الباحث في الفلسفة المعاصرة يوسف مريمي : الذي يرتدي قناعا لا يتعرف عليه الشيطان..
فور تنمية
ضمن سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا .
نستضيف في الحلقة السابعة عشر من حواراتنا الأسْتاذ الباحث في الفلسفة المعاصرة يوسف مريمي الذي يرى أن الوباء ، هو تذكير بقيمة الحياة، وقصرها، وهشاشتها.
مرْحباً بالأسْتاذ والباحث في الفلسفة المعاصرة يوسف مريمي، أتقدّم لك بدايةً باسمي وباسم جريدة فور تنمية بالشكر الجزيل على قبولكم إجراء هذا الحوار معنا، وأوَدّ أن أَبْدأَهُ، بالتساؤل عن معايناتكَ لوضْع “الجسَد” في زمَن “كورونا”، خصوصا إن علمنا أنه يشكّل مداراً من مدارات بحوثكَ الفلسفيّة؟
تحية لكم ولمتابعيكم، وخالص الشكر لكم على مجهوداتكم القيمة. لا شك في أن الظرفية الراهنة لحدث الجائحة وهو في بداياته، لا تسمح باستخلاص دروس أساسية حول فيروس فرض علينا حجرا صحيا بصورة قسرية وعاجلة. فعلى كثرتها وتعارضها وحتى تفاهتها، لا تتيح المعلومات المتوفرة عبر وسائل الإعلام، والتقارير المتناسلة، تقديم أي استنتاج واف حول ما نعيشه اليوم. فما حدث قد حدث: اجتاح الفيروس العالم، وأجبرنا على التحصن والاختباء في المنازل ضد لا مرئي يترصدنا هناك في الخارج، محتلا الطبيعة والمدينة والأغيار، ومتربصا بأجزاء من أجسادنا، يرى فيها بوابته الوحيدة للفتك بالإنسان، أو على الأقل إضعافه. ;بالنسبة لمن ينطلق من مسلمة لا وجود إلا بوصفه وجود في العالم، لا يعد العالم مجرد نسق من المواضيع الطيعة المنذورة للتذليل والتسخير، بل هو في المقام الأول محل إقامة. فالعالم الذي نحيا فيه حسب هذه المسلمة هو إلى جانب كونه فرصة لتحقيق مشاريعنا وحريتنا، فهو كذلك عالم حواجز وعوائق، أي تهديد للكينونة، أو كما يقول برغسون: إنه العالم الذي نحيا فيه بصورة عمومية. والواقع أن الجائحة تظهر بجلاء الوضعية التي يحياها الكائن البشري ابتداءا، أي أنه ليس جوهرا مفكرا مفارقا، ولا يسيطر تماما على العالم الطبيعي والمجتمعي الذي يضمه سلفا، بل إنه ذات ترتبط جسديا بالعالم، وتندرج ضمن نسيجه. لقد اعتقد الإنسان أنه استطاع تطويع العالم وتسخيره، لكنه لم ينتبه إلى مقاومة ومكر اللامرئي واللامتوقع. فمن طبيعة الإنسان أنه يميل إلى النسيان، وإلى أفكار واضحة ومضمونة العواقب، غير أنه يتعامى عن التناقض، وينسى أن التراجيدي، كما يقول ميغيل دو أونانومو، هو قاعدة الوجود؛ وأن الهدوء غالبا ما يسبق العاصفة. وهكذا ينبثق الحدث، الجائحة ويخلع جلده كاشفا عن تقلب جديد، ليقلب كل شيء رأسا على عقب. في أجواء الحجر هذه، ننتبه أيضا إلى الجسد وهو يجرب تجربة المكان المحجور. وهي عين التجربة التي اختبرها الروائي مارسيل بروست الذي قضى جزءا كبيرا من حياته منعزلا في غرفته، هاربا من جو المدينة الملوث (كان مريضا بالربو)، حيث كان من ثمرات انعزاله روايته الضخمة، في البحث عن الزمن الضائع. وفي تجربة المكان المحجور ننتبه فجأة إلى أننا لسنا حبيسي عقولنا، بل نغادر كهف المثل لكي نختبر ذلك الشعور المميز الذي يجعلنا مقيدين بوجود من نظام متفرد، لا قائمة لنا بدونه، لكن تفصلنا عنه متاهات الحياة العادية؛ إننا ننتبه إلى الجسد، ونكتشف من جديد بأننا أجساد ليس إلا. لكن يبدو أن تجربة المكان المحجور مختلفة هذه المرة، لأنها في زمان سطوة الافتراضي. فلا يمكن أن نقول مع باسكال تكمن تعاسة الإنسان في كونه لا يستطيع أن يظل مرتاحا لوحده في غرفته، بل صار بوسع الإنسان أن يقضي الساعات، بله الأيام، دون أن يبارح بيته. فإنسان اليوم قادر على أن يجلس في بيته ليوم أو أيام، بشرط أن يتوفر على هاتف أو لوحة إلكترونية تجعله ينفتح بجسده على العالم. وهذا ربما ما انتبه إليه ميشال سير في كتابه الأصبع الصغرى، بقوله إن العالم أضحى بين يدي الإنسان، فأنا أقبض الآن على العالم بين يدي. فليس علينا سوى أن نقوم بمجهود عضلي بسيط، ينحصر إنجازه هنا في الأصبع الصغرى، حتى نخلق عالما ونرتمي فيه كليا. فأنا أمام شاشة الحاسوب، أعمل مع شخص في قارة أخرى، وأكون في أمكنة مختلفة، وأقوم بأعمال لها تأثير فعلي. فالصغرى صارت بوابتنا لولوج العالم. وفي علاقة مع الافتراضي تتقدم ملاحظة أخرى، ترتبط باهتزاز بذلك النمط الذي أطلق عليه ليفيناس المواجهة أو الوجه لوجه، فالجسد اليوم، الراغب في دوام الصحة، هو الجسد الذي يفضل التواري ويجيد لعبة التخفي، لقد اهتز نمط الوجه لوجه، وبرز نوع من التدابر واللامباشرة. والواقع أن استعمال الأقنعة في الماضي كان بغرض تمويه الأرواح الشريرة أو تضليل الشياطين، خصوصا في الاحتفالات والطقوس الدينية، وهو شكل من التواصل مع اللامرئي الخارق والمتوهم. كما كان ارتداء الأقنعة من أجل طرد الأشباح والأرواح التي نتنقل أيام الأوبئة من إنسان لآخر. ويقال أن شعب المكسيك كان يستعمل الأقنعة أيام الجوائح والأوبئة، فالذي يرتدي قناعا لا يتعرف عليه الشيطان. ونحن اليوم نستعمل أيضا الأقنعة، لكن وقاية من لامرئي حقيقي، يفرض علينا تواصلا مغايرا، وعلاقة جديدة مع أجسادنا وأجساد غيرنا، تتسم إلى حدود الساعة بكثير من الحذر والتباعد. وبذكر التباعد، تبرز ملاحظة أخرى، وهي أن الجسد اليوم هو أيضا موضوع للتشريح السياسي وللسلطة البيوطبية. يتعرض الجسد لشكل من التدبير والاستشمار، فنحجر عليه من أجل سلامته، لكن نسمح له بأن يتنقل نحو مكان عمله، لا سيما من أجل تأدية وظائف اقتصادية واجتماعية ضرورية. فالحجر مناسبة لتطويع الجسد، وتمرينه لكي يكون خاضعا ومنذورا للاستعمال النافع. والتمرين الذي ينبغي على الجسد أن يتمرس عليه هو تمرين التباعد الاجتماعي، من خلال تقنيات التهذيب (الإغلاق والتسييج وغيرهما من التقنيات التي تحدث عنها ميشال فوكو)، والتركيز على استعدادات تسمح بالرفع قدر المستطاع من قدرات الجسد. فالمكان المحجور الذي يجربه الجسد هو أيضا مكان تهذيبي، بل إن التهذيب اليوم يهدف إلى أن يحكم قبضته على الأمكنة الافتراضية.
تبحث أستاذ يوسف في فلسفة ميرلوبونتي، ومعلوم أهمية الرجل في دراسة العلاقة بين الذات والآخر، وفي سياق عالميّ وفرنسيّ معروف، اليوم من شأن “كورونا” وما رافقها من إجراءات أن تحدث تصدّعاً في علاقتنا بالآخر، ما رأيكم في الموضوع؟
يتبوأ مفهوم الغير في فلسفة مرلوبونتي مكانة متميزة، لأنه في نظره مفهوم جديد، لم يحظ باهتمام الفلسفة إلا في الفترة الحديثة، وبالتحديد في فلسفة هيغل في معرض حديثه عن جدلية السيد والعبد في فينومينولوجيا الروح. ولا بد للناظر في فلسفة مرلوبونتي من أن يعجب للمنزلة التي ينزل فيها هذا الفيلسوف الأنا الآخر، وهو الفيلسوف الذي عاش حياة عائلية هادئة، وعايش أحداث الحربين العالميتين. بحيث يبدو أن الغير يحتل مرتبة أفضل بكثير من مرتبة الذات، بل يصير الغير مناسبة لانتقاد هذه المقولة ومركزيتها وانعزالها. وكان من نقده لهذا المفهوم أن اكتشف أن الأصل هو الغيرية، أي أن الذات هي مقولة ثانوية تتأسس على قاعدة البين ذاتية. وفي هذه الأيام الصعبة، التي يحتاج فيها الناس إلى شجاعة متزنة، وإلى النظر بتروٍّ في الشرور المحدقة، فإن ثمة حاجة ملحة إلى مراجعة تمثلاتنا لذواتنا وللأغيار، وتجاوز كثير من الأحكام المسبقة والكليشيهات التي تصور لنا الآخرين تبعا لأهوائنا وقناعاتنا وتطلعاتنا، وتختزلهم بذلك إلى ذاتية متحجرة، ومزهوة بذاتها وتقاليد بائدة، وترفض أن تقدمهم كما هم، أو أن تراهم بلا تشنيع. تستعمل هذه النظرة المزيفة نظارات الوصاية، وتضع بينها وبين الآخر حجابا للجهل يتلون بشتى ألوان الوهم الذي يحمله المرء عن نفسه وثقافته، وعن الآخر وثقافته. ولهذا ثمة حاجة إلى الفينومينولوجيا التي تسعف بمنهج يرفع كل ما من شأنه أن يعيق مطلب الفهم الجدي، الذي يسعى إلى العودة إلى الأشياء ذاتها، خلف كل مسبقات الحس المشترك. ولسوء الحظ، فأزمنة الأوبئة، هي مرتع خصب لأنواع شتى من التعصب والكراهية. ولهذا نسمع ما اعتدنا سماعه من أحكام كسولة، ترد كل شيء إلى مقولات جاهزة، فالفيروس هو جندي مسلط على أعداء الدين، وكذلك الحرب، والطوفان والزلازل، والطاعون، إلخ. وتخفي هذه المسبقات نزعة طهرانية، تمجد الذات بجعلها مصدر الطهر والأمان، وتشيطن الآخر وتعده سبب اللعنة والوباء. والمستغرب هو أننا نضخم أتفه ما عندنا، في سبيل الاستخفاف بأعظم ما عند الآخر. والمخيف في الأمر هو أن هناك فئة كبيرة من المتعلمين لا زالت تكرر هذه الأحكام، فيعيدون ما قاله الأقدمون سابقا، بطرق مستمدة، كما يقول العروي، من جامعاتي كامبريدج والسوربون، ويسود منطق القول على منطق الفعل. فالمحتوى هو عينه، لكن بوسائل جديدة، فتتكرر تلك الثنائية المانوية بين النور والظلام، والهدى والضلال، بلا كلل أو ملل. لكن ولحسن الحظ، فالأزمنة المظلمة هي أيضا مناسبة لإعادة النظر في الآخر من منظور مغاير. حيث أضحى من اللازم أن لا نقدس جهلنا بالآخر، وأن لا نخاف من معرفته. فالغير هو علاقة بالذات، دائمة الانعطاء، وخزان لا ينتهي من المعنى، شأنه في ذلك شأن الطبيعة. ولهذا فأحكامنا الجاهزة غير قادرة على فهمه، واختزاله إليها يعبر عن رغبة في عدم الفهم والإقصاء. ولهذا يتعين، إن شئنا الفهم، أن نتخذ منظورا كونيا، يأخذ بعين الاعتبار إنسانيتي وإنسانية الآخر، وأن لا أقف فقط عند ما أعرفه أنا عن نفسي وأحكم به، بل أن أنظر في نفسي بعين الآخر وفي مرآته. وآنذاك سيتحصل لي أن علاقتي بالآخر هي مسألة غير ثابتة، بل هي جدلية لا تنتهي من الفعل والانفعال، الأمن والتهديد.
هل تعتقد أن هذه التحوّلات إنباء بميلاد إنسان جديد؟ ماذا عساها تقول لنا الفلسفة في هذا الباب بالأساس؟
في بقاع محددة من عالمنا هذا، أقصد على سبيل المثال مجتمعات غرب إفريقيا، يتساقط الناس صرعى بالآلاف كل عام، بسبب فيروسات فتاكة: إيبولا، والمالاريا، والسيدا، وأمراض أخرى مميتة كالكورونا. ونفس الأمر يحدث في بلدان أخرى لا نعلم عنها شيئا، كأفغانستان، والهند، وباكستان إلخ، حيث يموت أناس، بسبب أمراض قاتلة، معروفة أو مجهولة، وينجو آخرون، وكأن لا شيء يحدث. ولا يتساءل الناس حول ذلك أو يندهشون، فكما لو أن ذلك قدر محتوم. لكن اليوم، يضرب الفيروس العالم برمته، بما فيه المجتمعات الغنية والمتقدمة. يفتك بالعالم الثالث، مثلما يفتك بالأوروبي، وكذلك الأمريكي الذي قال رئيسه إن الوباء لا يعدو أن يكون مرضا صينيا، والأرجح أنه لن يصيب بلاد العم سام. لقد أصاب الإنسان الذي ظن نفسه معصوما من شرور العالم المتخلف، وبأن مناعته أقوى بفضل نمط عيشه المتقدم. فإذا بنا نعاين أجهزة طبية خيالية تهتز أمام هذا الفيروس، وشوفينية مقيتة تحمر خجلى بعدما كشف الفيروس النقاب عن تهافتها، وحجج سياسية رفع الستارعن مغالطاتها. فهل يؤذن هذا بميلاد إنسان جديد؟ نعم، بشرط أن يكون هناك تعريف للإنسان متفق عليه. بيد أن الإنسان، كما يقول نيتشه هو ما يتعذر تعريفه. فالإنسان هو الكائن الذي تلعب فيه التغيرات العميقة، لكنه يبقى هو هو، أي إنسانا لا أقل ولا أكثر، فلا هو بالبهيمة ولا هو بالملاك. وكل محاولة لتعريفه هي، كما يقول مرلوبونتي، صيد بلا طريدة، لأنها محاولة تجد نفسها أمام خاصية أساسية تميزه، وهي عبقرية الغموض والالتباس. فما يوجد إذن هو إنسان في علاقة مع محيطه بأحداثه التي يتعين عليه أن يتكيف معها أوأن يتجاوزها. ليست الفلسفة دينا للإنسانية يدعي التجاوز النهائي لتناقضات الوضع البشري. فما نعلمه هو أن ثمة عالم قائم، ينعطي بشكل دائم، وعلاقتنا معه ليست ثابتة إلى الأبد. كما أنه ليس علينا أن نحكم على مستقبلنا بماضينا، لأن التاريخ لا ينبغي أن يكون لاهوتا مقنعا، بتعبير نيتشه، كأن ينطوي على غائية حتمية أو فكرة تقدم ضروري. وبخلاف الشوفينية الإنسية، تحمينا الفلسفة من الاغترار بالأوهام الأنثروبولوجية وعزاءاتها، لكنها تدفعنا إلى أن نتجرأ على التفكير، بأن ننظر وجها لوجه في الكارثة، وبشجاعة هادئة، تجعلنا نتوقع أي شيء. فهي توقظ القلاقل، وترفض البلاهة التي ترى أن الكارثة لا ترتفع، لأن المستقبل يتعلق دوما البحاضر. عكس أوديب الذي فقأ عينيه لكي لا ينظر في الكارثة، يمعن الفيلسوف النظر في الحدث وهو في طور فعله، وشق سبل للمقاومة. أما ما يمكن أن نلاحظه بخصوص تغيرات ما بعد كورونا، فلعله سيكون على مستويات بنيوية أساسا، وعلى الخصوص في المجالات العلمية والطبية. لقد شاهد العالم كيف اهتز العلم في بلاد العلم، لكن شاهد كيف خضع السياسي لرجل العلم، والمنزلة التي يحتلها العلماء في المجتمعات المتقدمة، في حين تطغى المقاربة الأمنية على المجتمعات النامية والمتخلفة. شاهدنا مثلا كيف يعارض فاوتشي الرئيس ترامب على الهواء مباشرة. وأغلب الظن أن العلم سيشهد ثورة عميقة ومزلزلة، بعدما تبين أن الإنفاق على الأجهزة العسكرية لا يمكن أن يحمي من فيروس لا يرى بعين الدبابة أو الطائرة المقاتلة. وبالإضافة إلى ذلك ستكون هناك تحولات على مستوى التنقلات بين الدول والحركية بينها، إلى جانب تحول معين في مجال العمل الذي أضحى يشجع على العمل عن بعد.
كيف تنظر إلى جدلية الموت والحياة في زمن الوباء؟
تلهم الأزمنة الصعبة، حيث يكشر التراجيدي عن أنيابه، صنوفا شتى من النغمات فيما يخص نظرة الأفراد للموت والحياة. فقد يرمز الوباء إلى قنطرة نحو الحياة الأخرى، أي قضاء وقدر، عقاب للمسيئين، وابتلاء للمؤمنين الذين إذا صبروا، يدخلون الجنة. ومهما يكن، فالوباء في نظري، هو تذكير بقيمة الحياة، وقصرها، وهشاشتها. وبصفة عامة فهو تذكير بحقيقة بديهية نتناساها، وهو أننا سنموت يوما ما. وفي تأويل لطيف لأسطورة برميثيوس لأسخيليوس، يقدم هذا الأخير بروميثيوس وهو يتباهى بأن أهم ما قدمه للجنس البشري، ليس هو النار، وإنما لكونه أغضب زيوس لدرجة أن أخفى عن الناس مواعيد وفاتهم. ذلك أنهم كانوا قبل ذلك، يقضون حياتهم في إطراقة دائمة، يسببها لهم انتظار ساعة الموت التي كانوا على علم بها. ولما نسوا ذلك، شغلوا أنفسهم عن الموت بالعمل، مستفيدين من النار التي قامت بتفعيل الجانب الحرفي الذي كان كامنا في الإنسان، فنشأت الفنون والصنائع، وتناسى الناس موتهم، برغم أنهم الكائنات الوحيدة التي تعي بأنها ستموت يوما ما. وتتكرر الأحداث التراجيدية التي تذكرنا بحقيقة أننا سنموت، والأهم أنها تذكرنا بحقيقة أعمق وهي أنه ينبغي أن نحيا. فالحدث بهذا المعنى هو فرصة لكي نستأنف الرحلة من جديد. وبهذا الصدد، فوجئت ذات قراءة لأحد مؤلفات الأستاذ محمد عابد الجابري (الذي نحيي هذه الأيام ذكراه)، بحديثه عن خاطر شيطاني. استغربت كثيرا أن تصدر خاطرة كهذه عن مفكر طيب خلوق كما يصفه طلبته ومعارفه. يراهن الجابري في خاطرته، ربما في لحظة يأس، أو بالأحرى شك، على المكون البيولوجي للإنسان، الذي بموجبه نكون كائنات منذورة للموت، بعدما أخفق المكون الثقافي في إحداث التغير المنشود. العوائق حسب هذه الخاطرة عوائق بيولوجية، تلغى بالموت، أو تلتغي بذاتها من حيث هي متعضيات فانية. وكأنه يكرر القول: “كفى بالموت واعظا”. لكن العظة لا تكون إلا للحي. ولهذا يعود الجابري ليلعن شيطانه، ليرى بأن الموت يعد لا شيء، وأنه مجرد فرصة لاستنهاض الهمم، لأنه يريد أن يضحي بالحياة بسبب لحظة يأس تقبر الإرادة الإنسانية. لقد جاءت هذه الخاطرة في كتاب متأخر من حياة الرجل، وهو الإصلاحي الذي أفنى عمره في محاولات إصلاح الفكر والسياسة. فكأنه يقول: “لقد جربت كل الحلول، لكن الحال هو الحال، ولن يرتفع إلا بالزوال”، لكن المفكر لا يستسلم للموت، لأن الموت هو لا شيء، فلا إصلاح فيه ولا تفكير. وبالتالي فالحدث يمكن أن يكون فرصة حقيقية للتغيير نحو الأفضل، شريطة أن تنفد هذه المعاني عبر جدران عقليات متحجرة، وأن تتضافر الإرادات الفردية في إرادة تجعل ما على هذه الأرض يستحق الحياة. خلاصة التذكير إذن هو أنه يذكرنا بأن علينا أن نحيا، وأن لا نغتر بالأوهام، لأننا لا نعلم من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون. يقول الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة بعنوان الطلاسم: “جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!” ولهذا، فكلما وقع بصري على لوحة تصور الكوارث، أو الحروب، أو على لوحة تصور احتفالا أو مأدبة، إلا وتذكرت إحدى الحكم الدهرانية العميقة: “كلوا واشربوا وامرحوا، فإنكم غدا قد تموتون!”