فور تنمية : ترجمة الباحث منير الحجوجي الوردي
“ليس من الضروري أن نصاب بالسرطان حتى نبدأ بأخذ حياتنا بجدية، باستشعار جمالها. على العكس: بقدر ما نكون قريبين من قيمنا ومن الجمال النابض للوجود، بقدر ما نمنح لأنفسنا حظوظا أكبر حتى نبقى خارج دائرة الإصابة بالمرض، وأيضا حتى نستمتع بشكل كامل بمرورنا فوق الأرض”[2]..
طرحت قضية المعنى عند دافيد سرفان – شريبرDavid Servan-Schreiber عندما انتقل فجأة من وضع الطبيب والعالم إلى وضع المريض. لم يعد المرض ذلك الموضوع قيد الدراسة الخارجية، ولكنه أصبح حقا ذلك البعد الحميمي، الشخصي، الذاتي لحياته نفسها.
لكن دافيد سرفان-شريبر ظل طبيبا وظل البحث الأساسي أحد مجالات انشغاله. بل إنه وهو في قلب مسار فهم هذا المرض الذي هو السرطان سيوسع من وعيه بالحلقة الحية. بالفعل، سيكتشف أن بعض أنواع الأمراض، وبعض صنوف المعاناة، هي شديدة الصلة بتدهور المحيط، بفعل، بشكل خاص، مختلف مخلفات تلويث الماء، والغذاء، والجو، وأيضا التلويث الناتج عن أدوات البناء التي جائت بها الثورة العلمية والتقنية (أنترنيت، الهاتف المتنقل، الخ..).
إن هذا البعد المزدوج – المعرفة الأكاديمية والتحمس للخير- هو الذي يوجد في أصل هذه الإرادة في اقتسام مكاسب البحث العلمي ضد السرطان مع أكبر عدد من الناس. يلتقي نضاله الشخصي ضد المرض مع نضال مئات الآلاف في كل القارات. وتريد كتبه استشفاء Guérir (2003) والحرب على السرطان Anti…. (2007) أو أيضا موقعه الخاص guérir.org أن تكون أدوات في خدمة تحالف العلم والتحمس للخير والإيكولوجيا.
سيختفي شريبر سنة 2011 جراء مضاعفات السرطان.
سؤال: من ضمن المخلفات العديدة للأزمة البيئية على الصحة العمومية، هناك على ما يبدو ظهور وتطور السرطان. وتشكل العلاقة بين السرطان والوسط البيئي موضوع سجال داخل المجموعة الطبية. هل يمكنك أن ترسم لنا صورة عن واقع حال القضية؟.
دافيد سرفان ـ شريبر: أعتقد أنه يتوجب أن نكون صارمين جدا عندما نتناول الأسباب البيئية للسرطانات. عندما تتحدثون عن سجال حول هذه القضية الهامة، فأنتم تحيلون بطبيعة الحال إلى أراء “المعهد العلمي للدراسات والأبحاث الطبية” و”أكاديمية الطب” والعديد من المنشورات الطبية. سآخذ مثال المبيدات المسؤولة بشكل واسع عن تدهور جودة الأوساط الطبيعية والزراعة. ففي شتنبر من سنة 2007، صرحت أكاديمية الطب بأن المبيدات (ومواد أخرى شبيهة بها) “ليست مسرطنة”. ماذا يجب أن نقول بصدد هذا الموقف؟ يبدو لي أنه يتوجب علينا أن نتفهمه ونفهم أننا لا نعين مادة باعتبارها “مسرطنة” إلا إذا كانت قادرة، ولوحدها، على إطلاق تحولات تسبب الورم. مثلا، في حالة التبغ أو الأسبستوس نحن نوجد بوضوح أمام جزيئات قادرة على إطلاق أورام سرطانية. ولكن، وبالعودة إلى المبيدات، فهي ليست من هذا النوع. بعبارة أخرى، ليست المبيدات، لوحدها، ما يحرض على السرطانات. هذا لا يعني، انطلاقا من هذا المعطى، أن ليس هناك أية علاقة بين المبيدات والسرطان، يجب فقط موقعتها على مستوى أخر. إذا كانت المبيدات لا تنتج تحولات جينية، على مستوى الحمض النووي والخلايا، فهي قادرة على العكس من ذلك على تحفيز نمو الأورام التي تتسبب فيها عوامل أخرى. موقفي العلمي هو أن المبيدات تساهم في ظهور السرطانات، التي كان من الممكن، في ظروف أخرى، لجمها من طرف المقاومات الطبيعية للجسم. ما نقوله حول المبيدات يصح أيضا على السكريات المصنعة أو الزيوت النباتية الغنية بمادة الأوميغا 6. فهذه المنتوجات ليست مسرطنة في حد ذاتها، ولكنها قادرة على تغذية تقدم سرطانات صغرى موجودة وتمكينها من “تجاوز” بمعنى ما المقاومات الطبيعية للجهاز العضوي. علينا إذن – حتى يكون موثوق بنا من الناحية العلمية – أن نميز وبقوة بين منتوج “مسرطن” ومنتوج محفز على سرطان موجود.
سؤال: إذا كانت الأوساط الزراعية الطبيعية قد أشبعت مبيدات، بسبب سطوة نموذجنا الزراعي الانتاجوي، فإن غذائنا من جهته أثقل بالمواد الحافظة، وبالملونات، وبمواد مصنعة مضافة أخرى. هل لهذا التحول في أنماطنا الغذائية، الأنماط التي تنحو على المستوى الكوكبي لأن تتحول الى نموذج صناعي نمطي وحيد، علاقة بارتفاع السرطانات؟.
جواب: هنا أيضا يجب أن نكون حذرين ونعلم بأن كل السرطانات لا تنتج عن نفس الديناميات الكيميائية، وبأن كل المواد لا تتفاعل فيما بينها بنفس الطريقة. ولكن من الواضح أن تغيير أنماط غذائنا وطهينا وجودة المنتوجات المستهلكة يؤثر ليس على ولادة ولكن على نمو السرطانات. سأوضح ما أقول بتقديم دراسة علمية لباحثين ينتمون للجامعة الوطنية لسيول (كوريا الجنوبية) تم نشرها سنة 2009 في مجلة متخصصة أمريكية[3]. تناولت هذه الدراسة دور بعض المواد الحافظة الموجودة في التغذية الصناعية في تطور سرطان الرئة. ركزت الدراسة اهتمامها على سرطان خاص، سرطان الخلايا الكبرى للرئة، وهو السرطان الأكثر شيوعا والأكثر صعوبة على مستوى العلاج (نسبة البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات لازالت مستقرة في حدود 14 بالمئة). يكشف هذا المقال عن نتائج تجارب تمت على فئران تضمن نظامها الغذائي مواد حافظة تتشكل قاعدتها من فوسفاطات غير عضوية، وذلك بنسبة مشابهة لغذاء إنساني غني بالمواد المحولة. بينت النتائج أن حضور هذه المواد الحافظة يحفز على نمو وتكاثر هذا النوع من السرطانات الرئوية.
سؤال: على ماذا تقوم نقاط الالتقاء بين أعمالك وهذه الدراسة حول تأثير مواد حافظة على سرطان الرئة؟.
جواب: حتى نفهم هذا التقاطع يجب أن نفهم دور “طرق التشوير” داخل الجسم البشري. إن الجسم بحاجة، حتى يشتغل جيدا، إلى أن تتواصل الخلايا فيما بينها. إن هذه التواصلات، التي هي عبارة عن تبادلات للمعلومات، تستعمل “طرقا للتشوير”. تتواصل الخلايا فيما بينها إما عبر مختلف المواد الكيميائية كالهورمونات، أو مباشرة عندما تكون بجانب بعضها البعض. إن مسار نقل المعلومة هو مسار مركب، لأن هذه الأخيرة لا يجب أن تصل فقط إلى سطح الخلية، ولكن عليها أن تلج الدخول إلى هذه الأخيرة حتى تصل إلى قلب “المرسل إليه النهائي”. جينات وبروتينات كثيرة جدا توجد مورطة في طرق التشوير. نعلم أن أكثر من 90 بالمئة من سرطانات الرئة مرتبطة بتشغيل واحدة من طرق التشوير، وهو التشغيل الذي يحفزه بقوة حضور تلك الفوسفاطات غير العضوية داخل الغذاء. لقد تمت ملاحظة هذه الحالة لدى الفأر. يشير أحد الباحثين وهو الدكتور شو إلى أن “سرطان الرئة هو مرض ناتج عن تكاثر غير متحكم فيه في النسيج الرئوي وأن اختلال طرق التشوير في تلك الأنسجة قد يمنح خلية عادية خاصيات خبيثة”. ثم يقول مدققا هذا المعطى الهام: “يكفي أن نحدث اختلالا في جزء صغير من طرق التشوير حتى نحفز السيرورة السرطانية. والحال أن هذه الأخيرة تنتظم من خلال درجة تواجد بعض المكونات الغذائية التي تؤثر مباشرة على تكاثر ونمو الخلايا”. هنا تتموقع نقاط التقاطع الرئيسية: في القدرة، عبر تغذية معينة، على ضبط طرق التشوير حتى لا تحفز السيرورة السرطانية. هذا أمر هام بقدر ما أن نموذجنا في التغذية، كما يقول الدكتور شو، يوجد في تطور متصاعد وأنه ليس بصراحة إيجابيا من وجهة نظر صحية: “في التسعينيات، كانت المواد المضافة إلى التغذية والمشكلة من الفوسفاطات تساهم بحوالي 470 مليغراما يوميا في النظام الغذائي المتوسط لراشد. أما اليوم فتتم إضافة الفوسفاطات أكثر فأكثر للصناعة الغذائية. وبالتالي وحسب الاختيارات الغذائية للفرد فإن كمية الفوسفاطات التي يتم ابتلاعها قد تصل إلى ألف مليغرام في اليوم”.
سؤال: ما هو الدور الذي يلعبه فوسفاط غير عضوي داخل الغذاء، وما هي المأكولات الصناعية التي تضمه أكثر؟.
جواب: تستعمل الصناعات الغذائية الفوسفاطات غير العضوية لقدرتها على الاحتفاظ بالماء وتطوير بنية الغذاءات. توجد هذه الفوسفاطات مع المواد الحافظة بشكل خاص في اللحوم واللحوم الصناعية المحولة، وفي بعض أنواع الجبن الصناعي (وبشكل خاص العجائن التي تدهن)، والحلويات الصناعية، وتقريبا كل أنواع الصودا الصناعية (كوكا كولا، ولكن أيضا المشروبات الغازية والسكرية) أو المشروبات المحضرة من سيرو الفواكه والمأكولات المحضرة بالحليب المبخر (بما في ذلك المثلجات الصناعية). يجب أيضا تفادي المأكولات التي تتضمن لائحة مكوناتها مواد حافظة مشكلة من الفوسفاطات من مثل الكالسيوم الفوسفاطي، والديسوديوم الفوسفاطي، والحامض الفوسفوري، والصوديوم الفوسفاطي الثلاثي، والكالسيوم الفوسفاطي الثلاثي..الخ..
سؤال: ماذا يمكن للمريض أن يفعله أمام مثل هذه المعلومات؟.
جواب: كيفما كان الجواب على هذا السؤال، يجب انتظار دراسات أخرى أكثر دقة، وأكثر عمقا، وبمعطيات مرقمة أخرى. ولكني من جهتي أقول ما يلي لمريض يعالج من سرطان الرئة السالف الذكر: “كن على علم بما يجري، خذ بكل الجدية اللازمة الدراسة التي قام بها زملاؤنا الكوريون الجنوبيون”. وفي مرحلة ثانية، سأطلب منه أن يطرح على نفسه السؤال التالي والإجابة عليه بكل صراحة وبكل حرية: “هل انجذابي إلى المأكولات الصناعية التي تضم إضافات فوسفاطية أهم من المخاطرة بدعم السيرورة السرطانية التي كشفتها هذه الدراسة؟”.
سؤال: هل تتعاون مع الجمعيات البيئية، ولو من أجل تحسيس الرأي العام؟.
جواب: تماما. فالرابط بين عالم الصحة والعالم البيئي هو رابط أساسي جدا. إنه لأمر جيد أن نلاحظ أننا نعاين، من كلتا الجهتين، بداية تشكل الوعي بهذا الرابط بين مداواة الأرض والصحة البشرية. على الأطباء أن يقروا بالمسببات البيئية لبعض الأمراض، وعلى البيئيين أن يدمجوا الفكرة التي مفادها أن الأزمة البيئية لا تمس فقط الحلقة الحية، التنوع الحيوي أو المناخ، ولكن الصحة أيضا. هنا كذلك يجب أن نحاول أن نكون عمليين. فلقد أطلقت سنة 2009، بصحبة “منظمة حماية الطبيعة” بفرنسا[4]، التي هي إحدى أهم المنظمات المدافعة عن البيئة في فرنسا وفي العالم، حملة إعلامية حول الرابط بين الماء الصالح للشرب والسرطان، وهي الحملة التي قادت إلى نتائج في غاية البساطة: فمثلما علينا الانتباه إلى الماء الذي نمنحه للرضيع، علينا الانتباه أيضا إلى الماء الذي نعطيه لشخص له صحة هشة بفعل المرض من مثل مرض السرطان.
سؤال: كيف كان رد فعل الأوساط الطبية والأوساط المدافعة عن البيئة؟.
جواب: لقد كان رد فعل مهم وإيجابي وتمكننا من أن نشكل، لأجل هذه الحملة، لجنة علمية حقيقية مكونة من عناصر تنتمي لتلك الأوساط. لقد كان هناك مثلا – بالنسبة للأطباء- شخصيات كالبروفيسور لوك مونتانيي الذي حاز على جائزة نوبل للطب، والبروفيسور لوسيان إسرائيل، المختص في علاج السرطان وعضو “المعهد”[5]، والبروفيسور فرانكو بيرينو، الذي يدير “شعبة الطب الوقائي والاستشرافي” ب”المعهد الوطني للسرطان” في ميلانو. بالنسبة للعلماء الذين جاؤوا من الإيكولوجيا، يمكن أن أشير مثلا إلى برنار كريسنس، وهو المدير العلمي ل”منظمة حماية الطبيعة” فرع فرنسا، والبروفيسور جون ـ كلود لوفيفر، الذي اشتغل في “المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي” والذي ترأس “المعهد الفرنسي للتنوع الطبيعي”، بل إنه كان مقرر التقييم الذي دبج حول جودة المياه الخامة الفرنسية الموجهة للشرب، وكان ذلك سنوات 1985، و2000، و2005. لنشر أيضا إلى بروفيسور البيولوجيا ورئيس “المعهد الأوروبي للإيكولوجيا” بميتز، جون ـ ماري بلط (أنظر الحوار مع بلط في مكان أخر من الكتاب)، والبروفيسور جيل ـ ايريك سيراليني، الذي يترأس “المجلس العلمي للجنة البحث والإعلام المستقلين حول الهندسة الجينية”، والذي يدير مع آخرين “قطب الأخطار” بجامعة كاين. لقد كنا عشرين باحثا في هذه اللجنة العلمية.
سؤال: دون الدخول في تفاصيل الوصف التقني للحملة التي قمتم بها رفقة منظمة حماية الطبيعة، ما هي المعلومات التي حاولتم أن تعرفون بها والخاصة بالعلاقة المفترضة بين الماء الصالح للشرب والسرطان؟.
جواب: أولا، رفضنا أن نقوم بحملة تهويلية. إذا أخذنا المعايير الجاري بها العمل في فرنسا كمقاييس تقييمية، فإن حالة ماء الأنبوب هي عموما جيدة. ومع ذلك، هناك مبدأ لابد من احترامه بقوة، هو مبدأ الوقاية. وحسب هذا الأخير، فعلى الأشخاص الذين هم أو كانوا مرضى بالسرطان الاستفادة من ماء صالح للشرب يجب أن تكون جودته فوق أي جدال. لقد فهمنا أن الرابط بين السرطان والماء الصالح للشرب يظهر عندما يكون هذا الأخير ملوثا ببعض المواد. من الممكن أن نتعرض دون علمنا لمواد موجودة في الماء يمكنها أن تحرض على تطور السرطان. وهذا مشروط بعوامل عدة: المناطق، فترات السنة، طبيعة النشاط الزراعي الخ..
سؤال: ما هي تلك المواد التي يمكن أن تشكل خطرا على الصحة البشرية؟.
جواب: لنبدأ بالمبيدات، التي هي منتوجات موجهة لتجويد الصحة النباتية. إنها تستعمل بشكل رئيسي في الزراعة، ولكن أيضا في الأعمال المنزلية، وأعمال البستنة العائلية، أو محليا من أجل صيانة الفضاءات الخضراء. هناك أنواع عدة من المبيدات: المبيدات الحشرية، والمبيدات الخاصة بالقوارض، والفطريات، وتلك الخاصة بالنباتات (التي تساعد على اقتلاع الأعشاب غير المرغوب فيها). إن المعيار هنا هو 0,5 ميكروغرام للتر الواحد. وفي إحدى فقرات بيان الحملة نورد هذه الوقائع: “بينت منشورات علمية حديثة الروابط بين التعرض المهني أو العائلي للمبيدات وتطور بعض السرطانات (البروستاتا لدى الرجال، اللمفوم اللاهودجكيني[6] وسرطان الدم لدى الأطفال). إضافة لذلك، إن وجود عدة مبيدات في الماء له تأثيرات ضارة حتى وإن كان كل مكون يحترم العتبة المسموح بها من طرف السلطات. أخيرا تحدث مبيدات عديدة تأثيرات هورمونية مؤكدة (تغيير الجنس عند الشراغف أو تأنيث الأسماك في الأنهار)”. إن تأثير المبيدات على نمو السرطان قضية هامة جدا على المستوى الدولي. وحسب “المنظمة العالمية للصحة”، يشكل استهلاك المبيدات الموجودة في الماء عشرة بالمئة مما يتم استهلاكه عبر الحقن.
يعتبر النيطرات مادة خطيرة أخرى. إنه عبارة عن بقايا الحياة النباتية التي توجد بشكل طبيعي في الأرض. وهو يوجد في جزء كبير منه مركز – وبنسب عالية جدا- في الروث، أي الفضلات الحيوانية، وفي غالبية الأسمدة الزراعية. للأسف، يمكن للمياه السطحية والمياه الجوفية أن تتلوث إذا ما تم نثر النيطرات بشكل مكثف في الأرض. تحدث العدوى عبر التدفق بالنسبة للمياه السطحية وعبر التسرب بالنسبة للمياه الجوفية. في أوروبا يتحدد المعيار في خمسين مليغراما في اللتر. لنشر إلى أن “منظمة الصحة العالمية” أكثر صرامة وتحدد العتبة في خمسة وعشرين مليغراما في اللتر، حتى تقي من بعض أمراض الأطفال الصغار، وبشكل خاص مرض الميتيموكلوبينيميا[7]. وحتى وإن كان هناك نقاش مشروع حول علاقة السرطان بالنيترات، فإن دراسات بينت وجود علاقة بين التواجد المكثف لهذا الأخير في الماء الصالح للشرب وتطور بعض السرطانات من مثل سرطان المثانة وسرطان البروستاتا والمعدة بالنسبة لبعض السكان.
هناك أيضا المواد الطبية التي يتم العثور عليها في مياه الأنهار وفي المياه الجوفية وفي نهاية المطاف في الماء الصالح للشرب. إن هذا ناتج عن كون محطات تصفية المياه ليست مجهزة بما يكفي من أجل اجتثاثها. وحتى وإن لم تخضع السلطات هذه المواد لمراقبات دورية منظمة، فقد يمكنها أن تلعب دورا في بعض الأمراض. يتعلق الأمر، بشكل خاص، بالأدوية المضادة للسرطان، وبالمضادات الحيوية، وبالهرمونات المؤنثة، وبالأدوية المضادة للصرع، وبالمسكنات. كثير من هذه الملوثات المعدية لها تأثير بيولوجي مؤكد على الأسماك، مثلا على المستوى الهورموني، (خاصة من خلال تأنيثها، ولكن أيضا من خلال إحداث تأثيرات سرطانية وإضعاف نظام المناعة).
سأنهي هذه اللائحة بالإشارة إلى مادتين: الكلور والرصاص. لا يشكل الكلور خطرا على الصحة، إلا أن بعض مشتقاته، مثل بعض الطريهالوميطاهانات[8]، يمكنها أن تحرض على سرطانات المثانة وتنتج اختلالات لحظة الحمل. لحسن الحظ أن أغلب المدن الفرنسية الكبرى تتوفر على تصفية ذات جودة عالية للمياه العادمة قبل عملية معالجة الماء الصالح للشرب تكبح ظهور هذه المنتوجات المتفرعة عن الكلور. ولكن الأمر ليس على هذا النحو في الجماعات الصغرى. أما فيما يخص الرصاص، فهو نادرا ما يوجد في الماء على حالته الطبيعية. في الواقع توجد هذه المادة في القنوات القديمة المصنوعة من الرصاص. ولقد صنفت “منظمة الصحة العالمية” بعض مشتقات الرصاص كمواد مسرطنة ممكنة لدى الإنسان (تأكد الأمر أيضا لدى الحيوان). على أية حال، يعتبر الرصاص مادة يمكن أن تكون مضرة بالصحة بسبب أن تجاوز النسب العادية في الماء الصالح للشرب قد يرفع من خطر الوفيات المتفاقم من كل الأصول، وأيضا من أمراض القلب والاختلالات على مستوى النمو الدماغي لدى الطفل.
سؤال: بعد هذه الجولة المخيفة فعلا، ما الذي كانت حملتكم الصحية والبيئية تروم تحقيقه؟.
جواب: بالفعل، لقد شكلنا لائحة من صنفين من التوصيات كلها مستندة على مبدأ الوقاية. نحن ننصح الأشخاص الذين هم أو كانوا مرضى بالسرطان بألا يشربوا يوميا ماء الأنبوب إلا إذا كانوا متيقنين من جودته. لأجل ذلك يجب القيام بتحليلات دورية لماء الشبكة المزودة لدى العمادة[9]. فهذه التحليلات ملزمة بواجب الإعلام. إذا كان الماء محتويا على كميات كبيرة جدا من الكلور، فيجب تركه معرضا للتهوية على الأقل لمدة ساعة داخل إناء قبل شربه. فهذا يمكن من اجتثاث الكلور ومشتقاته. وفي حالة وجود خطر، يجب التوفر على مصفاة جيدة أو شرب مياه القنينات الزجاجية. هذه حلول قصيرة المدى يجب تطبيقها بشكل دقيق: يجب احترام طريقة الاستعمال من أجل تصفية العلب الزجاجية وتدويرها.
يجب أيضا القيام بأعمال من طبيعة جماعية. مثلا، بالنسبة للمهنيين – المزارعون، الصناعيون، المستشفيات والمصحات-، من المهم القيام بجرد لنفايات النشاط الزراعي والصناعي والصحي لاختبار ما إذا كان ذلك النشاط يلوث الماء. للجماعات المحلية، أيضا، دور كبير جدا، إذ يمكنها أن تحمي الجهات التي تستقبل المياه فوق ترابها، من خلال الحسم لصالح الزراعة البيولوجية، والقيام باختبارات إضافية على جودة ماء الشرب في فترة الرش في المناطق الزراعية. عليها أيضا أن تطلب اختبارات على مواد تم مؤخرا اتهامها بعلاقتها بالسرطان. أفكر هنا في بعض المبيدات، وبشكل خاص البيسفينول “أ”.
سؤال: خارج “منظمة حماية الطبيعة”، هل كنت على علاقة بمؤسسات أخرى تعمل في مجال الإيكولوجيا؟.
جواب: سنة 2008 شاركت في لقاء حول الفيلسوف والمزارع الإيكولوجي بيير ربحي. كان اللقاء من تنظيم “الحركة من أجل الأرض والنزعة الإنسية”. لقد وجدت نفسي في كل قيم هذه الحركة كما تم شرحها أثناء فعاليات هذه المبادرة. وكان يتم في كل مرة إتباع الشروحات بتطبيقات خاصة. ويمكن تلخيص عمق المبادرة في الصيغة التالية: “العيش ببساطة وبما هو أساسي”. أما القيم المقدمة والأعمال المزمع تحقيقها فكانت كالتالي:
– على المستوى المحلي… الحسم لصالح شراء منتوجات محلية من تجار وحرفيي القرب، الأماب[10]، الحدائق العجيبة، الأسواق، المنتجون..
– الانخراط في سياسة للتعاون والتضامن.. اقتناء المنتوجات الطبيعية والمنتوجات التي تقطف في وقتها من غذاء ومواد تجميل وأنسجة ومنتوجات منزلية.. أكل لحوم أقل.
– إعادة الاعتبار للإنسان والطبيعة.. إعادة الاتصال بالطبيعة عبر زرع وصيانة الحديقة الشخصية، التجول في الغابة أو في الشاطئ، القيام بتمارين رياضية في الطبيعة، الذهاب لقضاء بعض الوقت في الضيعة.
– السعي نحو الاستقلال.. القيام بما يشجع على التفتح: ممارسة المهنة التي نعشقها، التي نحن موهوبون فيها، ممارسة الفن، والرياضة، وأي نشاط يكون له معنى لنا ويحقق لنا الإشباع.
– السعي نحو العفة السعيدة عبر السير نحو بناء علاقة مع الناس: الانفتاح على الجيران، الانخراط في جمعية، الالتزام بقضايا الحي والجماعة، تنظيم لقاءات، التسجيل في أحد نظم التبادلات المحلية، استعمال العملة التضامنية[11].
– التربية بتنزيل أفعال ملموسة لتحقيق الانسجام في الكلام والفعل، في التربية، والإنتاج، والتحويل، والشراء، والتنقل، والسفر، والتبادل.
سؤال: في هذه اللائحة من القيم والممارسات الإيكولوجية، ما هي تلك الأكثر قربا إليكم؟.
جواب: إن ما يثيرني أكثر، عندما أعيد قراءة هذه اللائحة، هو أنه إذا كان علينا أن نختار عملية واحدة، فسيتعلق الأمر ببساطة بأكل لحوم أقل.! لقد بينت دراسات كثيرة بأن الناس بقدر ما يأكلون اللحوم، بقدر ما يمرضون. ليس هناك أي سجال طبي حول هذا الموضوع. إن أكل اللحوم بشكل أقل هو ما يمكن أن يؤثر بشكل كبير في التوازن الإيكولوجي “لمركبنا الفضائي الأرض”. بين بيير ربحي في اللقاء السالف بأن ما يقارب 3 بالمئة من الأراضي القابلة للزراعة هي مخصصة لزراعة الحبوب الموجهة لأكل الأبقار. إننا هنا – ويجب التسطير على ذلك مرة أخرى- أمام أحد أهم أسباب اجتثاث الأشجار في العالم، دون أن ننسى أن الأسمدة الزراعية والمبيدات المستعملة في تلك الزراعات المكثفة الخاصة بالذرة والصوجا هي أهم أسباب تشويه طبيعة الأرض وتلويث الأنهار.
من جهة أخرى، تساهم الغازات المنتجة للاحتباس الحراري التي يطلقها قطيع الأبقار بشكل كبير جدا في تغير المناخ، أكثر بكثير من صناعة عربات النقل. نحن لا علم لنا بهذا، أو ليس لنا به الا معرفة ضيقة. وإذا كانت الأبقار ترسل غازات خطيرة الى الجو، فلأننا نعلفها بطريقة غير متوازنة بشكل كبير. الأبقار خلقت لتأكل الأعشاب !. والحال أننا نعلفها اليوم الذرة والسوجا، التي لا تتوفر على الأحماض الدسمة من نوع أوميغا 3 الموجودة في العشب. لذلك يختل نظامها في الهضم جراء هذا النموذج الغذائي الصناعي. تبعث الأبقار كميات هامة جدا من الغازات، غازات قادرة مئة إلى مئة وخمسون مرة أكثر على الاحتفاظ بالحرارة من الغازات الكربونية المنبعثة من السيارات.
بينت إحدى الدراسات أنه يكفي أن يخفض الأمريكيون استهلاكهم من اللحوم الحمراء بنسبة الخمس في السنة – وهو ما يعادل تقريبا يوم ونصف في الأسبوع بلا لحم. سيكون بإمكان هذا التغيير في النظام الغذائي أن يؤثر أكثر مما إذا قمنا في الولايات المتحدة بتعويض جميع السيارات بسيارات طويوطا بريوس هجينة !.
هذه من الأمور التي ستمكن من أن نقلص شيئا ما من سخونة المناخ.!
سؤال: ما هو الدرس الرئيسي الذي تستخلصه بوصفك طبيبا من هذه اللقاءات والأنشطة مع أولئك الذين يريدون مداواة الأرض؟.
جواب: من المثير جدا حقا أن يكون نفس الفعل – أي تقليص استهلاك اللحم الأحمر- قادرا على حماية الأرض وحماية صحتنا في الوقت نفسه!. يوصي “الصندوق العالمي للبحث ضد السرطان” بدوره، في تقريره لسنة 2007، بتحقيق الهدف التالي: لا يجب تجاوز أكثر من 300 غرام من اللحم الأحمر في الأسبوع.
التأكد من الصحة الجيدة للأبقار، بالعمل على أن تستهلك العشب وليس الحبوب، التقليص من إنتاج اللحوم الحمراء… لكل هذه الأمور نتائج مباشرة على الصحة الجيدة للبشر، ونتائج مباشرة على الصحة الجيدة للكوكب. ها نحن أمام حلقة فاضلة جميلة علينا أن نرفع منها..
سؤال: تولي أهمية كبيرة للتغييرات في السلوكيات. ولكن أن نتغير صعب جدا! وحتى وإن كنا على علم بما يجري، فإننا لا نمر بكل هذه السهولة نحو الفعل. ما هي مقاربتك لهذا المشكل؟.
جواب: أنا أحاول أن أبسط الأمور إلى أقصى حد ممكن. بعض الأفعال هي أكثر سهولة من أفعال أخرى. وإذا كان التسجيل أو الذهاب إلى نادي للرياضة بالأمر المعقد في بعض الحالات، إلا أنه يمكن المشي أو ركوب دراجة للذهاب إلى العمل. علينا أن نصل ما نقوم به ببعد المتعة، وببعد اللعب، لأنه بهذين البعدين يمكن أن نحقق الكثير من الخير لأنفسنا. مثلا إذا قررنا أن نمارس نشاطا رياضيا، فلا يجب أن يكون ذلك من أجل أن نعيش عشر سنوات أكثر، بعد ثلاثين سنة، ولكن من أجل أن نحس بأنفسنا أحسن وفورا. يجب أن نساعد الناس على العثور على هذه الراحة وأن نوضح لهم بأن المتعة والصحة يمكنهما أن يلتقيا. تشكل التغذية بدورها مثالا جيدا في هذا الصدد. أقترح أن تتم دائما إضافة أطباق تكون في الوقت ذاته جيدة للصحة وممتعة، عوض أن نبدأ في عملية تغيير نظامنا الغذائي بالتقليص من الأطعمة التي نتمسك بها بشكل كبير جدا بالنظر إلى ثقافتنا العائلية. وبهذا المنهج، الذي يولي الأهمية للرابط بين الصحة والتغذية والمتعة، ستقل تدريجيا رغبتنا في أكل أمور تضرنا. مثلا، يمكن أن نتفادى بعض المواد الكيميائية المعدية بتخلصنا من سخان الماء الكهربائي المصنوع من البلاستيك البوليكربوناطي الذي يطلق مادة البيسفينول “أ” في الماء.
سؤال: من المهم فعلا الإشارة إلى هذا الأمر، لأن هناك سخانات تقريبا في كل مقرات العمل !.
جواب: نعم، وعلى الناس أن يعلموا ذلك. في عيادتي، اشترينا سخان ماء صنع من مادة الاينوكس، وهو السخان الذي كلف فقط عشر أوروهات اضافية. إن هذا المجهود المالي الإضافي يستحق فعلا أن نقوم به من أجل صحتنا.
سؤال: تقترح أن نزاوج بين الصحة والإيكولوجيا والمتعة. ومع ذلك، فإن جزءا من المنهجية الإيكولوجية والطبية يستند، على النقيض من ذلك، على التخويف: التخويف من تغير المناخ، التخويف من المنتجات المعدلة جينيا، التخويف من المرض، التخويف من الموت.
جواب: نعم، أنتم على حق. على الناس أن يكونوا على علم بما يجري، وكل ذلك يجب أن يتم في ظل شروط جيدة، وتحديدا على المستوى النفسي. الخوف، بالفعل، ليس محفزا فعالا، أو لا يكون فعالا إلا على المدى القصير جدا. ولكن تغيير السلوك لا يجب أن يبنى على الخوف. لذلك يجب أن ننتبه جيدا ونكون حذرين تجاه تلك الإيكولوجيا التي بدأت تتحول إلى إيكولوجيا أخلاقوية فائقة. الأمر ليس جيدا في الحقيقة !. يجب، أكرر ذلك، أن نتموضع أكثر على مستوى ما يمنحنا المتعة. مثلا يمتعني أن أقوم بانتقاء النفايات. هل أنا أكثر أو أقل حمقا عندما أصرح بهذا الأمر؟ ومع ذلك لست الوحيد في هذا المجال، لحسن الحظ. إذا لم يكن الانتقاء يمنح للناس متعة نسبية، فسوف لن يقوموا به، أو لن يقوموا به الا نادرا. يحسون بأنهم يساهمون في حل الأزمة البيئية بمثل هذا العمل. إن المساهمة في عمل جماعي، بالمتعة التي تمنحها لنا، تشكل عاملا محفزا قويا، وعاملا محفزا بالتالي على تغيير أنماط حياتنا. هناك بطبيعة الحال سلبيات، لأنه يجب توفير في بعض الحالات قمامات إضافية والتنقل من أجل التخلص من الزجاج الخ.. في المدن يصعب في بعض الحالات إيجاد أماكن للتخلص من الزجاج. لكن المسألة تستحق أن تجرب.
أريد أن أحكي لكم واقعة حدثت لي خلال مراهقتي. فعندما كنت في سن العاشرة، مررت بتجربة أثرت في بشكل كبير. كانت بنات عمي، اللواتي كان لهن نفس سني تقريبا، قد سافرن إلى كاليفورنيا لمدة عام. وعند عودتهن تبين لي أنهن لم يكن يفهمن كيف أننا نلقي بعلب فارغة في القمامة. في كاليفورنيا، كانت علب الصودا تجمع قبل أن تلقى في قمامة خاصة من أجل تدويرها !. كان مهما أن أرى إلى أي حد كن منزعجات، عند عودتهن إلى فرنسا، عندما تبين لهن أنه لن يكون بإمكانهن القيام بذلك. لقد كان واضحا أنهن كن يقمن بذلك لإحساسهن بالمتعة، لأنهن كن في حاجة إلى المساهمة في حماية البيئة.
سؤال: في حياتنا ليس هناك فقط الأنا، أو الأرض، ولكن هناك الأخر. ما هي المكانة التي تمنحها للرابطة الاجتماعية في مقاربتك للصحة والإيكولوجيا؟.
جواب: الرابطة التي تتحدثون عنها أساسية. ولكن، وحتى نفهمها، لا يجب أن يغيب عن نظرنا بأن المجتمع الغربي هو مجتمع فرداني بشكل قوي جدا وبأن الإنسان ذاته تم اختزاله إلى مجرد فاعل اقتصادي، كمستهلك أو كمنتج. إن الرهان هو العثور من جديد على طب أكثر شمولية، طب للجسد، وللروح، وللعقل. ولكن مع هذه الأبعاد الثلاثة نبقى عند مستوى الفرد وحده !. ودون أن نهدم هذا المستوى، يجب أن ننسبه. علينا تجاوز البعد الفردي والدخول إلى البعد العلائقي، البينذاتي، الاجتماعي. أسمي هذا التجاوز الإيكولوجيا العلائقية..
سؤال: لماذا كلمة “إيكولوجيا” وأنت تتحدث عن العلاقات بين الأشخاص؟.
جواب: تتموقع الإيكولوجيا العلائقية، التي من المفروض أن توجد بين الأشخاص، في نفس مستوى منهجية الإيكولوجيا البيئية. إذا احترمت حاجياتي وحاجيات الآخرين، وطبقت هذا السلوك على علاقتي بالأرض، فلدي الحق في الأكل مما تنتجه الأرض، والاستفادة من مائها وهوائها وجمالها. في الوقت ذاته، وحتى أستفيد أنا نفسي إلى أقصى حد من كل هذه الأمور، فإن المقاربة الأكثر عقلانية يجب أن تكون هي المقاربة الإيكولوجية بامتياز: احترام حاجيات الأرض!.
نفس الشيء يحدث في العلاقة بين كائنين إنسانيين. حتى أستفيد إلى أقصى حد من علاقتي مع شخص أخر، فإن أفضل شكل يمكن أن نمنحه لهذه العلاقة ليس هو الاستغلال أو الاستعباد: يجب أن تستند هذه العلاقة على مبدأ العناية بالأخر، وبذاتنا أيضا. الأمر المثالي هو أن تتفتح حاجيات كل واحد في قلب الرابطة الاجتماعية. أنا على كل حال مقتنع بأن الرابط مع الأخر، عندما يكون مسكونا بالاحترام، يجعلنا أحرارا.
سؤال: هناك إذن ربما علاقة بين الإيكولوجيا العلائقية والحرية؟.
جواب: بالفعل. أكثر من المال أو القوة، تشكل الصحة الضامن الأول لحريتنا. والحال أنه مع الإيكولوجيا العلائقية، يمكننا أن نقر بأن الصحة لا تخص فقط ذاتنا الفيزيائية-النفسية، ولكن أيضا نسيج علاقاتنا البينذاتية. يتحدث بيير ربحي عن هذا الأمر بشكل جيد جدا. إن ما أقوله ليس نظريا، لأنه ثمرة تجربة حياة. لقد اشتغلت لعدة سنوات داخل جمعية “أطباء بلا حدود” وعشت بعض الوقت في الولايات المتحدة وفي كندا. لدي زملاء من كل الجنسيات. ومرضاي ينتمون لكل الفئات الاجتماعية. إن ما أثارني بقوة في كل هذه التجارب المتعددة، هو أنه أينما ذهبنا في هذا العالم، وفي أي مجتمع أو مجموعة اجتماعية، يكون للناس نفس الرغبات الأساسية. لقد فهمت أن الناس، وفي كل القارات، لهم نفس التطلعات: تحقيق الانسجام في العلاقات، السلم، الطمأنينة، إمكانية السير في طريق الإبداع، استثمار المواهب الشخصية، منح المتعة للآخرين، وترك أثر يحيل إلى مرورهم فوق الأرض، أثر يكون معطاء، ويساهم في طمأنينة وسعادة الآخرين.
الجميع يرغب في إقامة علاقات يسودها في الوقت ذاته الاحترام والانسجام، مع رفيقته، مع رفيقه، أطفاله، جيرانه، معاونيه، مشغله. لا يمكن أن نتصور أنه يمكن أن نمنح أحسن ما لدينا في علاقة لا يتم احترامنا فيها. وعلى العكس من ذلك كيف يمكن لنا أن نتصور أن آخرين يمكنهم أن يمنحوا أفضل ما لديهم إذا لم يحسوا، هم أنفسهم، بأن حاجياتهم يتم احترامها؟ هذا أمر أساسي للغاية بالنسبة لي. وما إن نفهم ذلك حتى يمكن أن نطبقه على مجموع علاقة الطبيب/المريض. إن مهنتي هي أن أعلم الناس أن يعتنوا بصحتهم، لا أن أقف مثل مسيح متوج، من أعلى منصة مكتبي، ببدلتي البيضاء، دون أن أكلمهم.
إن الإيكولوجيا العلائقية، مثلها مثل الإيكولوجيا البيئية، هي كونية تماما. يتعلق الأمر بتعليم التواصل عبر احترام حاجياتنا الشخصية وعبر فهم حاجيات الآخرين وحاجيات الأرض. إنها المعادلة الكبيرة للأرض منذ الأزل، تلك التي تحدث عنها أفلاطون.
سؤال: سواء تعلق الأمر بالماء الملوث أو بالتغذية الملوثة، تلح على البعد الجماعي في الوقت ذاته لأصل المشكل ولطريقة حله. هل هذه السلوكيات الفردية كافية؟.
جواب: أعتقد بالفعل أن هذا البعد الجماعي أساسي لفهم أسباب الوضع الخاص بالصحة العمومية وبحالة الكوكب. لا يتعلق الأمر، بطبيعة الحال، بألا ندعو الأفراد لأن يغيروا سلوكياتهم. إن الأمراض، حتى وإن كانت لها أسباب بنيوية تتجاوز الأفراد، فهي تتمظهر فرديا. ففي عيادات الأطباء، نتعامل مع أفراد لا مع جماعات. ولكن صحيح أننا نوجد في قلب نوع من بنية ملغومة، نوع من ماكينة اجتماعية لصنع الأمراض. نرى ذلك مثلا في مشكل السمنة. لقد أصبح الناس فجأة عشاق سكريات ودهون. ومع ذلك لم تتغير شهيتهم. أين هو المشكل إذن؟ إنه في الأكل. كيف وصلنا إلى مثل هذه الجائحة المسماة السمنة؟. السبب يكمن في التغيرات الاجتماعية الماكروسكوبية التي يحركها الربح والجري وراء المصلحة الاقتصادية، وبشكل خاص من طرف الفاعلين في مجال التغذية الصناعية والاقتصاد الزراعي. لقد تخصصنا في صناعة منتوجات أكثر فأكثر دهنية وأكثر فأكثر سكرية، منتوجات يمكن بيعها بشكل أسهل من الفاصوليا الخضراء !. عندما نقترب من قابضة النقود في سوق ممتاز، فإن ما يوجد في متناول أعين وأيادي الأطفال هي هذه المنتوجات التي ترى في التلفزيون، في الإشهارات. حتى أن هناك قاعدة لدى بعض الأطباء والمتخصصين في التغذية تتمثل في القول بأنه إذا كان هناك إشهار في التلفزيون لمنتوج معين، فلا يجب تناوله.
تهيمن الصناعة على المجتمع بشكل رهيب. ففي الولايات المتحدة لم يعد بإمكان المدارس أن تعمل بلا المساعدات التي تتلقاها من شركات المشروبات الغازية، التي تضع في الممرات موزعات المشروبات. وعندما نطلب من المدارس أن توقف هذا الأمر، – بسبب أن تلك المشروبات الغازية تساهم بقوة في السمنة وفي مرض السكري- تجيبنا: “إما أن نقبل بتلك الموزعات في ممراتنا، وهذا يسمح لنا بتأدية فواتير حواسيب أقسامنا، وإما لن تكون لنا حواسيب”. المعادلة اذن رهيبة. هل أنتم واعون بالمفارقات التي نوجد أمامها؟ لقد سقطت بنياتنا الاجتماعية في حالة من الميوعة إلى درجة أننا نوجد مسجونين في قلب اختيارات كورنيلية[12]. إذا كنت مديرا لمدرسة فلن أعرف ما يتوجب علي فعله. الأمر ليس بسيطا كما قد يبدو.
سؤال: هل أنت متفائل، أنت الذي عايشت المعاناة الإنسانية وعاينت تأثيرات الأزمة الإيكولوجية؟.
جواب: نعم، أنا متفائل، وبشكل حازم. لم يعد الناس قادرين على العيش في قلب مأزق مجتمعنا الممرض (بتسكين الميم الثانية)، مجتمع يشجع، من خلال نماذجه في الاستهلاك والتغذية والإنتاج الخ.. على تطور الضغط والأمراض، بدءا بأمراض الحساسية إلى مرض الزهايمر، بدءا باختلالات القلب والشرايين إلى مرض السكري، مرورا بكل أنواع السرطانات. لدى الناس الرغبة في الخروج من كل هذا وحماية أنفسهم بأنفسهم. إنهم يرون وهم يسعون نحو حماية أنفسهم بأنفسهم أن كثيرا من الأفعال يجب أن تكون جماعية ! ومن بين هذه الأفعال الجماعية، هناك تطوير الزراعة البيولوجية، ومنع تعرض الأطفال لمنتوجات كيميائية كالبيسفينول “أ”، وحصر المواد الحافظة في أطعمتنا، وهي المواد القادرة على أن تفاقم السرطان أو أمراض بسيطة من مثل اختلالات التركيز لدى الأطفال. إننا نعلم، أكثر من أي وقت مضى، أننا بحاجة لدينامية اجتماعية وجماعية حقيقية. هذا هو الفكر المقوض الجديد ! في الستينيات، كان الفكر الماركسي هو الفكر المقوض، والآن، وضد سطوة المصلحة الاقتصادية التي تسحق البشر وتدمر الأرض، فإن المقوض يقوده البديل الإيكولوجي. يوجد الكوكب في حالة سيئة للغاية، ونحن أيضا معه. يجب على كل واحد أن يحدد ما يجب عليه فعله، على المستويات الفردية والجماعية، من أجل الاعتناء بالأرض وبسكانها.
[1] الحوار مأخوذ من الكتاب الجماعي مداواة الأرض Guérir la terre، منشورات Albin Michel، سنة 2010.
[2] Anticancer. Les gestes quotidiens pour la santé du corps et de l’esprit, Robert Laffont, 2000.
[3] L’American journal of Respiratory and Critical Care Medecine.
[4] المعروفة ب WWF. (المترجم)..
[5] L’Institut، ويقصد به شريبر معهد باستور. (المترجم).
[6] يولد هذا السرطان داخل خلايا النظام اللمفومي عندما يعجز النظام المناعي عن مقاومة التعفنات والأمراض. (المترجم)..
[7] مرض يكمن في تقلص قدرة الكرويات الحمراء على نقل الأوكسيجين. (المترجم)..
[8] يقوم من بين أدواره العديدة بتطهير المياه. (المترجم)..
[9] يقصد شريبر هنا سلطات المدينة. (المترجم)..
[10] ل Amap، التكتل من أجل الحفاظ على الزراعات الريفية..
[11] SEL، Système d’échanges locaux أو نظام المبادلات المحلية، أما SOL، فهي اختصار لكلمة تضامن Solidarité.
[12] من المسرحي الفرنسي كورناي، صاحب المسرحيات التراجيدية الشهيرة في القرن السابع عشر. (المترجم).