OCP

الباحث في الفلسفة المعاصرة حسَن الوَفَا: الكمَامَة تجربة تربكُ صور الوجْه وتَستفزّ الهويِة.

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فور تنمية

ضمن سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا ..

نستضيف في الحلقة الثامنَة عشر من حواراتنا الأسْتاذ الباحث في الفلسفة المعاصرة حسَن الوفَا، لنتجَاذب وإيّاه أطرَاف الحَديث عن علاقة الفلسفة “بالحدث”، وحاجَة العالم إلى تفكير مغاير، يزحزح بعض أشكال استقبالِه لما يجري، زيادة على قراءة “الوجه” و”المعنى” و”الحياة” في ظل ما أفضَت إليه كورونا. يرَى حسَن الوفَا أنّ لفلسفة توجد في قلبِ الوقائِه ولبّها، فهي ليسَت “عملا متحفيّاً” مسائلاً في هذا الصّدد الصورة التي أخذتها الفلسفة مع “استعَارة المنيرفا”. وتبعاً للمنطلقَات نفسها، ينخرط حسن الوفا في إعادة بناء السؤال بخصوص الجائحَة لاسيّما ما ارتبط منها بالإنسان، والكينونة، والعلاقة، والهويّة، اقتناعا منه بأنّ الفلسفة “صحوُ ويقظة إزاء الكينُونَة التي لاتنام”، وبأننا في حاجة إلى إعادة التفكير في أنفسنا، فـ” لقد تزعزعت الطريقة التي كنا نفهم بها أنفسنا ما قبل الجائحة”.

 

مرْحباً بالأستاذ والباحث في الفلسفة المعاصرة حسن الوفاء، أتقدّم لك بدايةً باسمي وباسم جريدة فور تنمية بالشكر الجزيل على قبولكم إجراء هذا الحوار معنا، وأوَدّ أن أَبْدأَهُ، بالتساؤل معَك عن علاقَة الفلْسفَة بالحَدث الذي يعرفُه العالم اليوم، والمتعلّق أساساً بما تسبّب فيه “الوبَاء” من إرباك لنمَط حيَاة كان (يبدو) مستقرًّا. انخرَط الكثير من الفلاسفَة والمشتغلين بالفلسفَة سواء في المغرب أو غيره في النقاش الدّائر اليوم في مواضيع الإنسان، والعالم، والطبيعة، والموت، والحياة وغيرها من الإشكالات التي أشعلت كورونا فتيلها من جديد، لكن وفي الوقت نفسِه ثمّة من يرى أن “عمَل الفلسفَة” لم يحِن بعدُ، وأنّ عليهَا انتظَار أن يرخي اللّيل سدوله لتبدأ عملها، كيف ينظر حسن الوفاء للموضوع؟

أشكركم على هذه الدعوة الكريمة وأحيي جريدتكم وقراءها الكرام. جوابا عن سؤالكم أرى أن الفلسفة قد غيرت، بشكل ما، المعنى الذي قدّمت به نفسها؛ فهي حتى وإن شبّهها هيجل ببومة منيرفا (Minerve) التي تظهر في المساء بعد أن يُتمّ النهار عمله، فإنها لم تعد اليوم تؤمن بوعود التاريخ المتقدّم، وباتت تسائل نسخة مخصوصة من العقل الذي تطور من خلال فلسفة هيجل نفسه، وصارت تدين العلم الذي انفصل عن الحكمة وتَحالف مع التقنية التي انعطفت جهة الهيمنة والسطو على الحيوان والنبات والبشر والفضاء. لقد انفصلت الفلسفة عن إرادة بناء الأنساق الكبرى وتجميع ما حصل في التاريخ ووضعه في أرسومة تسير به نحو غاية محدّدة، ولم تعد عملا مُتحفيا يقدّم لنا كل الأفكار وهي محنطة، وكأن مدّة صلاحيتها قد انتهت بنهاية لحظتها التاريخية. لكن إذا كان هناك أمر يمكن الاحتفاظ به من إلماعة هيجل فهو الجَهد الذي تبذله الفلسفة لإقدار العين (الوعي) على “الرؤية” والنظر؛ لأن الفلسفة هى الدّأب على تقديم العالم والأشياء داخل المفهوم إن لم تكن هي (الفلسفة) فن استصلاح المفاهيم وابتكارها؛ من هنا فهي لا توجد بعد أن تقع الوقائع بل إنها توجد في قلبها ولبّها.

كيف ذلك؟
إذا تركنا جانبا تحليلات الفلاسفة للجائحة، فإننا نلاحظ أن التحريض على إنتاج خطاب حولها في وسائل الإعلام يفضي في الغالب إلى الحديث عن الفايروس وكأنه شبح لا مرئي (رغم أن رؤيته في المختبر تبقى ممكنة، ورؤية آثاره على الناس تبقى كذلك ممكنة) أو كائنٌ فظيع يتقن فن التخفي وكأنه يضع خاتم جيجيس (خاتم تحوّل إلى تاج)؛ من هنا تتم شخصنته وتحويله إلى عدو وجب شن الحرب عليه. وأمام حالة الخوف وأشكال لا حصر لها من الارتباك والإبهام التي تسبّب فيها، نتج نوعان من الخطاب يحاول كل واحد منهما استيعاب الوقائع : خطاب عقلاني (ذي صبغة علمية وإستراتيجية) وخطاب أسطوري (ذو ملمح سحري وأحيانا هلوسي). لكن الأكيد هو أن اللغة التي تحاول احتواءه يغلب عليها المعجم الحربي والعسكري؛ إذ ستلاحظون أن أبطال الجائحة -عندنا على الأقل- هم رجال الأمن والأطباء (وجنود الخفاء) وأن اللغة الطبية نفسها شبيهة باللغة الحربية (تقوية المناعة أو جهاز الدفاع، رصد الدخلاء، المضادات الحيوية، تدمير جهاز…)، وهو ما سيُبقي التفكير الحربي (والتفكير السياسي طبعا جزء منه؛ مادامت السياسة امتدادًا للحرب (ميشيل فوكو)) سيد الموقف، وسيقدّم لعقلانية التسلّط أو الهيمنة مزيدا من المسوِّغات للفعل في حياتنا (لا حظ معي أننا في هذه الظرفية بالذات قد اقترحنا مشروع قانون 20-22 وفيه ثلاث مواد تضيِّق على التعبير وتصل إلى حد سلب الحريات).
نشعر أمام هذه اللغة وكأن الأمور لن تتغير بعد الجائحة غير أن الواقع ليس كذلك؛ لأن الحدث الهائل الذي نتج عن الوباء وضع الناس في مسافة إزاء نمط من الحياة كان يحكم قبضته عليهم بحيث لم يكن متاحا لهم التفكير فيه. كما وضع الأنظمة أمام حدودها وجعلها تعيش مرارة “لا مفكَّرها”. لنتأمل –مثلا- كيف اضطر الناس إلى المكوث في منازلهم وعدم مغادرتها بحيث اكتشفوا فجأة أنها هي القطعة الوحيدة القابلة للسكن وقد ثم اقتطاعها من مساحة خارجية قد تكون ضاجة بالفايروس ومخيفة ومقفرة. ومنهم من اكتشف أنه لم يصنع منزلا قادرا على احتواء آدميته، أو أنه صنع بيتا (أسرة) بمحض المصادفة، أو أنه كان فقط يصنع صورا حول أطفاله وزوجته أو زوجها… ومنّا من اضطر إلى السفر على قدميه من مدينة إلى أخرى؛ فذكّرنا ذلك بأننا قد نعود في أي لحظة إلى ما قبل السيارة والحافلة، وبأن المستقبل ليس دائما مأهولا بالتقنية. لقد تزعزعت الطريقة التي كنا نفهم بها أنفسنا ما قبل الجائحة. أما الأمر الحاسم الذي قادت إليه الجائحة على مستوى الأنظمة فهو “الإبطاء” Ralentissement. فمن المعلوم أن النظام الذي كنا نعيشه يعتمد أساسا على الحركة السريعة في كل شيء: الإنتاج الاقتصادي، معالجة المعلومة، البورصات، نقل البضائع … إن “البطء” هو “لا مفكَّر” النظام (L’impensé de l’ordre) الذي نعيشه، والذي فرضه كوفيد 19 على كل الأنظمة. أتذكر هنا كيف ناقش فؤاد العروي هذه النقطة الحاسمة داخل روايته: “Les tribulations du dernier Sijilmassi” حيث آلت الأمور ببطل الرواية (آدم) الذي أراد إبطاء حياته إلى الجنون والموت. لقد كان التفكير في إبطاء سرعات الإنتاج وفي نمط الحياة الوهمي والبلاستيكي والعدائي الذي يقترحه هو الجنون عينه. لكن الآن تبين لنا العكس؛ إذ الجنون الحقيقي هو تدمير الأرض وتفقير معظم سكانها (نحن ننتج اليوم من الأغذية ما يمكنها إطعام 11 إلى 12 مليار نسمة)، والقضاء على التنوع الثقافي والترويج لأفضلية ثقافة بعينها على كل الثقافات، وما يستتبع ذلك من تطور مقيت لأشكال غريبة من العنصرية، والقضاء كذلك على التنوع البيئي فقط من أجل مراكمة الثروات واحتكارها من طرف حفنة من الناس، وصناعة أسلحة قادرة على تدمير ما يعادل 11 كرة أرضيه… إلى درجة أن نظاما من هذا النوع اعتقد أن التعليم والصحة العموميين والخدمات الاجتماعية هي مجرد قطاعات تستنزف الثروة بحيث نشر جنوده في الأرض لإجبار الشعوب على العمل والإنتاج من أجل الموت والجهل والمرض والفقر…. من خلال إقناع الحكومات بأن الحل قائم في رفع الدولة يدها –مثلا- عن الصحة والتعليم. لقد اكتشفنا أن هذه الدعوة هي الهلوسة الكبيرة التي يعيشها نظام عالمي مجنون.

إن الجنون هو اللحظة الوحيدة التي يعجز فيها العقل، حسب ديكارت، عن أن يكون عقلا. فإما أن يكون عقلا أو لا يكون. لكن ما لم يفكر فيه ديكارت هو أن الجنون قد يكون جزءًا من العقل نفسه. وها نحن نكتشف أن عقلانية النظام العالمي اليوم ليست بعيدة عن الجنون. وبدل أن نعتقل الجنون كما فعلت الحداثة اعتقلنا أنفسنا بسبب الفايروس حتى لا نستمر في الجنون.

ما الذِي عساها تقدّمه الفلسفة لإنسان مهزوم وعالم منكوب، يبدُو أنه بحاجَة إلى “سرديّة نجَاة” و “روايَة سعيدَة” لضمان خلاص النفس مما تتخبّط فيه؟

ربما هي تقدم لنا، أولا، الـ “ما ليس جاهزًا” بحيث تُسرُّ لنا بأن كل شيء يحتاج إلى إعادة بناء. وتقدّم لنا، ثانيا، حكمة “العودة إلى الذات”. وإلى بيوتنا le chez soi وحميميتنا (التي تم إرجاعنا إليها بقوة القانون رغم أن الفلسفة كانت تحثنا دائما على ذلك). لا تقدّم الفلسفة سرديات سعيدة فهي ليست كوتشينغ ولا ينبغي لها أن تكون كذلك؛ لأنها خطاب إنضاج لا خطاب مداعبة. إنها تقلق وتزعج وتزعزع البديهيات. كما أنها رغم ذلك مجهود لبناء إمكانيات أجوبة وتهيئة لأراض يمكنها ذلك، واستصلاحٌ لآلات قد تصنع تلك الأجوبة وقد تدمرها، وهي أخيرا بلغة ليفيناس عبارة عن صحو Eveil ويقظة إزاء الكينونة التي لا تنام. دعونا، مثلا، نفكر في الكوفيد 19 وفي الأمر الأساس الذي يُحدثه؛ إنه بكل بساطة يدفعنا إلى الابتعاد عن بعضنا البعض. هذا ما نفعله بأنفسنا بسببه حتى لا نمرض فنموت. من المعلوم أن اتصالنا ببعضنا كان ومازال هو لب الإنتاج وفاعله؛ فبفضل الاتصال ننتج الأبناء، والثروات (داخل جدلية الانتاج والاستهلاك) والقوة الجيوسياسية (من خلال ترابط الأفراد والمدن والدول). لقد كان الإنتاج هو نمط الحقيقة الذي دخلنا إليه مع العصر الميتافيزيقي للحداثة بحيث صارت الطبيعة خزانا من الطاقة لا نفعل أمرا آخر به غير تحريضه واسترصاده وتخزين طاقته وجعلها على أهبة الاستعداد، وكذلك صرنا نفعل بالناس حتى سميناهم موارد بشرية على شاكلة الموارد الطبيعية، وفعلنا الأمر نفسه بالمعارف التي حوّلناها إلى معلومات نخزنها ونعالجها بسرعات فائقة ونجعلها على أهبة الاستعداد لتقديم الخدمة. لم يكن بمستطاعنا مراكمة هذه الطاقات والقوى كلها لو لم نوحِّد قوانا بحيث يرتبط كل واحد منا بالآخر ويعتمد عليه داخل نمط من التضامن غير ميكانيكي. تضامن يجعل مهمة العمل غير متناهية تبقى جماعة العلماء نموذجا لها. لقد ضربنا الفايروس في مقتل؛ لأنه وقّف “الإنتاج” واقترح علينا الابتعاد والانفصال بدل ا الاقتراب والاجتماع.

كوفيد 19 إذن هو التحريض على التباعد الجسدي وهو في الآن نفسه تحريض على الاتصال الرقمي (تعليم وعمل وتدبير وزيارة واجتماع عن بعد) لقد سارت الأمور جهة إقناعنا بأن الرقمي Digitalهو الحل فحققنا بذلك أمنية ميتافيزيقا معينة تريد أن تجعل كل شيء عبارة عن صورة، وترغب في تحويل الأشياء والوقائع والأحياء إلى أفكار توضع أمام الذات المفكرة في حاضر أبدي بلا زمن. ورغم ذلك فنحن في الأخير نشعر بأننا أبناء التراب والنبات والهواء والماء والأجساد، وبأننا متّصلون بمجموع تفاصيل الأرض التي تبقى أكبر من تلك التي نعرفها داخل المختبرات وبعض فروعها (المصانع).

إن ما يمكن للفلسفة تقديمه للعين في هذا الظرف بالذات هو “العلاقة” La relation. وتشخيص العلاقة هو تشخيص الحاضر (فوكو)؛ أي تشخيص علاقتنا بأنفسنا وبالعالم وبالسماء وبالزمن وبالقيم والعدالة وبالخير، واقتراح زوايا نظر مغايرة لإعادة رؤيتها. كما يمكنها أن تقدّم لنا عناصر حقيقية للتفكير فيها وجعلها غنية ومثمرة؛ وأستحضر هنا العمل الجبار الذي قام به الفيلسوف هانز جوناس لإعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة وكذلك ميشيل سير وإدغار موران، أفكر كذلك في إيتيقا ليفيناس التي أمدّتنا بأفكار هائلة لإعادة التفكير في علاقتنا بالإنسان الآخر، وبهايدجر التي بين الطرق التي يمكننا من خلالها خلق علاقة أصيلة مع الكينونة، وفيرجلي الذي بين أن معنى حياتنا هو علاقتنا معها وأن اللامعنى هو فقدان هذه العلاقة.

يبدُو أحياناً أستاذ حسن، أنّ “إنسان” و”عالم اليَوم”، في غنَى عمّا يصدّع وجودهُما باسْتشكَال ما يحدُث وإعادَة بناء مَعرفَة مَعقُولَة بِخصوصِه، وبالمُقَابل ينشغلان كثيرًا بما يمكن أن يقدّمه العلم والدّين لضمان نجاتهما، وربّما، مثلما ذكرت فإنّ الفلْسفَة تختصّ بما لا يختصّ به “العلم” و”الدّين”، مثل التفكير في “العلاقة”، ممّا يقودنا إلى التساؤُل معكم عن الصورة التي باتت تأخذها علاقتنا مع أنفسنا، ومع الآخر في ظل الجائحة وإفرازاتها. هل يرَى الأستاذ حسَن الوفاء وفِي ضوء دراسَته لفلسفَة ليفناس، وبعْد هذه المدّة الطويلَة من الحجر، أنّ وجوهَنا ستكُون الوجوه نفسُها؟ ألن نفقِد وجوُهنا، فنصير كائنَات بلا وجه، خصوصاً إن أبقَى المغرب مثلاً على قانون “الكمَامَة”؟ بأيّ وجهٍ سنقابلُ بعضَنا البعض وقطعَة قماش تحجِب عنّا لقاءنا بأنفسنا من خلال الآخر؟ وهل بتْنا أمام عالم فقد وجهَه ووجهَتَهُ؟

قبل أن نتأمل حكمة الوجه في فلسفة ليفيناس التي تكون الجائحة مناسبة فريدة لتسليط الضوء عليها دعنا أولا نفكر في البعدين اللذين أشار إليهما سؤالكم، واللذين يميزان نوعا مخصوصا من إنسان اليوم والمقصود بهما: بعد “الدين” وبعد “العلم” في الخطاب الأيديولوجي الإسلامي لدى المسلم الأخير؛ أي مسلم ما بعد التجربة الكولونيالية. فهذا الإنسان يسير اليوم وهو يتمايل ثملا بأيديولوجيا العلم وبأيديولوجيا الدين، يجد خلاصه الروحي في خطاب جاهز حول الدين كما يجد خلاصه الدنيوي جاهزا في نتائج العلم. ومن شدة إعجابه بالأجوبة الجاهزة ابتكر الإعجاز العلمي؛ فليس المقصود عنده هو تعجيز الوحي للعلم (كما حاول ذلك القدماء) ولكن اكتشاف نوع معين من اللقاء بين معجزات العلم ومعجزات الدين. لقاء ينطوي على الرغبة في الخوارق مصدرها هو الشعور بالعجز والتلذذ بحالة العجز هاته. لكن السؤال الحارق هو: هل يمكننا أن نستمر في هذه الوجهة؟

إن المسلم الأخير ينتج نمطا عجيبا من الخطاب العنيف المستند إلى دوغمائيات حول “الحقيقة” لا تنسجم مع العلم كما لا تنسجم مع الدين، وتتخذ جماعة المؤمنين رهينة لديها وتبتز إيمانها وتسطو على حاجتها إلى السكينة والعيش والحقيقة؛ لأن الناس لا يعيشون في الغالب –أو على الأقل في الظاهر- بالأسئلة بل بالأجوبة؛ أي “بتجارب للحقيقة” مازالت صالحة (مثل تجارب الحقيقة الصالحة لتربية الأبناء، واستثمار الأموال، وحفظ الإيمان وتحمّل حدث الموت…)، لكن كل محاولة تتغيا محو الأسئلة ومحقها إنما تهدّد حياة الناس بالجمود وتحكم عليها بالموت؛ لأن الأحوال في تقلُّبٍ دائم؛ ولأن “اللايقين” و”التعقيد” و”الحركة” كلّها خصائص يتحدّد بها العالم الذي نعيش بحيث يحرّضنا كوفيد 19 على إعادتها إلى الخدمة. عندما لا نميّز بين الدوغمائيات وبين “تجارب الحقيقة” فإننا لا نفعل أمرا آخر غير تحريك منظومات من السلطة التي تُعنى فقط ببسط اليد على الأرواح والأجساد، بحيث يكون التعويل عليها في تحقيق الخلاص مجرد مضيعة للوقت. وهنا تحديدا يختفي الوجه ونكون في مسيس حاجة إلى تأمله تأملا فلسفيا (مع ليفيناس).

لقد وضعنا كمّامات فتغيرت الصورة التي نُعرَف يها عادة (Forme) بحيث اختفت أنوفنا وأفواهنا وحلّت محلها قطعة من القماش، التي تُسقط من الوجه كل التعابير التواصلية التي ينجزها الفم باستثناء ما يُصدره من أصوات؛ ولذلك بدأت مخيلتنا تجتهد في إكمال صورة الوجوه التي نلتقي بها وهي غير مكتملة بسبب الكمامة بحيث ينقصها الفم والأنف. إنها تجربة تربك صور الوجه وتستفز الهوية. وهنا تحديدا لسنا –استنادا إلى ليفيناس- بصدد الوجه بل بصدد هويته أو صورته: بشرة، لون العينين والأسنان والسحنة والشعر، حجم الأنف، وجود تجاعيد أم لا (…) هذه أبعاد تحدّد الإنسان وتتيح إصدار الأحكام عليه ومن ثمة جعله طوع اليد. بها يُعطى إلى السلطة وإلى تدابيرها (سلطة الإستيتيقا، والوجاهة الاجتماعية، وسلطة الدولة والمؤسسات..)، لكن الوجه يبقى أمرًا آخرا غير هذا، فهو ما يتجاوز الصور كلّها. إنه إنسانيتُنا الهشة ولغتنا التي هي نداء وطلب. إنه ما نسعفه ونستجيب إليه. وكأن هشاشتنا (وجهنا) تأمر الأقوياء منا ليستجيبوا لنا ويسعفوننا. الوجه إذن هو مساحة اللامرئي الإنساني الذي تحجبه أرقام الدولة وإحصائياتها، وتحجبه المعاملات التجارية اللاشخصية التي يحدّدها تجريد (Abstraction) العملات والأموال. الوجه هو ما يمزق مجموع الصور التي كنا نبجّلها في لغة الاقتصاد والسياسة والأنترنيت… والتي حجبت الوجه وعمّقت جروحه التي تحرجنا أخلاقيا دون أن تؤثر على المصالح المالية والعسكرية. الوجه هو ضعفنا، وهشاشتنا، وكوننا نموت، وكوننا قد نتعرض للامبالاة. وهو إذن ما نستجيب إليه من خلال المساعدة والضيافة والخير والواجب (وهذه كلّها وجوه للإتيقا).

الكمامة هي فضيحة أنظمة التسلط والحساب ومراكمة الثروات. وهي، ربما، النداء الذي يحتاج إلى جواب وإسعاف. إنها فرصة حقيقية ليصير لنا وجه وليس صورة، ولتكون لنا وجهة بدل نمط الحياة غير الأصيل الذي يبتلعنا بسرعة.

كتبْت أستاذ حسن في “المعنى” و”الحياة (كتابكم: معنى الحياة، دراسة في فلسفة برتراند فيرجلي)، هل تزيد “كورونا” اليوم من حدّة معاناة المعنى؟ وأي أفق للأزمَة الروحيَة التي وضعتم يدكم عليها في الكتاب نفسه، خصوصاً أمام ما يبدُو أنه عجز لـ “العلم” عن تشكيل “رواية رسميّة” عن الوباء وما أثاره من قلق وهمّ؟

الأزمة الروحية التي تلازم الإنسانية هي هيمنة التصوّر الأداتي على الفكر وتحالف التقنية مع إرادة الحرب والمال حتى صارت الحرب والمنفعة هما ضامنا الحقيقة؛ وتُترجَم الأزمة كذلك إلى خيانة تتعرّض لها القيم والأخلاق والشعر بحيث تتحوّل من وجهة نظر “السوق” و”النجاعة التقنية” إلى مجرد أيديولوجيا وأحلام أطفال. وهناك جانب آخر تظهر الأزمة من خلاله هو عدم إقامة الميز بين مقام “الأسئلة-الأجوبة” ومقام “المشاكل- الحلول”. فالموت مثلا سؤال يحتاج جوابا، غير أن النظر إليه بوصفه مرضا يحوّله إلى مشكلة تحتاج إلى علاج والحال أنه ليس مرضا.

يتحرك وباء كرونا في هذين المقامين في الآن نفسه. فهو في حاجة إلى حلول (تدخل طبي وأمني، وكل أشكال التضامن الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي) كما أنه في حاجة إلى أجوبة حية حول معنى الخير (الذي ليس صدقات توزعها الدولة على منكوبي الرأسمال المتوحش ونمط إنتاج اقتصاد الريع) وحول العدالة والانسانية. إنه في حاجة إلى تحرير معاناة الناس من المضاربات المالية والسياسية.

أعتقد أن العلم لا يعجز عن تقديم رواية عن الوباء؛ لأن ما يقدمه، أو ما يُفترض أن يقدّمه، هو الفرضيات والتخمينات التي يتم اختبارها حول الوباء وما يقتضيه الأمر من حركة نقدية دائبة (كارل بوبر)؛ ولذلك فالنسبية التي تطبع الخطابات العلمية حولة كوفيد 19 تبقى علامة على أننا داخل خطاب العلم. المشكلة المطروحة هي حاجة الدول والشعوب إلى حقائق نهائية يمكن الاعتماد عليها لأخذ قرارات فعّالة مع كل ما تطرحه المسألة من تعقيدات بسبب المصالح المتعارضة. وبالتأكيد سيعمق الوباء أزمة النظام العالمي الحالي وسيضعنا أمام خيارين: إما الاستمرار في النهج المتوحش الذي يُجمع المفكرون اليوم على عدم صلاحيته للمستقبل، وإما القلب الجذري لكل شيء. ويبدو أن هذا الأمر الأخير هو عمل أصيل حول المعنى الذي ساهمت الفلسفة –إلى ممارسات فكرية أخرى- في بناء المسالك المؤدية إليه؛ ولذلك فالقيم المستقبلية الحاسمة لعالم مأهول بالمعنى ما بعد كوفيد 19 هي:
– التضامن؛ وهو شكل من التعاون الذي ليس مجرد تنافس واقتتال متنكر، والذي يعزز احترام التنوع الثقافي والتداخل أو التعقيد الذي يميز العالم الإنساني.

– التنوع البيئي؛ بدل وهم أفضلية الإنسان على الكائنات الأخرى ومركزيته إزاء البيوسفير. وسنحتاج هنا إلى تعزيز فكرة أننا نتحدّد بالطبيعة وبأننا جزء منها، وبأننا مسؤولون عن جزء كبير من الاختلالات التي طالتها.

– الإنسانية بوصفها مضمونًا روحيا بدل المضمون التقني-الحسابي الذي يُفرض علينا اليوم، والذي يبقى في النهاية حاملا لندوب عقلانية الأشياء.

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

بدون تعليقات
  1. Zakaria elkhalid يقول

    تحليل رائع من الدكتور حسن الوفاء لما نعاصره من قضايا و إشكالات ، كما أن له مزيج مسكر بين العبارة و المنطق يجذب القارئ بأسلوبه المتميز 💎

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.