OCP

المفكر المغربي سعيد ناشيد: على الدولة أن تستعيد طابعها الاجتماعي والتمسك بالخطاب الديني لا يمنع الإنسان من احترام العلم والعقل

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 فور تنمية.

في سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات  التي عرفتها المجتمعات  بعد تفشي جائحة كورونا .

في  هذه الحلقة الثالثة  لحواراتنا نستضيف المفكر المغربي سعيد ناشيد  لنطرح وإياه مجموعة من القضايا الآنية المرتبطة بالمجتمع في زمن كورونا.

 

مرْحباً الأسْتاذ والمفكّر المغربيّ سعيد ناشِيد، أفْتَتحُ هذَا الحوَار الفكريّ معَك بتقْديمِ واجِب الشّكْر لكَ باسْمِي وباسْم جريدَة فُور تنميَة. بدَايَة كيفَ يمرّ “يوم” سعيد ناشِيد في الحجْر الصحّي؟

أهلا وسهلا وآمل السلامة للجميع. أما بخصوص يومياتي في ظل الحجر الصحي، فأنا أعيش أساسا مع أسرتي الصغيرة في منزل صغير بمدينة مراكش الحمراء ضمن أجواء من البساطة والحميمية، وأواصل في هذه الأثناء فعل كل ما أحب فعله لكن بتركيز أكبر هذه المرة، ما يعني متعة أكبر: أتأمل في الذات والحياة، أقرأ عن قصص الناس البسطاء، أكتب في الفلسفة العملية، أعزف الموسيقى على آلة العود، أنجز بعض الإصلاحات الضرورية في البيت، أقدم المشورة لمن يطلبها من أصدقائي عبر الهاتف.. ثم أني بمعدل مرتين في الأسبوع أخرج لاقتناء الحاجيات الأساسية للأسرة.. وأثناء ذلك كله أحاول أن أزيد من صقل رؤيتي لتاريخ الفلسفة على محك تحديات جائحة كورونا هذه المرة، والتي أعتقد بأنها وضعت الكثير من المرجعيات قيد المساءلة، مثلا: كيف يمكننا مواصلة نقد المؤسسات العلاجية باعتبارها آليات للمراقبة الشاملة للمجتمع، وفق إحدى الأطروحات الأساسية لمشيل فوكو، وذلك حين يتعلق الأمر بجائحة سريعة الانتشار وتتطلب تفعيل آليات الضبط والمراقبة بدرجات عالية؟ كيف يمكننا أن نقارب آليات العزل والحجر والتباعد بمنظور النقد الفوكوي لآليات الضبط والمراقبة؟ كما أن القضايا النظرية الكبرى في تاريخ الفلسفة مرشحة لإعادة المساءلة من جديد: حول مغزى وجود الشر في الطبيعة والعالم؟ حول مبدأ الخلاص، ومفاهيم الكارثة والهشاشة وانعدام الأمن والنجاة؟ حول الوظائف الاجتماعية للدولة؟ حول ارتباط الصحة العمومية بصحة الحيوانات أحيانا؟ حول وحدة النوع البشري؟ حول الطابع الجماعي للممارسات الدينية؟ إلخ.

تعتَبَر أستاذ ناشِيد أحَد الذين أَوْكلُوا إلَى الفلْسفَة إنجَازَ “مهَامّ عمليّة” في لحظَات الانتِكَاس والألَم والوجع، ماذا عسَاهَا تقُول الفلسفَة للإنسَان المهْزُوم والمرْتعِش اليَوم أمام “كورونا”؟

الفلسفة بطبعها لا تنتظر وقوع الكارثة للتدخل وتقديم المواساة والعزاء، بل يُفترض أن تتدخل منذ البداية لأجل إعداد الإنسان لتقبل الظروف غير الآمنة التي تعترض مسارات الحياة سواء في إطار الفرد أو المجتمع أو النوع البشري. الحكمة هي القدرة على العيش قرب البركان كما كان يقول فريديريش نيتشه، وكما يردد اليوم مشيل أونفراي. تلك القدرة يجب أن يمتلكها الإنسان قبل أن يباغته البركان. لكن ليس المقصود أن يبحث الإنسان عنوة عن البراكين لكي يعيش بمحاذاتها، سيكون هذا الأمر مجرد تهور واستنزاف مجاني للطاقة، بل سيكون أقرب إلى الانتحار، بيد أن المقصود هو أن لا يفقد الإنسان قدرته على الحياة في مواجهة الكوارث التي هي جزء من ظواهر الطبيعة ومظاهر الحياة. ما معنى أن يكون الإنسان قادرا على الحياة حين يتعلق الأمر بكارثة ما؟ معناه أن لا يقع فريسة ما يسميه سبينوزا بالانفعالات الحزينة، وما يسميه نيتشه بغرائز الانحطاط، وما يسميه فرويد بدوافع الموت، معناه إلا يفقد القدرة على الحياة قبل أن يفقد الحياة. بالمناسبة، حين يتعلق الأمر بالإنسان فأنا أفضل مصطلح الدوافع على مصطلح الغرائز؛ لأن الإنسان يرث عديدا من الدوافع التي تدفعه إلى أن يتصرف، لكن غرائزه لا تمنحه طريقة التصرف، وذلك خلاف الحيوان الذي يرث الدافع إلى الفعل ويرث معها كيفية الفعل أيضا. يرث الإنسان دافع الأكل لكنه لا يرث معه طريقة الأكل، يرث دافع الجنس لكنه لا يرث معه كيفية ممارسة الجنس. الكيفيات هنا يتدبر الإنسان أمرها بصعوبة وتخبّط وبلا يقين. لا يعوض ضعف الغرائز لدى الإنسان سوى التفكير. لذلك فإن القدرة على التفكير تعني بدرجة كبيرة القدرة على الحياة. ولهذا السبب بالذات أرى أن ربط الفلسفة بالحياة هو بمثابة إنصاف للفلسفة من التاريخ الرسمي الذي يكاد يحولها إلى مجرد معرفة من أجل المعرفة.

كيفَ تقرَأ “الجدَل السّاخن” اليَوم بيْن المدَافعِين عن “العلْم” -“الفكْر الحرّ” عمُوماًوالمتمسّكِين بـ”الخطَاب الدّينِي”؟ خصُوصاً بعْد شيُوع أخْبَار عن توجّه بعْض قادَة الدّول إلى خطَاب عاجِز، رفَعَ كل شيْء إلى “السّماء”؟

التمسك بالخطاب الديني لا يمنع الإنسان من احترام العلم والعقل حين يكون حسه سليما. مثلا، هناك أئمة مساجد لا يصومون لأسباب صحية، وحين تسأل أي واحد منهم عمن أباح له الإفطار؟ فلن يخبرك عن أي فتوى من الفتاوى، بل سيجيبك، إنه الطبيب. لننتبه، إن الذي أباح له عدم الصوم هنا ليس شخصا يمتلك أي سلطة دينية، مادية كانت أم رمزية. ثم أنه لا يهتم بعقيدة الطبيب قبل أن يسأله، ولا يكترث بمدى تدينه حين يسأله، ذلك أنه يعلم أن القرار هنا هو قرار طبيّ بالأساس.

إن الخطاب الديني عموما لا يمنع الإنسان من احترام قرارات العلم حتى فيما يتعلق بأمور الدين. مثلا، جميع مسلمي العالم الآن منضبطون لإجراءات الحجر الصحي وتفادي الذهاب إلى المساجد، بما في ذلك أيام الجمعة وشهر رمضان. لا أحد طلب فتوى في الموضوع، لا المسؤولين ولا الشعوب، فالجميع مدرك بأن القرار الأعلى هنا هو قرار السلطات الصحية. لكن الذي يمنع من احترام العلم في المقابل هو الاستعمال السحري للدين من جهة، والاستعمال الإيديولوجي للدين من جهة ثانية. الاستعمال السحري للدين معناه أن نوظف الدين لأجل محاولة حل كل المشاكل، بما فيها المشاكل التي لا علاقة لها بالدين: بدءا من مشاكل العجز الجنسي إلى ضعف التساقطات المطرية. والاستعمال الإيديولوجي للدين معناه أن نوظف الدين في الصراع من أجل السلطة أو الهيمنة أو الشهرة أو الزعامة.

أما عن توجه البعض إلى خطاب عاجز يرفع كل شيء إلى السماء، فلعلك تقصد خطاب الرئيس الإيطالي الذي سبق أن استنجد بأوروبا عندما كان الوباء يفتك بمئات الإيطاليين يوميا، وقد تمكن من إهلاك عشرات الأطباء والأطقم الطبية، ولا ننس أن لحظات بالغة القسوة مرت على الإيطاليين بحيث أصبح فيها كل واحد داخل منزله ينتظر أن يأتي دوره للإصابة بفيروس كان لا يزال في أقصى درجات شراسته. رغم ذلك حين أطلق الرئيس الإيطالي صرخته المدوية تلك، منذراً بأن كل حلول الأرض قد انتهت وأن الأمر موكول للسماء، فإنه لم يقدم للمواطنين أي اقتراح سحري أو أسطوري أو غيبي أو ديني أو ما إلى ذلك؛ فلقد كانت السماء تعني أسلوبا في التعبير عن اليأس المطلق الذي بلغته إيطاليا في تلك الأوقات. حين يقول الطبيب لأهل المريض، الأمر موكول لله، فهذا مجرد أسلوب في التعبير عن نهاية مهمته كطبيب، وهو تعبير سليم بصرف النظر عن مستوى دقته، لكن إن هو تجرأ على اقتراح صيغ غير طبية للعلاج فهنا سيكون قد أخل بوظيفته كطبيب.

ما تصوّرُكَ لمغرِب الغَد؟ هَل تعتقِد أنّ “الحَدَث” سيؤدّي إلَى مراجعَات في التوجهّات العامّة للدّولَة؟

في المستوى العالمي، يجب أن نعترف بأن الحدث جسيم. هذا الفيروس لم يأت لكي يرحل قريبا. سيبقى في هوائنا زمنا طويلا. الهدف الوحيد الممكن في الأفق المنظور هو التلقيح. ما يعني أن الحل النهائي الذي يعني إبادة الفيروس غير ممكن علميا وعمليا. وهو ما يعني أيضا أن إجراءات تفادي التجمعات الكبرى قد تستمر طويلا، لا سيما بالنظر إلى احتمال ظهور أي نوع من الفيروسات التنفسية القاتلة في أي لحظة فجائية. وهو ما سيؤثر على كثير من المجالات، ضمنها مجالي الدين والرياضة، طالما أن طابع التجمهر الجسدي في هذين المجالين يكاد يكون جوهريا. بخصوص الرياضة لا أملك توقعات الآن، لكن بخصوص الأديان فعليها لأجل أن تستمر أن تتخلى عن طابع التجمهر الجسدي بقدر الإمكان، ما يعني إمكانية الانتقال ولو تدريجيا نحو التدين الفرداني والروحاني.

أما في المستوى الوطني، فالأمر يتعلق بكارثة سيكون له أثر كبير على الاقتصاد والتنمية وعلاقات السلطة، وفي كل الأحوال لا يمكن للوضع أن يعود كما كان. فحتى بعد رفع حالة الحجر الصحي، والذي سيكون تدريجيا على وجه العموم، وبطيئا في بعض المناطق بعض الأحيان، يجب أن يكون المجتمع بكافة مكوناته مستعدا للحفاظ على قدر معين من التباعد الاجتماعي لزمن قد يطول، ولذلك يجب التمرن على مهارات العمل والتعلم والتكوين عن بعد طالما سنحتاجها طويلا، ثم أننا سنحتاجها بين الفينة والأخرى.

يجب على الدولة أن تستعيد طابعها الاجتماعي الذي هو أساس قوة أي دولة في العالم. لقد وقعت الدولة في فخ إضعافها منذ سنوات الثمانين من القرن الماضي، وذلك بفعل إملاءات المؤسسات المالية المانحة ذات النزعة النيوليبرالية الفوضوية، وقد زادتها حكومة حزب العدالة والتنمية إضعافا، وذلك لثلاث أسباب إيديولوجية: أولا، العداء الإيديولوجي للدولة الوطنية الموصوفة سرا أو جهرا بـ”الطاغوت”؛ ثانيا، العداء الإيديولوجي للمؤسسات الأمنية والعسكرية لأنها “احتكرت أو عطلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”؛ ثالثا، العداء الإيديولوجي لتدخل الدولة في مسائل الخير والإحسان لأنها مجال واسع للاسترزاق الديني.

قبل الجائحة كانت الدولة على وشك الانطلاق في مشروع ضخم لتمويل المقاولات الصغرى للشباب. هذا الجهد يجب استئنافه بعد الجائحة لكي يسترد الاقتصاد الوطني عافيته، لكن يجب أن يتم الأمر على أرضية المتطلبات الجديدة:

-يجب الاعتماد ولو جزئيا على استراتيجيات العمل عن بعد، حفاظا على الصحة، ولأجل التقليص من نفقات التنقل والتجهيز المكتبي.

-يجب ضمان احترام المتطلبات الصحية للعاملين من قبيل التباعد، وظروف العمل الصحية.

-يجب التركيز على محاور التنمية المستدامة، من قبيل إعادة التدوير، والمواد العضوية، والطاقة المتجددة، إلخ.

-يجب تشجيع الشباب المغري على الاختراع والإبداع والابتكار بشتى الحوافز والمساعدات الممكنة.

في نطاق التعليم يجب الكف عن محاولة إرضاء مختلف الأطراف السياسية الداخلية والخارجية، وهي المحاولة التي أغرقت المدرسة المغربية في تضخم في المواد التي لا تنفع كلها بالضرورة في مواجهة تحديات عالم اليوم، ولا هدف لها في الغالب سوى إرضاء بعض الجهات. لذلك، اختصارا للقول أقترح أننا يجب أن نركز بنحو أساسي على ثلاثة أنشطة كبرى: الرياضيات والروايات والأعمال اليدوية؛ لأنها تمثل الحد الأدنى المطلوب لأجل التعامل مع كل الحقول المعرفية ومع الحياة إجمالا.

هل سنكون في الموعد؟

في هذا الباب سيكون جوابي على طريقة سقراط: كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئا.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.