار وقع ما. ووقعه فيما يخص المشاريع الكبرى التي لا فائدة منها سيكون هائلا. كثير من الناس يشعرون الأن بأنهم قادرون على أن يقولوا: “ولكن لماذا نقوم بهذا؟ لماذا هنا؟ أه، سنربح ربع ساعة سفر؟ ولأجل ماذا من فضلك؟”.

النقطة الأخرى التي تهمني هي سيرورة التنظم الذاتي داخل حركة “زاد”. اليوم، يفرض المجتمع اللبرالي تراجعات مستمرة في القانون وفي الحقوق الجماعية موازاة مع النفخ في الحقوق الفردية والخاصة، التي تذهب دوما نحو خدمة من هم الأكثر قوة. بدأت الحركة العمالية فجأة في سياق تفجر إرادة راغبة في تملك الحقوق الجماعية في قلب فضاء لم تكن تحضر فيه هذه الحقوق، هو فضاء المقاولة. ونحن نلاحظ نفس الشيء هنا: الحقوق الإيكولوجية تتقدم بالنضال. عندما نفرض حقوقا إيكولوجية، فإننا نفرض، في الوقت ذاته، حقوقا إنسانية.

سؤال: ماذا عن التنظم الذاتي؟.

جواب: يخلق التنظم الذاتي نمطا جديدا من النضال من أجل الحقوق. بطبيعة الحال، لازال الأمر في مرحلة تجريبية، لازال محليا، وهناك انتقادات كثيرة يتوجب القيام بها. لكن أمورا تتفجر أمامنا. نحن أمام واقع ينتج ذاته بذاته، أمام انبثاق واقع جديد. ونحن في حركة “فرنسا الأبية” نريد إذاعة هذا الأمر. ان التنظم الذاتي للجماهير هو ما ينتج الظواهر الثورية.

في السابق كان يقال بأن المجتمع البورجوازي خلق داخل المجتمع الفيودالي، من قلب الحواجز الفيودالية. الحركة العمالية انسلت الى المجتمع الرأسمالي، مع التعاضديات، التعاونيات، النقابات، وكانت تأمل في أن تصبح موحدة. اليوم نحن نفتقد الى فاعل تاريخي. الشعب؟ عليه أن يظهر. كيف؟ في أية صيغة؟ عبر التنظم الذاتي.

سؤال: المستجد الأخر للإيكولوجيا هو مشروع دفن النفايات النووية (مشروع “بور”). ما رأيك؟.

جواب: ان ما يقترح (بضم الياء) علينا ليس معقولا. الدفن في موقع بور ليس معقولا أبدا. انهم يريدون حفر ثقب ليضعوا فيه نفايات حتى لا يروها أبدا. هذا دون أن يطرحوا على أنفسهم سؤال معرفة ما الذي سيحدث مع النفايات وهي في العمق بعد 20000 سنة؟. الأمر ليس معقولا، لا يجب بالتالي القيام بذلك. ويبقى السؤال: ماذا سنفعل بالنفايات؟. إذا ما استمرينا في استعمال النووي، سنستمر بالضرورة في صناعة نفايات لا نعرف ماذا نفعل بها. من هنا استعجال وقف النووي. والا فسيكون لنا الإحساس بأننا نبحر من غباء الى أخر. الدفن؟ إقامة أحواض؟ لا أحد يعرف هنا أيضا كيف ستتطور مثل هذه الأمور. اذن يجب أولا وقف النووي من أجل وقف النفايات. المشكل أنه، وفي غياب دراسة أساسية، ليس هناك أي حل لتدبير النفايات.

 

[1] العنوان الأصلي للحوار هو: “مهمة الإيكولوجيا أن تحفزنا على الفعل، لا أن تعطي الأوامر”.. نشر الحوار في عدد يوم 12 مارس 2018 من مجلة Reporterre. من إصدارات ميلونشون: Le choix de l’insoumission..

[2]  أسماء كثيرة وقوية غائبة عن الكتاب.. الى موعد لاحق بدون أي شك.. (المترجم).

Comments (0)
Add Comment