OCP

خالد جبور عن فيليب ميريو: كيف ستكون هذه المدرسة يا ترى؟

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لفور تنمية: خالد جبور

 

تتعالى أصوات العديد من الذوات الراغبة، فكرا وعملا، في بناء مجتمع إنساني، يستطيع الفرد فيه تحقيق ذاته، وتطويرها؛ فرد يعي جيدا أنه يعيش، مع ملايير البشر الآخرين، على نفس الكوكب، يتشاركون نفس الحب تجاه الحياة، ونفس الهبة تجاه الموت، يتنفسون نفس الأكسجين، ونفس الشمس تدفئ أرضهم وأجسادهم، ونفس القمر يزين سماءهم.

وتتوالى الأحداث مبرهنة للإنسان أينما كان، أننا فعلا بحاجة ملحة لهذا المجتمع، حاجة – مسألة بقاء أو فناء: جائحة كورونا على سبيل المثال، وغيرها كثير.
أمام السيطرة المطلقة على كل مناحي الوجود الإنساني، لأصحاب المال والأعمال القائمة على التنافس الشرس، والاحتكار، والتصفيات الرمزية والمادية، ومع هيمنة تصوراتهم المبنية على الاستهلاك اللامحدود والفردانية الطاغية الرافعة شعار : من سيربح أكثر؟ في نكران للقيم الإنسانية، وفي استهتار بمصير الأرض والإنسان… ومع تغول استراتيجيات اقتصادية ” تقطع الشجرة إن لم تستطع بيع ظلها”… وفي ظل ما يتم ترويجه من خطابات تصوّر أنماطا جديدة للتعليم على أنها الحلول المثلى، السحرية لأزمة مدرسة الحاضر وتشير إلى معالم مدرسة المستقبل… كيف ستكون هذه المدرسة يا ترى؟
يقول فيليب ميريو: ” أخشى أننا لم نستوعب بعد حجم التغيرات الضخمة التي نعيشها، وأننا لم نفهم أنها تجعل الأهداف المسطرة للمدرسة، وممارساتنا التربوية موضع تساؤل بطريقة جذرية”.
فيليب ميريو، عالم تربية () وأستاذ بجامعة Lumière-Lyon 2، نُشرله العديد من الأعمال أبرزها: لذة التعلم LE PLAISIR D’APPRENDRE 2014، رسال إلى أستاذ شاب Lettre à un jeune professeur 2016 … هو أيضا مناضل ملتزم من أجل مدرسة أكل مساواة، يقدّم بعض الإجابات حول معالم مدرسة الغذ، ما لها وما عليها.
هذا الفصل مأخوذ من كتابه الأخير الموسوم ب CE QUE L’ECOLE PEUT ENCORE POUR LA DEMOCRATIE، حيث يطرح وجهات نظره بالموازاة مع بسط مركز لمساره المعرفي؛ أبرز الكتابات التي طبعت رؤيته، وأهمّ التجارب التي ساهمت في بناء منظوره حول المدرسة وأدوارها وطرق اشتغالها.
النص:
من تحليل السمات الشخصية إلى دراسة التعلّمات
عمل العديد من البيداغوجيين على بلورة تصنيفات متعدّدة، ووضع نماذج تفييئية، متفاوتة من حيث الصياغة والمبادئ التي ترتكز عليها. فمن هذه التصنيفات ما يتّسم بالطابع الباروكي المزخرف؛ ك”التصنيف الفلكي للأنواع السيكولوجية” ” classification astrologique des types psychologiques”، والذي وضعه أدولف فيريير سنة 1942، والقائل، مثلا، بأن الأشخاص من برج الدلو، سيستطيعون بسهولة الوصول إلى الوئام الروحي، ما يستوجب مرافقتهم، بكل صبر، والدفع بهم نحو طرق التفكير الفلسفي، بينما أصحاب برج الحمل محكوم عليهم، سلفا، بأن يكونوا أشخاصا متهورين نزقين، ما يقتضي تحوير طاقاتهم الكبيرة وتليينها عبر الممارسات الرياضية الجسدية.
هناك تصنيفات تثير قلقا أكبر؛ على سبيل المثال، التصنيف الذي وضعه ألبير هيوت، (( المستشار الحكومي المكلف بالتوجيه والانتقاء المهني))، في ألمانيا، ما بين 1928 و 1945، حيث يتم تفييء التلاميذ، استنادا حسب المميزات الجسدية والسيكولوجية، إلى أربعة أصناف: ” المتطرفون المسرفون، المبدعون المنتجون، المقلّدون الناقلون، والمعاقون الذين لا نفع لهم.” يشهد هذا التصنيف (العنصري) على النزعة التصنيفية التي كانت سائدة إبان هذه الفترة؛ والتي تجعل من الايديولوجية النازية سياسة ومرجعا في التشخيص: يتمّ وسم الأفراد حسب أصولهم، وخصائصهم الجسدية، وطبائع سلوكاتهم، لعزل النخبة، وترويض القابلين على التحسّن، والتخلّص من غير المرغوب فيهم.
رغم أننا لسنا في منأى عن عودة مثل هذه النزعات المبنية على التصفية العرقية، إلا أن بزوغ المدرسة الاشتمالية (المدرسة التي تشمل جميع أطياف المجتمع)، قد يكون سدا عائقا لأي مد من هذا النوع، شريطة أن تكون مدرسة (مجتمعا)، حيث تشابهاتنا الجوهرية تستطيع تحريرنا من التقوقع داخل اختلافاتنا. ورغم ذلك، وللأسف، لا نزال ننبهر أمام التصنيفات، لدرجة أننا نتسرّع في تأويل المعطيات التي تمكنّ من تحديد طبائع البشر، وفرزهم وفق فئات مختلفة.
نعم.. لدى كل إنسان نصفين دماغيين… لكن لا.. هذين النصفين لا يشتغلان بطريقة معزولة، الشمالي للعقل، والأيمن للمشاعر، ولا أحد بيّن أنه، حسب الأفراد، أحد النصفين يتغلّب على الآخر. نعم، هناك بلا شك ذكاءات متعددة… لكن لا، لسنا محكومين، بصفة نهائية، بالاشتغال ببعضها فقط. نعم، قد نستطيع استحضار ذكرى ما، بصريا أكثر، أو بطريقة صوتية أكثر منها بصرية… لكن لا، ليس محتم علينا، أن نستوعب ونتذكّر، بصريا أو صوتيا، بشكل منهجي إطلاقي، في كل الوضعيات، ومهما كانت مواضيع تعلّماتنا.
في الحقيقة، يحكم اللجوء إلى التصنيفات على من يقع في شراك هذه الأخيرة بحكم مضاعف؛ لأنها دائما ما تكون اعتباطية – لماذا نختار هذا التصنيف دون غيره؟ – ولأنها تتّخذ طابعا حتميا: تحتجز الذات داخل طبيعة افتراضية، في حين أنها من المفروض أن تساعدها على تجاوزها، وعلى تجريب طرق أخرى في الفعل والرؤيا، بغية الوصول لمنظورات جديدة.
لكن، ها هي النزعة التمييزية – وكما هو الحال بالنسبة للرؤيا المساواتية لعلوم التربية- تستفيد اليوم من حلفاء ذوي ثقل كبير. فمنذ سنة 2009، ينعقد في قطر، كل سنتين، بدعم مالي من طرف زوجة الأمير الثالثة ( في قطر لا فرق بين ميزانية الدولة وميزانية العائلة الملكية) ما يسمى ب: القمة العالمية للتربية WORD INTERNATIONAL SUMMIT OF EDUCATION. وكأني بها قمة “دافوس” الخاصة بمجال التربية، كما سماها LE FIGARO: تجمع هذه التظاهرة العديد من ” الخبراء في علوم التربية من مختلف الجنسيات، والمنظمات الحكومية الدولية، و أكبر أسياد الصناعات الرقمية ! يتم تقديم آخر الابتكارات التقنية التي تستعمل في مجال التربية، وتُوضَعُ أُسُسُ ما يمكن أن يكون مدرسة المستقبل، التي، أخيرا، أصبحت حقّا فعالة ومُعولَمة.
في الأفق، يلوح حلم يقضة، حلم نجده موصوفا بكل وضوح في أقوال لورون أليكساندر، أحد أكبر الدعاة لما يسمى ب ” ما بعد الإنسانية”. يقول: ” لقد ولّى زمن إيديولوجيا علوم التربية، لتترك المجال لتحليل التعلّمات التي أظهرت الحجج الإحصائية نجاعتها… سيخرج هذا النظام من نطاق الاستخدامات الترقيعية، ليتحول إلى تيكنولوجيا حقيقية. إنّ ظهور المسجّلات الدماغية الغير مؤذية، الغير مُكَلّفة، والتي ستمكّن من قياس العديد من الثوابت، بصفة مستمرة، ستجعل ممكنا الربط بين كل هذه المعطيات مع خصائصنا المعرفية.”
لهذا ـ حسب صاحبنا- سنستطيع الوصول إلى معرفة مضبوطة للخصائص الإدراكية، والشعورية، والاجتماعية للفرد انطلاقا من هاتفه النقال ” الذكي”. ويضيف: “يكفي توزيع هواتف ذكية ولوحات رقمية على الأطفال، في أقرب وقت ممكن، وسيتكلّف الذكاء الاصطناعي لعمالقة المجال الرقمي بتحديد أفضل الخصائص البيداغوجية لكل تلميذ، وبشكل جد دقيق. ”
من يدري؟ قد نستطيع، مستقبلا، تطوير التسويق الدماغي وبيع برامج تربوية وتعليمية للآباء؛ وهكذا، سيستفيد كل طفل من تعليم فردي، مما سيعفيه من فريضة الذهاب إلى المدرسة: سيعمل طيلة اليوم، أمام لوحته الإلكترونية الموصولة بحاسوب ضخم، حاسوب من الممكن جدا أن يكون موضوعا في أحد المكاتب، في إحدى جزر الكايمان، أي في إحدى الجنّات الضريبية.
أنا لا أقول أن كل المناصرين للرقمنة يتبنّون مثل هذه التصورات، ويفضّلون، كما قال بيرنار شارلو: ” أن يصنعوا الرجال الآليين عوض تربية طفل “. لكن لابد من أن أشير، إلى أن هذا التصور أصبح مطروحا أكثر فأكثر، خصوصا إذا ربطناه بالنيّة المعلنة للعديد من الحكومات للتخلي عن الأنظمة التعليمية التي تعتبر هذا القطاع ضربا من هدر الميزانية، وخاضعة لإرادة المدرسين الذين يصعب ضبطهم. إنهم يفضلون التخلص من التعليم، وجعل شؤونه تدبيرا يتم تفويضه للفاعلين الخوّاص، هؤلاء سيسعون جاهدين ليس فقط لضمان الأرباح الاقتصادية، وإنما لتحديد الأهداف المرجوّة من العملية التعليمية، بشكل يجعلها تتلاءم وتطلّعاتهم الآنية والمستقبلية.
يجب إذن أن نكون حذرين من التحمّس الشديد والممنهج تجاه الاختلافات، وأن نهاب فكرة أنها يمكن أن تحوّل أنظمتنا التعليمية لمعامل لتدجين وترويض البشر، تحشوا كل فرد بمعارف ومناهج، تجعله حبيس فردانيته واختلافاته، عوض مساعدته على بناء حريته، بجعله قادرا على التمايز الايجابي.

” أن نصبح ما نحن عليه ” يبقى مثلا لا للإنسان وإنما للأشياء. أن نتأنسن، يعني أن نختلف عمّا ورثناه، أن نتفادى الاحتماء في ثنايا المُعطى الثابت، يعني أن نعيش وفق مشروع وجودي، أن نخطّط، وأن نخلق ذواتنا في مستقبل غير مكتوب سلفا.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.