OCP

الباحث في الفلسفة المعاصرة المشهوري : كورونا كشفت مظاهر الاستغلال والاستلاب، والقهر والإذلال والاستبداد

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فور تنمية

ضمن سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا ..

نستضيف في الحلقة العشرون من حواراتنا الأسْتاذ الباحث في الفلسفة المعاصرة محجوب المشهوري الذي يرى أن كورونا قد عرى الكثير من الاختلالات والإشكالات المرتبطة بالوجود الاجتماعي والسياسي للإنسان المعاصر، والتي يمكن تكثيفها في هيمنة تشييئ الإنسان واختزاله في الإنتاج والاستهلاك

باسم جريدة فور تنمية أتقدم بالشكر الجزيل لقبولكم إجراء هذا الحوار معنا، ما الذي استوقفكم، أستاذ محجوب المشهوري، في “حدث” اكتساح كورونا للعالم؟

– شكرا جزيلا لجريدة فور تنمية على الاستضافة، وأتمنى للأعضاء الساهرين عليها كامل التوفيق و العطاء المتواصل.

        أشير في البداية إلى أن مفهوم الحدث يحتل مكانة بارزة في الفكر الفلسفي المعاصر وعلوم الإنسان. فعلى سبيل المثال، تؤكد المفكرة حنا أرنت على ” أن الفكر، من حيث هو كذلك، ينشأ من اختبار أحداث حياتنا، ويجب أن يظل منشدا إليها وحدها بوصفها المعالم التي ينبغي أن يرتكز عليها”. ومن هذا المنطلق، فأن نفكر، فهذا لا يعني فقط أن نتحرك ضمن ما تم التفكير فيه سلفا، وإن كان هذا الأمر ضروريا لا محالة، بل يعني أيضا أن نستأنف التفكير على محك الحدث.

       ومن بين أهم ما شد انتباهي في حدث كورونا هو وقعه الهائل؛ فلا يتعلق الأمر هنا بكارثة طبيعية مست منطقة من مناطق المعمور دون غيرها، ولا بحرب بين دولتين أو أكثر، أو بأزمة مالية أثرت على اقتصاديات بعض الدول، وغيرها من الأحداث الهامة التي وقعت بين ظهرانينا بالأمس القريب، وما تزال تداعياتها سارية إلى اليوم. بل يتعلق الأمر على وجه التحديد بتهديد حقيقي يمس الوجود الإنساني في صميمه، ويضع حياة الناس جميعهم على المحك. فلم يعد الموت كخطر وشيك، يعني الآخرين بوجه عام، وإنما يعنيني أنا وأنت والجميع في أي لحظة. لذلك، فوقع هذا الحدث ربما يتجاوز وقع الصدمة أو الأزمة أو الرجة، لاسيما وأن هذا الحدث الهام لازال يحدث، ولا زال مفعوله يسري فينا بقوة في ظل أفق غامض. لقد مزق هذا الحدث-الوباء جريان الأحداث العادية والهامة على حد سواء.

        وما أثار دهشتي كذلك، هو أن قوة اكتساح هذا الوباء (كورونا) شكلت اختبارا حقيقيا لقدرة الإنسان على الفعل في الطبيعة، وأماطت اللثام عن جملة من الشعارات والقناعات التي طالما تغنى بها الإنسان من قبيل أن الإنسان سيد على الطبيعة ومالك لها، وأن ما وصل إليه التقدم العلمي والتقني كفيل بالقضاء المبرم على معضلات العصر. وأننا نعيش عصرا معولما يسير بعزم نحو تحطيم الحدود وتحقيق حرية الإنسان ورفاهيته في هذا العالم الشبيه بقرية صغيرة، وغير ذلك من الشعارات والمزاعم. لكن ما الذي يحدث اليوم على مسرح العالم؟  فما نراه اليوم هو أن متاريس الحدود مغلقة بإحكام إلى أجل غير مسمى. وإذا كنا نرى ونسمع من حين لآخر حالة الطوارئ في دولة معينة لأسباب مختلفة، فإن اللافت للنظر هو هذا المشهد شبه المعمم دوليا لحالة الطوارئ والحجر الصحي، لسبب واحد هو الحد من انتشار هذا الوباء الفتاك. وما استتبع ذلك من إجراءات تدابير قلصت حركة الناس إلى حد كبير.

  وعلى مسرح هذا المشهد الغريب، تختبر اليوم إمكانات وقدرات الدول على التصدي لهذا الوباء ومحاصرته في أفق القضاء عليه.

        صحيح أن العديد من الدول أبانت عن كفاءاتها العالية في قدرتها على فرض حالة الطوارئ والحجر الصحي بحكم صلابة جهازها الأمني، مقابل ضعف ملحوظ -وإن بدرجات متفاوتة -في نجاحها في توفير الرعاية الصحية اللازمة لجميع مواطنيها، وتقديم الخدمات الاجتماعية لكل الفئات المتضررة من تأثير هذه الجائحة، وارتباكها – إن لم نقل فشلها-في الموازنة بين الحفاظ على صحة مواطنيها وضمان الدينامية الاقتصادية. وهذا الأمر يطرح الكثير من الأسئلة حول مدى متانة النموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي تتبناه العديد من الدول اليوم.

     وبودي أن أشير كذلك إلى أن ما واكب الانتشار السريع لهذا الوباء من سيل هائل من المعلومات والتقارير والأخبار الرسمية وغير الرسمية، الصحيحة أو الزائفة، يضغط علينا بكثافة، وبالكاد يترك لنا المسافة الكافية لفهم ما يحدث. لذلك، ربما سيكون من باب التسرع والادعاء الإدلاء بقول فصل في هذا الموضوع بالذات.

س: في سياق رد الفعل تجاه ما أعقب كورونا من صخب، أستاذ محجوب، فر بعضنا إلى الدين احتماء من خطر الوباء، ولاذ آخرون بالعلم اعتقادا منهم أنه الملجأ الأمن، واختارت فئة عريضة اللامبالاة إزاء الحدث، مثلما استلهم آخرون الفلسفة لفهم ما يقع، كيف تقرأ ذلك؟

ج: يرتبط الفهم والتفسير والتأويل وغير ذلك من الملكات والقدرات العقلية بالاستعدادات والكفاءات الذاتية للأفراد، كما يرتبط بخبراتهم وثقافتهم ومحيطهم الاجتماعي وتنشئتهم الاجتماعية، إلخ. وحينما يطرأ حدث بالحجم الهائل، فإن مسألة المعنى تطرح نفسها بشكل حاد. وعلى هذا الأساس فمن الطبيعي أن تكون ردود أفعال الأفراد والجماعات متباينة داخل المجتمع الواحد.

    وهكذا، فقط لاحظنا منذ ظهور هذا المرض، وحتى لحظات تصنيفه رسميا وباءا قاتلا، ردود أفعال متباينة لدى شرائح واسعة من المجتمعات تتراوح بين الخوف والهلع، وبين اللامبالاة والاستخفاف حد الاستهتار أحيانا. حيث حرك الخوف المبالغ فيه، لدى البعض النزوعات الطبيعية المتجذرة في الإنسان، وبدا وكأن الأمر أشبه بصراع من أجل البقاء. كما أن تفاعل البعض الآخر بنوع من اللامبالاة والاستخفاف يطرح السؤال حول مدى تشبع مجتمعات اليوم – خصوصا على مستوى السلوك-بالثقافة المدنية وبالعلم والمعرفة.

       وإذا جاز لنا أن  نلتمس  بعض التبريرات للعوام من الناس ردود أفعالهم هاته، كأن نقول مع  دو طوكفيل ” إن اللامبالاة والإعراض عن الشؤون العامة سمة مميزة للمجتمعات الديمقراطية الحديثة”، هذا بالإضافة إلى تفشي ثقافة الاستهلاك والفرجة، وتشجيع البلاهة والذوق الرديء..، فإن ما لا يمكن تبريره ولا استساغته هو ردود أفعال عدد من قادة هذه المجتمعات؛ فأن  يتصرف رئيس دولة كدولة أمريكا أو بريطانيا، بجهل وبعدم  اكتراث تجاه الخطر الحقيقي الذي يتهدد المواطنين، ومهما كانت الظروف والأسباب، فهذا أمر لا يمكن تحاشيه وغض الطرف عنه. أليس من حق هؤلاء الأشخاص الذين تضرروا بسبب قرارات سياسية لامسؤولة أن يطالبوا بالعدالة ورفع الظلم الذي وقعوا ضحية له؟

     ومع تصاعد وثيرة انتشار الوباء في العديد من بقاع العالم، ارتفع منسوب الخوف، ولاذ العديد من الأفراد والجماعات إلى التبريرات والتأويلات والتفسيرات الدينية المتضاربة، ولاسيما  في المجتمعات التي يهيمن فيها الدين على أفكار ومشاعر وسلوكات الأفراد كالمجتمعات الإسلامية، حيث ارتفعت أصوات مبررة لهذا الوباء القاتل بعقاب إلهي عادل جراء زيغ  العباد عن الطريق المستقيم، وإمعانهم في ارتكاب المعاصي والفواحش و الآثام، بينما انبرى البعض إلى تبرير هذا الوباء البلاء بأنه محنة ومنحة ربانية جاد بها الإله  على عباده المخلصين ليثبت أقدامهم على الحق.  وتضاربت الفتاوى والتبريرات بين من يعتبر أن الامتثال لقواعد الحجر الصحي، والأخذ بنصائح الأطباء والعلماء هو امتثال لأوامر الله، وبين من يذهب عكس ذلك، إلى رمي هذا الامتثال بالمروق عن الدين والخروج عن طاعة الله. غير أن القول الحاسم في هذا الجدال المحموم لم يكن بيد الفقهاء ورجال الدين، وإنما جاء على يد الدولة، والمتمثل في قرار سياسي يقضي بإغلاق دور العبادة       (مساجد ، كنائس…) إلى أجل غير معلوم ، وفرض الحجر الصحي على الجميع. وربما سيفهم الناس اليوم، أو على الأقل أتمنى ذلك، في ضوء ما حدث، أن الدين كيفما كان، وكما يقول جون  ستيوارت ميل ، “لا يؤثر بقوة حقيقته الجوهرية، وإنما يستمد قدرته على التأثير من المؤسسات الخارجية التي تحتضنه وترعاه كالسلطة والتربية و الرأي العام”.

       وفي سياق ردود الفعل دائما، برز الطلب والرهان على الطب والعلم بشكل تدريجي. ولربما يعود السبب في ذلك إلى قوة حضور الخطاب الطبي على مستوى الإعلام الرسمي في هذه الظرفية الاستثنائية. هذا بالإضافة إلى أن العلم حقق نتائج معتبرة في محاربة الكثير من الأمراض والأوبئة. رغم أنه وجد نفسه اليوم أمام اختبار حقيقي أربك قدرته على التوقع.

  ومهما يكن من أمر عدم تمكن المتخصصين والعلماء من إيجاد لقاح يقضي على هذا الوباء إلى حدود اليوم، فإن الجهود المبذولة في مجال الرعاية الصحية والعلاجات البرتوكولية أتت بنتائج إيجابية ملموسة استقطبت ثقة شرائع واسعة من المجتمعات، وخفضت منسوب الخوف والقلق لدى الناس.

       بيد أن التوظيف الإيديولوجي للمجهودات العلمية الرامية إلى تفسير أصل هذا الوباء خلق تشويشا على مستوى العلاقات والدول (أمريكا والصين وألمانيا). وهو أمر يستدعي التفكير الهادئ عوض الانسياق وراء الأحكام الأيديولوجية المضللة. ذلك أن “أصعب شيء على التقدير والفهم، في السياسة، هو ما يحدث تحت أنظارنا” كما يقول دو طوكفيل.

 أما بخصوص الفلسفة، واستناد إلى ما نتابعه عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فإننا نلاحظ اليوم انخراطا نوعيا وحذرا لبعض المفكرين والمهتمين بالفلسفة وعلوم الإنسان يروم تعميق النظر فيما يجري من خلال ما يقدمونه من محاضرات وندوات ومقالات وحوارات في العالم الافتراضي. ومن الصعب قياس درجة التأثير والتلقي. ولا يخفى أن تلقي الخطاب الفلسفي يبقى محدودا بالقياس إلى خطابات أخرى بحكم طبيعته وشروطه ومقتضياته. وهذا لن يضر الفلسفة في شيء، ولا ينقص من أهميتها وضرورتها. فللفلسفة أصدقاؤها من الذين يعشقون التفكير الحر والمستقل.

   – في هذا السياق، أسألك أستاذ محجوب، ما الذي يمكن للفلسفة أن تقدمه بصدد هذا الحدث؟

في تقديري، إذا كنا ننتظر من الفلسفة حلولا عملية وفورية تؤثر بشكل آني ومباشر على حياة الناس، فلربما سنزج بها إلى ما ليس من صميمها. فعلى سبيل المثال، يمكن للطبيب اليوم، وأمام هذا الخطر الجارف، أن يقنع الناس بالحكمة القائلة:” إن الوقاية أفضل من العلاج” في غياب دواء يقضي على المرض. لكن، هل يستطيع الفيلسوف كذلك أن يقنع الجمهور بالحكمة السقراطية القائلة “أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، أو بالحكمة النيتشوية الداعية إلى “البحث عن الذات “. فلا جرم أن مثل هذه الحكم الفلسفية العميقة تقدم أعظم ما يمكن تقديمه للإنسان، وأعني بذلك حرية التفكير واستقلالية الذات في زمن التبعيات الخانقة، وهيمنة الأساطير والخرافات، و”الإعراض الجماعي عن التفكير”، كما يقول الأستاذ محمد نور الدين أفاية .

نعم ، يمكن للفلسفة أن تقدم مداخل متنوعة لفهم ما يحدث أذكرها بإيجاز ودون الخوض في التفاصيل مراعاة للمقام. ولعل أهمها ما يتعلق بحاجتنا الماسة إلى تعميق النظر في علاقة الإنسان بالوجود. فقد نبهنا الفيلسوف هايدجر وبإلحاح شديد إلى أن الانقلاب الأنطولوجي الذي حصل في علاقة الإنسان بالوجود، ولا سيما في عصر سيادة التقنية، يمثل أكبر تهديد لكينونة الإنسان. وهو ما يعني أننا مطالبون أكثر من أي وقت مضى، بإعادة بناء صلتنا بالوجود، وأن ننسلخ عن أوهام السيادة والسيطرة على الكائن، بعد أن كشف لنا ما يحدث مدى هشاشة الكينونة حينما تتخلى عن مهمتها الأساسية المتمثلة في ” رعاية الوجود” و ” الإنصات لندائه”   و “الاغتناء بدفئه”.

      ومن شأن الفلسفة أيضا، وفي ضوء ما يقع، أن تفيدنا في مواصلة التفكير في مفاهيم أساسية من قبيل مفاهيم الصحة والمرض والموت والحياة والإنسان الخ. فبالنسبة لي، إن الفلسفة هي تفكير عميق في الوجود وفي الحياة والموت. ويمكن لفلسفة أبيقور وسبينوزا وغادامير ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة، أن تساعدنا على التفكير في هذا الموضوع بالذات.

       وعلاوة على هذا، ولما كان حدث كورونا قد عرى الكثير من الاختلالات والإشكالات المرتبطة بالوجود الاجتماعي والسياسي للإنسان المعاصر، والتي يمكن تكثيفها في هيمنة تشييئ الإنسان واختزاله في الإنتاج والاستهلاك، فمن الضروري اليوم التوسل بالنقد الفلسفي لفضح مختلف أشكال ومظاهر الاستغلال والاستلاب، والقهر والإذلال والاستبداد، الذي تعاني منه شرائح واسعة في ظل السيطرة الجارفة للنظام الرأسمالي في صوره المكشوفة والمقنعة. فتشريد عدد هائل من العمال، وإرغام البعض منهم على العمل رغم خطورة الوباء، وترعيب المسنين والشيوخ وذوي الأمراض المزمنة بخطاب الموت الرهيب دون اعتبار لقيمتهم الإنسانية، والدعم الاجتماعي الهزيل للفئات الهشة من المجتمع وغير ذلك من الممارسات الهادرة لقيمة الإنسان وحقه في العيش الكريم، يستدعي منا نقد ما يمكن تسميته بنظام ديمقراطية رجال المال والأعمال والتجارة السائد اليوم. والتفكير في بدائل يكون فيها الرهان على الإنسان قبل كل شيء.

  س -من بين الأسئلة التي طرحت علينا كورونا، ولها صلة بمجال اهتمامك، سؤال الحرية والمسؤولية، وهو الإشكال الذي نواجهه اليوم في تدبير حياتنا: فمن جهة، هناك اقتناع بحرية الإنسان في الفعل والسلوك. ومن جهة أخرى، هناك مسؤولية تقع على عاتقه تجاه نفسه والمجتمع والدولة، كيف يمكن أن تفيدنا الفلسفة في تبين معالم هذا الإشكال؟

– إشكال الحرية والمسؤولية إشكال شاسع وشائك، لأنه يغطي مختلف أنحاء الوجود الإنساني. وإذا ما حصرناه في المجال المدني، أي الاجتماعي والسياسي، فإن معالمه تتحدد عموما في مشكلة الفعل (الحرية) في إطار ما هو مسموح به قانونيا (الحق)، وما يجب فعله (الواجب) في إطار القانون. وممارسة الفرد لحريته في حدود عدم إلحاق الضرر بحرية لآخرين. ومن هذا الزاوية، فالفرد، إن كان حرا، فهو مسؤول تجاه نفسه والمجتمع والدولة. لكن حتى المجتمع، وهو يمارس حرية جماعية، مسؤول تجاه أفراده والدولة. وهذه الأخيرة، وإن كان لها حق سن القوانين وفرض الامتثال لها، فهي مسؤولة أيضا تجاه الأفراد والمجتمع. وبالتالي، فالإشكال المركزي هنا هو: كيف يمكن أن تكون حرية الفرد متوافقة مع حرية المجتمع؟  ومسؤولية الفرد منسجمة مع مسؤولية المجتمع والدولة دون الإضرار بهذا الطرف أو ذاك؟ وكيف يمكن التوفيق بين مصلحة الفرد وبين مصلحة المجتمع والدولة؟

   ولنضرب مثالا على ذلك مما يشغلنا اليوم. إن قانون حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي هو بلا شك قانون فعال وضروري في حدود الإمكانات الموضوعية المتوفرة اليوم للحد من انتشار الوباء والحفاظ على صحة المواطنين، رغم ما ترتب عنه من تقييد لجزء من حريتهم المسموح بها قانونيا (حرية التجول مثلا). ومع ذلك، فهذا قانون يصون الحرية إن نحن نظرنا إليها مشمولة في مفهوم الأمن بمعناه الواسع. لذلك فالامتثال لهذا القانون هو مسؤولية تقع على عاتق الفرد والمجتمع والدولة. مقابل ذلك، يمكن أن يؤدي هذا الامتثال إلى إلحاق الضرر ببعض حقوق الفرد بل وبفئات معينة من المجتمع كالعمال والفقراء والمهمشين، الخ. طبعا، أنا لا أشجع بتاتا على خرق القانون، وإنما أود لفت الانتباه إلى مسؤولية المجتمع والدولة تجاه الأفراد. وإذا لم يتأسس القانون على مبدأ التضامن والحرية والمساواة والإنصاف، وطنيا ودوليا، فإن معضلة العدالة الاجتماعية، التي انكشفت اليوم بشكل واضح. ستظل هي المرض المزمن الملازم للدولة المعاصرة.

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.