احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
لفور تنمية : ترجمة ذ خالد جبور
المنافسة الاقتصادية وخوصصة التعليم.
لِفهم الخطاب الجديد المتعلّق بالمدرسة، لابد في اعتقادي، من فهم طبيعة الأزمة، إذ مِن هذه الأخيرة تنبثق كل السياسات الجديدة في قطاع التعليم.
بالنسبة لي – وهنا لا مناص من استعمال المنهج الماركسي- الأزمة هي بلوغ قدرات الإنتاج أعلى مستوياتها، وتجاوزها للحاجيات sur capacité de production. اليوم وعلى المستوى الدولي، لا يتم استعمال سوى 70 في المائة من قدرات الإنتاج. بمعنى آخر، النظام الاقتصادي يُنتح فقط 70 في المائة، إذا وضعنا في الحسبان التطور التقني ووفرة المواد الخام. لا تعمل آلة الانتاج إلا لتلبية الحاجيات المتوفرة.
نعلم جيدا أننا إذا ما استعملنا كل القدرات، من آليات ومصانع وغيرها، فإننا بلا شك نستطيع إنتاج محطات لإنتاج الطاقة الشمسية والريحية لكي يستفيد منها سكان البلدات في قلب افريقيا، لكننا لا نقوم بذلك، لأن هناك، لا أحد يستطيع أن يدفع التكاليف.
أما بالنسبة للمستثمرين الذين وضعوا أطنانا من المال في مشاريعهم فإنهم أمام معضلة حقيقية خطيرة: أولا، مَن يقول ارتفاع القدرات الإنتاجية في ظل حاجات محدودة، يقول أيضا ركود الرأسمال، وبالتالي فمُلاك الرأسمال مجبرون على البحث عن قطاعات فيها هوامش الربح أكثر، مضمونة، ومستدامة، الأمر الذي يغدو أكثر صعوبة.
ثانيا، المستثمرون مُلزمون بخوض غمار منافسة تزداد شراسة بسبب من هذه القدرة الفائقة على الانتاج، كل واحد يُحاول استثمار قدراته الإنتاجية على أعلى مستوى، منافسا بذلك المُلاك الآخرين في سيرورة متصاعدة..
مشكل المقاولات هو أن الوسيلة الوحيدة لخوض المنافسة هي الرفع من انتاجيتها، وللرفع من انتاجيتها لابد من الاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة، وبما أن كل المقاولات تسعى إلى الحصول على موقع افضل من نظيراتها، فإن ركوض الرأسمال يغدو أمرا لا مفر منه؛ نحن إذا في حلقة مفرغة، فيها شبح الأزمة دائم الحضور.
هذه هي الحلقة المفرغة للأزمة.
أي علاقة لما ذكرناه أعلاه بالتعليم ؟
هناك ثلاثة أجوبة.
– في سياق يتسم بركوض الرساميل لا يجد المستثمرون بُدّا من فتح قطاعات جديدة فيها الاستثمار ممكن، قد تكون دولا كاملة، وقد تكون قطاعات كالصحة والتعليم والنقل … وهنا أصبح قطاع التعليم في مرمى المستثمرين وفي قلب اهتماماتهم، حتى أن إرادة احتكار هذا القطاع، في نهاية التسعينات، دفعت نحو تسريع سىيرورة تحرير خدمات التعليم ووضعها بين أيدي الخواص. اليوم، نعود إلى مزيد من الخوصصة، مع تسجيل فشل العديد من المحاولات في هذا الإتجاه، إلا أن هذه الفترة ( منذ التسعينات إلى يومنا هذا) مكنت المُلاك من سبر أغوار هذا القطاع، لمعرفة أكثر جوانبه خطورة على رساميلهم، وأضمن منابع الربح فيه.
نشهد اليوم التزام العديد من الميادين المرتبطة بالتعليم في سيرورة خوصصة مستدامة: التعليم العالي، التكوين المستمر، (التكوين مدى الحياة) الذي يفرض نفسه أكثر فأكثر على يد عاملة مجبرة على التكيف مع سوق الشغل دائم التغير، وحيث ظهر نجاح سطوة الشركات الخاصة على هذا السوق الذي يتسع أكثر فأكثر.
لم تقف سيرورة الخوصصة عند هذا الحد، بل انسلّت لتستوطن قلب التعليم الابتدائي والثانوي: في فرنسا مثلا، لا يمكن للمرء تحاشي اللافتات الإشهارية التي غزت محطات الباص والميترو، والتي تعرض بواسطتها شركات التعليم بضاعاتها ( الدعم، الاستعداد للامتحانات، التحفيز…)، في مشهد يجعلنا نوقن بأن الأمر يتعلق بمقاولات متخصصة عارفة بحاجيات زبنائها ومستعدة لتلبية حاجاتهم. وبما أن فرنسا من بين الدول التي تسجل أعلى مستويات الفشل المدرسي على المستوى الأوربي، فإنها أكثر الأسواق انتعاشا بالنسبة لشركات الدعم المدرسي.
يقدم النظام التعليمي الكوري الجنوبي أوضح مثال على مدى ضراوة سيرورة الخوصصة؛ في هذا البلد يتجاوز إنفاق الأباء على تعليم أبنائهم ما تخصّصه الدولة لهذا القطاع من ميزانية.
سنة 2000 نظمت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، في واشنطن، ملتقى لابد من بسط خلاصاته في هذه الورقة: ” لم يترك الملتقى لكل المشاركين فيه ذرة شك في أن تطور تجارة الخدمات التعليمية ليس نتيجة لتطور عِرضي أو إرادي، هادف إلى إثراء مجال التربية عبر التبادل الدولي، وإنما هو جزء لا يتجزء، ومكون بالغ الأهمية من مكونات تجارة الخدمات.”
إن هذه الخوصصة – التبضيع privatisation – marchande هي أول محاور تبضيع التعليم.
وهذا المفهوم لا يشمل المدارس الخاصة المُلازمة للمدارس الرسمية ( المدارس الكاثوليكية، مدارس التكوين…) وإنما المدارس التي تنبني على أساس بيع بضاعة هي التعليم، أي ذاك الجانب من التعليم حيث توضع رساميل مالية قصد تطويرها.
المحور الثاني من محاور خوصصة وتبضيع التعليم متعلق أكثر بركوض الرساميل: في هكذا السياق، يعمل رجال الأعمال على الضغط على الدولة من أجل مزيد من التنازلات، و لكي تضع رهن إشارتهم وسائل وتحفيزات القصد منها دعم الأسواق الناشئة.
خير مثال على ذلك، ما شهدته الفترة الممتدة بين نهاية التسعينات وبداية الألفين مع غزو الوسائط التكنولوجية.
سنة 1998 أصدرت المفوضية الأوروبية خارطة طريق و خطة عمل لتحفيز استعمال الوسائل التكنولوجية بالمدارس الأوروبية، وقد رافق هذه الخطة نشر وثيقة من 70 صفحة يَتَغَنّون فيها بأهمية هذه الوسائل ومدى فعاليتها ونجاعتها إذا ما استُعمِلت في المجال التربوي.
بالموازاة مع إعطاء الانطلاقة لهذا الورش، صرحت السيدة إيديت كريسون Edith Cresson، أمام مجموعة من رجال الاقتصاد اجتمعوا بمدينة تور بفرنسا: الهدف الحقيقي الذي دفع أوروبا إلى إدخال الحواسيب إلى المدارس وربطها بشبكة الإنترنت كان هو تسريع تطوير هذا السوق.. بعبارات أخرى، يجب على المدارس أن تستعمل الحواسيب ليس لأنها وسائل بيداغوجية فعّالة، وإنما لأن الأطفال سيتعلّمون استعمال هذه المنتجات في المدارس، تمهيدا لجعلهم زبناء آنيين ومستقبليين للشركات المصنعة لها.
وفي قمة ليشبونة سنة 2000 نُشرت احصائيات أثارت الذهول حيث تبيّن أن 40 في المائة من مشتريات الحواسيب سنة 2000 كانت من طرف الأسر التي تَعلَّمَ أبناؤها استعمال الحاسوب في المدرسة.
ولا حاجة هنا إلى تفسير كيف يتم تقديم كل هذه الأرقام والمعطيات لتزكية طرح المستثمرين القائلين بجدوى استعمال الوسائط الرقمية في مجال التعليم.
إلا أنه ومنذ سنتي 2004 – 2005 ما يثير الدهشة هو تواري هذا الخطاب واختفائه من أوراق المفوضية الأوروبية، لسبب بسيط، هو رُسوّ سوق الرقميات والانترنيت، وبلوغه مرحلة ليس فيها بحاجة للمدرسة لكي يتطور أكثر.
يتضح جليا هنا أن المدرسة تُستعمل لأهداف اقتصادية لا علاقة لها بمهمة التعليم.
وبالإضافة إلى المحورين الذين سلطنا عليهما الضوء أعلاه، هناك محور ثالث، في اعتقادي، هو الأساسي: في محيط اقتصادي متّسم باحتدام المنافسة، وبهروب إلى الأمام نحو مزيد من العولمة، يضغط المحيط الاقتصادي على حقل التعليم لكي يتمركز هذا الأخير حول ما يعتبرونه المهمة الجوهرية للتعليم والهدف الأساسي للمدرسة: إنتاج الرأسمال البشري، أي اليد العاملة الأكثر تكيفا مع تطلعات المستثمرين وانتظاراتهم.
وهذا هو نسميه تكييفا للتعليم مع حاجيات سوق الشغل.
وهذا هو المحور الأساسي لتبضيع التعليم، وعليه سنحاول أن نسلط المزيد من الضوء في ما يلي في هذه الورقة.
إن الفكرة القائلة بتكييف المدرسة بشكل يلائم حاجيات السوق لهي فكرة حاضرة منذ سنوات التسعينات. وهنا لابد من استحضار المائدة المستديرة الأوروبية la table ronde européenne، أكبر اللوبيات المدافعة عن مصالح الباطرونا، وأكثرها تأثيرا في المفوضية الأوروبية، خصوصا وأنها تمثل أقوى الشركات في مجالات الرقميات، وصناعة السيارات، وصناعة الأدوية، والصناعات البتروكيميائة.
نادى أعضاء المائدة المستديرة بضرورة إعادة هيكلة منظومات التعليم بشكل يتماشى مع التطور التقني والصناعي؛ ونظرا لقوة هذا اللوبي، فقد التقفت المفوضية الأوروبية تَوْصِياته، لتُعلن في مؤتمر ليشبونة: ” الهدف من الإصلاحات التعليمية هو جعل المدرسة بأوربا في موقع تكون فيه قادرة على المنافسة ومساهِمة في تطوير الاقتصاد بشكل مستدام…”
إذا سألت مدرسا او أبا وأي مواطن مهتم بحقل التعليم عن الهدف من تطوير المدرسة، فالجواب حتما سيكون: تكوين مواطنين أحرار، شباب يهتمون بالثقافة، متشبعين بالقيم الأخلاقية، يفهمون العالم، وقادرين على لعب دور في تغييره نحو الأحسن…
في أوروبا يكاد يُصبح هذا التصور ضربا من الطوباوية، لأن التعليم، حسب المفوضية الأوروبية، يهدف بالأساس إلى تجويد القدرة التنافسية الاقتصادية وهكذا… وهذا التصور بقي متجذرا، بل وزاد من إلحاحيته بالرغم من سلسلة الأزمات التي ضربت في العمق النظام الاقتصادي الرأسمالي.
” إنه لمن الواضح أن الاستثمار في التعليم يلعب دورا بالغ الأهمية إذ يساعد البلدان على استئناف نموها الاقتصادي بعد الأزمة” تُصرّح المفوضية الأوروبية.
اليوم، تَعِدُنا منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE بأننا لو استطعنا إيصال المتعلمين إلى مستوى 400 نقطة في القراءة ( حسب تصنيف pisa)، فسيؤدي ذلك إلى إنتاج نُمُوٍّ بقدر مائتي ألف مليار دولار على مدى عشر سنوات. إلا أن كل الحسابات من هذا النوع لا تقول شيئا، لأن أي دارس للإحصائيات يدري جيدا عبثية نتائجها، إذ القول بأن الحصول على مواقع متقدمة في تصنيفات بيزا pisa هو سبب للرفع من الناتج الداخلي الخام، هو ضرب من اللامعنى، يدحضه الواقع ( الاقتصادي والاجتماعي) بشكل لا يدع مجالا للشك.
إن العلاقة السببية ( علاقة تصنيفات بيزا بالناتج الداخلي الخام) هي في الواقع عكس ما يتم ترويجه من طرف صناع القرار على المستوى الأوربي؛ لأن تطوير الناتج الداخلي الخام هو سبب في الحصول على نقط أكثر في تصنيفات المنظمة، والقول بعكس ذلك إنما هو ذر الرماد في العيون لا غير .
إلى هنا لم نتحدث سوى عن السياق العام لهذه التحولات التي تشهدها المدرسة: من أزمة وما يرافقها من تغيّر الخطاب، والسياسات، من ظهور وتطور التكنولوجيا الرقمية… لكننا لم ننظر نحو الدولة وموقعها ممّا يحصل، ونحو تحول الشروط الاجتماعية الناتج عن الأزمة.
فحتى لو كان هذا الجانب بعيدا عن موضوعنا المحوري ( المدرسة) إلا أنه يحوي العديد من المعطيات التي تُعينُنا في تمحيصٍ أدقّ لماهية التحولات التي يعرفها قطاع التعليم: إن تطور المنافسة الاقتصادية يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع نسبة البطالة، والزيادة من تفقير الساكنة؛ فالمقاولات تسلط ضغطا أكثر على الرواتب تجنبا لتداعيات المنافسة حيث القوي يلتهم الضعيف، ومن جهة أخرى يؤدي الفقر والبطالة إلى تدني قدرة الساكنة على الاستهلاك، الأمر الذي يؤثر بدوره سلبا على القدرة الإنتاجية.
أما في ما يخص الدولة فإن هذه المنافسة الاقتصادية تفرض عليها تنافسا من نوع آخر يجمعها بغيرها من الدول التي تتسابق نحو جذب المزيد من الاستثمارات.
لكن كيف يمكن للدولة جلب المقاولات؟ الأمر بسيط: بتقديم تنازلات أكثر، تغري المستثمرين، كخفض الضريبة على الثروة، وعلى أرباح المقاولات، وتقليص النفقات الاجتماعية…باختصار، في تنافس الدول لجذب الاستثمارات تسعى كل واحدة إلى خفض أكثر لضغوطاتها الضريبية على الشركات، والنتيجة: تقلّص ميزانية الدولة التي تلجأ إلى تبني سياسات التقشف لمواجهة العجز المالي.
ماذا نقصد بالتقشف؟ إنفاق أقل قدر من المال، أي تخفيض الإنفاق في العديد من القطاعات وعلى رأسها التعليم.
في الفترة الممتدة بين 1945 و 1980 ارتفعت نفقات الدول الأوربية في قطاع التعليم بنحو 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام ثم ب 6 في المائة ( في بلجيكا بلغت نفقات التعليم سنة 1980 إلى 7 في المائة من ن د خ )؛ ومُذّاك عرف عدد التلاميذ انفجارا ضخما إلا أن الانفاق بقي كما هو، بل تقلص في العديد من البلدان الأوربية. إن تقليص النفقات محفز قوي لسياسات الخوصصة.
ولمّا كانت تطلعات المستثمرين متناقضة في جوهرها، فإنهم ينادون من جهة بضرورة توفير تعليم جيد يساهم في الرفع من القدرة التنافسية، وذلك بتكوين يد عاملة قادرة على التكيّف مع متغيّرات السوق، ومن جهة أخرى، يُلِحُّون على جعل هذا القطاع أقل تكلفة.
تعليم جيد بتكلفة منخفضة! كيف ذلك ؟
يجيب انوشيك ( من أبرز الاقتصاديين في منظمة التعاون التعاون والتنمية الاقتصاديةOCDE، أكثر اللبراليين اهتماما بالتربية والتعليم في العالم ): إعادة هيكلة مؤسساتية عوض توسيع الموارد المالية في الإطار المؤسساتي القائم حاليا؛ ما يعني، بعبارات اخرى، من سنة 1945 إلى 1980 عرف التعليم تطورا كميّا، ما أدى إلى زيادة النفقات، لبناء المزيد من المدارس … وقد لعب هذا الانفجار الكمي دورا في طور معين، أما اليوم، فقد أصبح لزاما تغيير هذا المسار؛ لا يجب تخصيص المدارس بالمزيد من الموارد، بل من المفروض تنزيل تقويمات مؤسساتية جذرية في هذا المجال: يعني نحتاج تغييرا كيفيا وليس كميّا. وهذا التكييف هو السبيل الأوحد لتكييف التعليم مع تطلعاتنا كاقتصاديين. “
نجد الفكرة ذاتها في وثيقة اخرى من وثائق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE: ” تطوير تكوين الساكنة جد مُكلّف، لهذا وجب على السياسات التعليمية أن تحدوا نحو ضمان الأرباح الاجتماعية والاقتصادية..”