احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
فور تنمية . ذ عبد الخالق مساعيد
ونحن نعيش تحت وطأة جفاف الموهبة وانطفاء وهج شعلة الإبداع، أطل علينا الأخ يوسف صبري بمولود روائي سردي جديد، مكسرا حواجز التردد وعدم الثقة بالنفس، وعدم الاطمئنان الى القدرة على الكتابة والصياغة الفنية والأدبية، والتي كادت ان تصبح حالة عامة تلازم اهل الكتابة والابداع،
وهذه الحالة ولدت مناخا من الجدب والجفاف الابداعي، أثر على رواد الاقلام ومروضي الحروف سواء في منطقتنا الرحامنة،او بلدنا المغرب، بل ناء هذا المناخ بكلكله على الساحة الادبية في الوطن العربي ككل.
وتعود أسباب جفاف الموهبة الى ما يعاني منه الكتاب من ظروف ضاغطة، كضيق مساحات التعبير وافتقادها ،وعدم القدرة على التعبير بحرية، والشعور بالحصاروالمنع المقنع والصريح، وافتقاد الكتاب للأمان المادي، بحيث لا يتوفرون على مصدر كاف للرزق، فيجدون أنفسهم ممزقين بين الصمود والتمسك بالكتابة، وبين ممارسة اعمال يتعيشون منها تزاحم الفعل الابداعي، فيقع التأرجح بين تنمية الحصيلة الثقافية وتأمين مصدر الرزق والعيش، وغالبا ما ترجح الكفة الثانية.
ان هذه الاوضاع ليست وليدة اليوم، بل كانت ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي وراء كثير من الانتكاسات الابداعية للمثقفين، فانعكست سلبا على الانتاج الابداعي، وساهمت في ضآلته وجعلت كثيرا من المثقفين يفقدون الايمان بابداعهم، وينصرفون الى مهن اكثر امانا بل كانت وراء عزوف بعضهم وانقطاعهم عن الكتابة.
وهذه الوضعية تناولها كثير من النقاد والمحللين ،وكادوا يعتبرونها مرحلة من مراحل تطور الابداع في المجتمعات، فقد سماها المحلل النمساوي ادموند بيرغلر (سدة الكتابة) اي انغلاق الابداع على صاحبه وهروبه عليه، وهو ما نسميه عندنا (بالطمس في لهجتنا الدارجة) حيث يذهب ويغيب نور الكتابة عن صاحبه، ويقبع الكاتب في عتمة وظلمة الجفاف الابداعي، ويفقد القدرة على التأليف وانتاج عمل جديد، نتيجة ما يعانيه من جفاف في الافكار، وتكلس في اساليب الكتابة، وهي وضعية تتداخل فيها العوامل النفسية للكاتب مع العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وتعمل هذه العوامل جميعها متظافرة لتحدث هذه السدة في الكتابة.
أما الاديبة التشيلية ايزابيل آليندي فترى ان الكاتب يموت ويبعث وانه تمر به فترات من العطاء وفترات من الجفاف وهو ما عبرت عنه (ببئر الإبداع)، فالابداع عندها ليس خطا مستقيما او طريقا يخلو من النتوءات والتعرجات والعقبات، فقد يعرف المبدع فترات جفاف، لكنه لا يلبث ان يسترد عافيته الابداعية ويبعث من جديد، ويبقى عليه ان يستدعي الالهام دائما ويطلبه ولا يقعد في انتظاره…
واخوف ما يخافه اهل الابداع كتابا وناقدين ، ان تتحول هذه السدة وهذه البئر الى اعاقة عن الكتابة، اعاقة ليست بسبب متلازمة داون، وانما اعاقة بسبب متلازمة الورقة البيضاء، حيث تجف الاقلام وتبقى الصفحات مفتوحة على البياض، ويصبح المبدع والكاتب عاجزا عن كتابة وخط ولو حرف واحد، انه مشهد يخشاه كل مبدع كما تتوجس منه قلوب جمهور الادب و اهل الفن والابداع…
اليوم اطل علينا يوسف صبري بمولود ادبي
تحدى به سدة الكتابة، واستقى له من بئر الابداع، وضرب المثال على ان الَموهبة يمكن ان تروى ولو بعد جفاف، وان الكتابة نسغ يجري في عروق ودم المبدع ولن تتوقف ابدا ما ضخ القلب دما، ولو تحولت الكتابة في زماننا كالقبض على الجمر ، والعيش وسط اتون النيران المستعرة، بسبب الضغوط النفسية غير المسبوقة التي يتعرض لها المبدعون اليوم، لا بسبب من الاوضاع الاقتصادية الاجتماعية فحسب، بل كذلك من الجمهور العريض والواسع للمتلقين المتنوعي المشارب والمستويات الثقافية والمذاهب والقناعات الفكرية، جمهور كل فرد فيه مسلح باكثر من منصة على وسائل التواصل الاجتماعي ، وهو ما يجعل المبدع في احتكاك فوري وعاجل، بعد ان كان ذلك التفاعل آجلا فيما مضى، جمهور غير مترو في تفاعلاته المتباينة مع الانتاج الابداعي، بعد ان كان يعطي للروية حقها فيما مضى، وهو امر يفرض على المبدع ان يزيد من قوة الاحتمال والتحمل لانواع من نقد المتابعين العاديين والمتمكنين، وان يمنع ويلقح نفسه بجرعات عديدة، ثالثة ورابعة لاكتساب المناعة ضد الاحباط، الذي يمكن ان يلقاه والذي يمكن ان يدفعه الى الانزواء والتوقف عن الكتابة…
إنه تمنيع للذات المبدعة ضد متلازمة الورقة البيضاء والذي بات من الضروري الاخذ به في زمان جفاف الموهبة وندرة الحصاد الابداعي في الرحامنة…
عبد الخالق مساعد