OCP

الباحث في الفلسفة والفكر المعاصر أيت الزين :’الفلسَفَةُ بوَصفهَا ضمِيرَ العَالَم: قولٌ فِي “حكمَة الحيَاة” و”تجَارَة الموْت”..

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 فور تنمية:

في سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات  التي عرفتها المجتمعات  بعد تفشي جائحة كورونا .

في الحلقة الاولى لحواراتنا يؤكد الباحث في الفلسفة والفكر المعاصر عبد الواحد أيت الزين  أنّ عالمُنَا المعَاصِر عَالَمٌ مَريضٌ، و”الفايرُوس” ألمٌ عابرٌ للقارّات والاجْسَام، لكنّ الألَم مؤشّر علَى عطَبٍ مَا أصابنَا، والكلّ يعرفُ أن العطَب الكَبير في طبيعَة الأنظمَة الاقتصاديّة التي تَحكُم العالَم.

مشيرا إلى اننا”نفزَعُ اليَوم من كورونَا لأنّنا تربّينَا علَى “فقْه الموْت” و”شريعَة الخوْف”

كيف يقضي الباحث عبد الواحد ايت الزين فترة الحجر الصحي؟ وهل من أنشطة تقوم بها في يومك؟

يتحدّد الإنسَان –من ضمْن ما يتحدّد به- بوصفِه حرَكة دائمَة، وطاقَة حيَويّة متدفّقَة، وليْسَ “الَحجْر الصحّي” حجْرٌ علَى ذلكَ، وإنّما هوَ فرصَة لاخْتبار قدْرَة الإنسَان علَى تجْدِيد علاَقَاته بالمكَان والزمَان والحَركَة والسّكُون. من هذَا المُنطلَق، يشكّل “يوْمي” نشَاطاً يمَسُنّي كَكائِن لهُ احتيَاجَات روحيّة، وبيولُوجيّة، وعقليّة، صوْناً لصحّتِي التِي أحْسبُ أنّها لاَ تكُون جيّدةً إلاّ فِي ظلّ التّوَازن المُفترَض بيْن “الرّوح”، و”الجسَد”، و”العَقْل”. هكَذَا ينْصرفُ اهْتمَامِي إلَى تقْويَة “منَاعَتي الرّوحيّة، والعضويّة، والعقليّة” بالمُوسيقَى والسّينما (الفنّ عموماً)، وقرَاءَة الشّعْر والاسْتمَتَاع بالاسْتمَاع إليه، زيادةً علَى قراءَة بعْض التّجَارب الرّوحيّة والدّينيّة المتعدّدَة فِي سيَاق اهتمَامَات بحْثيّة أُنجزُهَا، دُونَ إغْفَال متَابعَة مَا يجْري في المغْرب والعَالَم من أحْدَاث والتفَاعُل معَ بعْضهَا فِي مواقعِ التّواصُل الاجتماعيّ. ولقَد شكّلَت هذهِ الفَترَة بالنّسبَة إليّ، فرصَة للمُصَالحَة معَ بعْض عادَاتنَا الأصيلَة فِي العنَايَة بصحّتنَا الغذائيّة، وإرَاحَة الجسْم من الكَثِير من “السّمُوم” (الوجبَات السّريعَة) التِي كَانَت شرُوطُ الحيَاة والعمَل تضطرّنَا إلَى غضّ البصَر عنْهَا أحْيانًا. إنّ عالَم “الوَفرةَ” مُؤْذٍ (أحيَاناً) بإفقَادِ الأشيَاء معْنَاهَا، لذَا إنْ مسّت “الوَفرَةُ” الوقتَ (عنصُر الزّمَن)، فقَد الكَائنُ القُدرَة علَى ابْتكَار المعْنى، فيحُوز “وقتاً فائضاً” لاَ يدْرِي مَا يفعلُهُ بهِ، ولكنِّي أسْتطيعُ أنْ أقُولَ أنّ استشعَار الحَاجَة إلى “الوَقْت” لاسْتنفَاذ “اليَوْم” ما تزالُ ملازمَةً لِي. ليْسَ الحجْر الصحّيُ تقيِيداً لحركَة الإنسَان، ولكنّه فرصَة هائلَة لابْتكَار ضرُوبَ حيّة من الحرّيَة فِي الزّمان والخيَال، وإنْ ظهَر أنّ “حرَكتنَا” في المكَان، باتَت محْسُوبَةً، فإنّ الإنسَان باعتبَاره الكَائنَ الأقْدرَ علَى إبدَاع أسبَاب الحيَاة، يفلِحُ دوماً فِي “دقّ جدرَان الخزّان”، بلْ واختراقهَا، وبهذَا المَعْنى، يُشكّلُ “تقيِيدُ الحرّيَة والحركَة” وعياً بالحرّيَة من ناحيَة، وتنشيطاً لقدرَات الإنسَان الخَاملَة علَى المقَاومَة (ضدّ الضّجر، الضّيَاع، اللامعْنى…إلخ) من ناحيَة ثانيَة.

كيف تقرأ الرجة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية التي أحدثها ظهور فيروس كورونا بالعالم من وجهة نظر فلسفية؟  وكيف تتمثل الفلسفة وباء كورونا؟

صعبٌ جدّا الحَديث عن “تمثّلٍ فلسفيّ” لـ “وباء كورونا”، كلّ ما يمكِنُ الحديثُ عنهُ هو محاولاَت حذرَة للفهْم والتفْكِير، مثلمَا صعبٌ جدّا قراءَة “الوضْع” فلْسفيّاً في “حوارٍ صحفيّ” لهُ مشترطَاتهُ ومقتضياتُه، لكن يمكنُنا ذكرُ بعْض ما تراءى لنا تبعاً لما يستلزمُه المقامُ ويقتضِيه.

سَأتحدّث هنَا عن “فيرُوس” كورُونا” باعتبَاره ّ”ذروَة حدَث كبِير” باتَ يتشَكّلُ منذُ زمَن، وهوَ الذي يمكِن أن نلتمِس عناصرَ لفَهمِه انطلاقاً من المنعَطف البيئيّ للفلْسفَة المعَاصرَة، التي انْخَرَطَت في التفكير الجذريّ في الموضوع خلال السّنوَات التي خلَت. وجبَ التأكيدُ من النّاحيَة المنهجيّة علَى “فضيلَة الحذَر” -كمَا أكّد على ذلك المفكّر المغربيّ محمد نور الدّين أفايَة في حوَار لهُ مع “جريدَة المسَاء” – مع أيّ تعاطٍ انفعاليّ لحظِيّ معَ “كُورونَا (الفايروس، وليْسَ “الحَدَث المُمتَدّ”) وأسْرارُه. نحنُ اليَومَ أمَام سرٍّ، أمَامَ “ضيْف” مجهُولٌ، حلّ بنَا فجأَةً. لقَد كنّا بانْتظارِ “خطَر” دونَ أن نعرفُه، ونُواجهُ عَدوّاً بـ “طاقيَة إخفَاء”، سلاحُه قدرتُه علَى الاختبَاء والتحوّل والانتشَار الواسِع بدُون إثَارة أيّ ضَجيجٍ.

الحَدثُ” أشْبَه بِكُرَة ثلجٍ تدَحْرجَت، لِيُشَكّلَ “الفايرُوس” قوّةً دَافعَةً لهَا، ولا نَدْرِ بعْدُ ما الّذي هوَ آتٍ إليْنَا من المُستقبَل. لننتَبِه أنّ ثمّة “ارتبَاكٌ عالميّ صحّي” في طرقِ مواجهَـتهِ والوقَايَة منهُ. تنهَالُ عليْنَا كلّ يوْمٍ تقريباً “معلُومَة” جَديدَة حوْل أعْراضِ “الفايرُوس”، أو شَكْل انتقَال العَدْوَى،         أوْ فاعليّة إجْرَاء احْترازيّ ما، وغيرها، وحينَ نكُون أمَام “وفرَة المَعلُومَة” (والمَعلُومَة النّقيض)، فثمّة سيَاسَةُ سِرّ مثيرَة. لذا، فإنّ “الحَذَر المعرفيّ” و”الاحْتيَاطُ الوقائيّ” مع الفايرُوس ضَرُورِيّ إلى أن نتبيّن حقيقَتهُ. لكنّ ذلكَ لا يعْني عدَم الوُقُوف علَى “الحَدَث” طالَما قُلْنا أنهُ ليسَ “وليدُ اليَوم”، وأنّ كورونا ليست إلاّ ذروتَه، خصوصاً أنّ لديْنا بعضُ “علامَات تشويرٍ” تسعفُ علَى الفهْم والتفكير في هذه اللحظَة المغَايرَة لمَا عرفهُ تاريخُ الإنسانيّة ومِحنُهَا.

يبدُو لِي، في هذَا السيَّاق أنّ ما أَسْميتَه بالرجَّة كانَ طبيعيّاً، بالنّظَر إلَى “صَدمَة الفَاجعَة”. وإن أخَذْنَا فِي الاعِتبَار مركزيّة “السّؤال” و”امتلاكَ المسَافَة” للتّفْكير في الحدَث (أيُّ حدَث) فلسفيّاً، فإنّ “الفَاجعَة” (وصدَمَاتُهَا)، تَحجبُ عنّا رؤيَة الأمْر كمَا هوَ، فلا نراهُ إلاّ بمقْدَار ما تُحدثُه الفاجعَة فينَا. تاريخُ التّاريخ والطّبيعَة تاريخُ فواجعَ ومواجعَ، وأحياناً تقفُ تلكَ الفواجعُ والمواجعُ وراءَ تحوّلاَت درامَاتيكيّة في مسَارهمَا (التاريخ والطبيعَة) ومسَار علاقَاتنَا بهمَا. كانَت هناك ندَاءَات كثيرةَ، تنذِرُ بالخَطَر الذِي يقترِب من العَالَم، لكنّ عَالَماً أضَاعَت” الرأسماليّة الماليّة” ضميرَه وأخلاقَه، لمْ تكُن مستعدّةً لِلإصْغَاء لهذهِ النّداءَات، بلْ إنّها غضّت البصَر عن “علامَات الخَطر” التي وقفَ عندَها كثيرُون بخُصُوص مستقبَل الحيَاة علَى الأرض، ومعَانَاة الشّعُوب، وسؤال العدالَة، وغيرهَا. لَم تسْرِع الدوّل والحكُومَات إلَى “ردّ الفعْل” إلاّ حينمَا فعَلَت “الفاجعَة” فعْلَها، أيْ لمّا اكتشَفَ العالَم أنّهُ لمْ يستعد كفايَةً لمواجهَة الخَطَر، وقد وقفَنَا جميعاً علَى “الهزيمَة النفسيّة” الكبيرَة التي تسرّبَت إليْنَا من خطَابَات رؤَسَاء دوَل عظمَى، والتي أدخلَت فينَا فزعاً حقيقيّاً. لقَد نفَذ وقتُ الفِعْل، ولم يتبقّ سوَى وقْت “ردُود الأفعَال” المرْتَبكَة، وردّ الفْعْل ليسَ هوَ “الفعْل”، لكنّه صارَ “الفعْل الوحيد” المتاحُ أمام ساسَة العَالَم وحكّامِه. في هذا الإطَار، لَم أفاجَأ كثيراً بـ “الرجّة” لأنّ العالَم كلّه (حكّامُه)، كانُوا غيْر مستعدّين لسمَاعِ الخطَر، إلاّ بعْدَ أن صارَ علَى مرمَى حجَر منْ مكَاتبهِم، بلْ إنّ الخطَر مسّ أجْسَامَ ونفسيّة بعضِهم. وهو اليَوْم يُدمّر بخطَى هادئَة كلّ ما بَنَوْهُ من “جاهٍ اقتصاديّ”، كانَ فاعلاً رئيساً فِي الكثير من المآسِي الإنسانيّة والحرُوب الوحشيّة علَى “مسْتضعَفي العالَم” ومهمّشِيه.

كثيراً مَا يحتجّ ببُومَة المنيرفا (هيغْل)، التي لا تأْتِي إلاّ بعْد أنْ يرخِي اللّيل سدولَه، دلالةً علَى أنّ التفِكير في الحَدَث ليسَ حدثيّاً، وإنّما من جمْلَة مقتضيَاتِه انْقشَاع الضّباب، لاتّضَاح الرؤيَة. طبعاً لا خلافَ، أنّ التفْكيرُ المتّزِنُ في الحدَث يقْتضِي مسافَة معقولَةً حتّى لا ننجرِفَ ورَاء ركَامِ الأحدَاث المُصَاحبَة للحَدث، ويفوّت علينَا ذلكَ بناء “معرفَة” تسعِفُ علَى الفهْم، دون أن تزيدَ في التّعْتيمِ عليه، لكنّي أرَى أنّ الحدَث اليوْم ليسَ “حدثيّاً”، وقعَ بيْن ليلَة وضحَاهَا، وإنّما هو سيْرورَة وجوديّة وزمنيّة. إنّه حدَثٌ يَجرّ وراءَهُ تاريخاً ممتدّاً من سنوَات بل قُل عقُوداً. بهذاَ المعْنى نحنُ لسنَا أمام “حدَثٍ” يحْدُث، يمرّ، يعبُر، ولكنّنا أمَامَ “الحَدَث” الذِي كانَ تحْتَ عيُوننَا دونَ أنْ نراهُ. إنّ للحدَث، هذا الحدَث “عمراً”، لذَا سيكُون لهُ ما بعْدهُ لاَ محالَة. أخالُ أنّنا لَن نَفهَم الحَدَث، إنْ اقتَصَرنَا فِي وَعينَا بِه عَلَى انْفعالِنا بما فَعلَه فينَا. ليسَ “الحدَث” آثَارُه. وفهمُهُ عبْر فعْلِه القَاسِي فينَا، تمويهٌ للفَاجعَة وحجبٌ للأسْئلَة الحقيقيّة التِي أفرزَهَا “الحَدَث”. كلّما كانَت أَدوَاتُنا بَاليَة فِي “قراءة الحدث” كلّما كان فَهمُنا له “حَادثاً طَارئاً” لا غيْر، انفعالاً منفلتاً، لهذا يتفَاوتُ “استقبَال الوعيِ” للحَدَث” وترجمَته إلَى “كلاَمٍ” يقولُه باختلاَف موادّ أجهْزَة استقبَالِه.

لا تأتي الفلسفة إلاّ ليلاً، لكن أحسبُ أنّ “ليلَ الفلسَفَة” ليسَ ليلَ الجمهُور. إنّه لَيلٌ لاَ نَهَار لَه، أو هوَ “ليلٌ نهاريّ” سكُونُه حركتُه وبركتُه. إنّ فـ “فضيلَة الانْتظَار (الّصبْر علَى الحَدَث)”، إلَى أن يأتِي اللّيلُ، قد يجعُل “الغَد” يمرّ دون أن ننتبهَ لهُ (دروِيش)، وحينَ شرَعَت “كورُونا” مكْتسحَةً شوارعَ العَالَم، لَم يكُن أمامَ الفكْر الفلسفيّ سوَى أنْ يعيدَ التّذْكيرَ بمَا سبَق لهُ أنْ نبّهَ إليْه من أسئلَة وإشكَالاَت حجَبهَا “نجُوم العَالَم” و”فُرجويّوه” آنئذٍ، وهيَ أسئلَةٌ تتعلّق بمفَاهيم: الإنسَان، والطّبيعَة، والموْت، والمصير المشْترك، والخطَر، والسياسة، والأخلاق، والثقافة وغيرهَا. كان الفيلسُوف في أحَايين عديدَة “ضميرَ العالَم” وأحسبُ أنّه كانَ كذلكَ في الزّمَن المعَاصر، لكنّ صوتَه ظلّ خافتاً أمامَ “الإخبَاريّين”، و”الفُرجويّين”، و”خبرَاء الوهْم” و”دعَاة الآخرَة” وغيرهِم ممّن اكتَسَح خطابُهُم كلّ منصّات العُبُور إلَى النّاس وسكّان الأَرض.

يبدُو أنّ عالمُنَا المعَاصِر عَالَمٌ مَريضٌ، و”الفايرُوس” ألمٌ عابرٌ للقارّات والاجْسَام، لكنّ الألَم مؤشّر علَى عطَبٍ مَا أصابنَا، والكلّ يعرفُ أن العطَب الكَبير في طبيعَة الأنظمَة الاقتصاديّة التي تَحكُم العالَم، وتتسبّب في كثيرٍ من مآسِيه، وهوَ الاقتصَادُ نفسهُ الذِي يدفعُ اليَوم ثمَن إمبرياليّته وتوحّشه وطيشِه. تتدهْورُ صحّةُ العالَم منذ عقُود، لأّنّنا بِتنَا نخوض المعَاركَ الخطأ ضدّ الزّمن، والطّبيعَة، والمَوت، والحيَاة، وبالتبعَة، فإنّنا نخوضُ المعركَة الخطإ ضدّ أنفُسنَا (الإنَسان). هناكَ تحوّلاَت مربكَة شهدهَا العالمُ اليوْم ويئِنّ تحْت وطأتهَا، في السياسَة، والاقتصَاد، وما يتعلّق بهما، وهيَ تحوّلات مأتميّة نأمُلُ أن تذكّر “العالَم المريض” (بالأربَاح وافتراس حقوق الإنسان في العيش الجيّد والكرامة) بمعَانَاة الأفراد والشّعُوب. لقَد لفَت نظَرِي هذه التّعبئَة العَالميّة لمواجهَة “كورونَا” واسْتخفَاف “بسطَاء النّاس” (بعضُهم) بِها، وقَد يرجعُ ذلكَ (ربّما) إلى أنّ من جرّب الألَم، ويعيشُ معانَاة يوميّة (في العيْش، والصحّة، والكرامَة) لا يأْبهُ أحيَاناً لما نعتبرُهُ جائحَةً قاتلَة، فهيَ والموْت الحيّ يسكنَان بيْن ضلُوعهِ يوميّاً. لستُ أدْري إن كانَت هذهِ التعبئَة العَالميّة، ستكُون على المستَوى نفْسهِ، لَو كانَ “الفايروس” يميّز بيْن “أغنيَائِه” و”فقرَائِه”، وآمُل حقّاً أنَ يعقُب “فايرُوس كوروُنا” “صحوَة ضمِير” لملاّك المَال والأعمَال، وإعلاَن الحَرْب علَى “كورُونا الفقَرَاء” (صحّتهم الهشّة، معَانَاتهُم في سبل العيْش، التّعليم، وباقي حقوقهم)، فقد بيّنَت “كورونَا” الحاجَة المَاسّة إلَى الوعْي بـ “المصير المشْترَك” للإنسَان بكلّ طبقَاتهِ. لا مجَال للهرُوب من “السّفينَة المثقوبَة” التي تغمرُها الميَاه العاصفَة، ولَو كنْتَ تملكُ سفينَة غيرَها.

هل تعتقد أن مغرب ما بعد كورونا سيعيد النظر في منظومته الثقافية؟

آمل ذلك حقّاً. وإنْ كانَ الثّابت أنّ “التّقليدَ الممْتدّ” إلَى مفَاصل الحيَاة والمؤسّسات المغربيّة والعالميّة، لاَ يتعلّم الدّرُوس بسرْعَة، بلْ إنّه يسرِعُ إلَى تَغيِير جلْدهِ ليقويّ نفسَه، دونَ أن يغيّر جذْريّاً من طبيعَتِه. لقَد عَرّت كورُونَا حجْم ما نحنُ فيهِ من “تأخّر مجتمعيّ وثقافيّ”. بمجرّد الإعلاَن عن الحجْر الصحيّ ودخُول البلاَد لحظَةً غير عاديَة، وقَفَ الجميعُ علَى ما سبَق للكثيرين أن نبّهُوا إليْه من مسيس الحَاجَة إلَى منظومَة تعليميّة قويّة، ترسّخ القيم النبيلَة والسّلوك المدنيّ. لقَد ظهَر أنّ بقَاء “التّعليم” خارج العَصر سيورّثنَا أعْطَاباً وأَمْراضاً ثقافيّة وسلوكيّة مُزمنَة، وسَنُؤَدّي أَكلافاً بَاهضَةً بدأنا بدفع بَعضهَا. لا إصلاحَ مجتمعيّ دون مدرَسَة مواطنَة حقيقيّة، تعيد ترتيب أولويَاتهَا وتحسِمُ مسألَة “التمزّق بين الأصَالَة والمُعَاصرة”، لأنّهُ كلّما تأخرّنا في دخُول زمَن العلم، والفكر النقديّ، والتربيَة الابتكاريّة، كلّمَا عمّقنَا فينَا موانعَ بناء المواطن والوطن اللاّئق بالعَصر. لا أرتَاحُ كثيراً للخطَابَات الوَاعدَة والتِى ما تفتَأ “تُحَمْدِلُ اللّه علَى كلّ شيْء” حتّى ولو تعلّقَ الأمْرُ بـ “وَصَفَات جنُونيّة” تجرُّنَا إلى الهَاويَة. انظُر معِي ما يحتجِبُ من “مفارقَات صارخَة” خلفَ خطَابَات “النجَاحَات المُتخيّلَة” في قطَاعَي التعلِيم والصحّة، بل       ومَا عرف بـ “النّمُوذج التنمويّ” أيضاً، هيَ النجَاحَات التِي كانَ يتمّ تأكيدُهَا بالأَرقَام، وبالكثِير من “الرّواج الزّائِف” حتّى ليَطرَب لهَا المثقّف بدورِه أَحْياناً، واليَوم (كما الأمسُ القرِيب) وانطلاَقاً من تقَاريرَ رسميّة وطنيّة ودوليّة من جهة، ومعاينَات عديدَة لسلوكَات مجتمعيّة (بل وداخل الفضاء المدْرسيّ نفْسه كذلكَ) من جهة ثانية، تأكّد لنَا بالملْمُوس أنّنا فوّتْنا ومازلْنا نفوّت فرصَ “الإصْلاح الحقيقيّ” و”الجذريّ”، وأنّ ما كَان يقدّم كنجاحَات وفتوحَات معزّزا بالأرقَام والكثير من الثقَة الرسميّة، في حاجَة اليوم إلى المسَاءلَة.

لسْتُ أثقُ أنّنا سنستيقظُ “ما بَعْد كورونا” علَى أخبَار الفرَح بأنّ كلّ شيء سيُصبح بخيْر، وأن الحكُومَات تعلّمت الدّرس، وتوجّهَت إلى إصلاَح شؤون الفكر والإنسان، وأعادَت النّظَر في كل سياسَاتهَا العموميّة، وتوجّهَت صادقَة إلى العنايَة بالمدرسَة، والجامعَة، والصحّة، وابتكَرت سياسَة ثقافيّة لإنتَاج المعرفَة ودمقرطَتهَا، وشجّعَت ثقافة البَحث العلميّ والابتكَار. آمُل ذلكَ فعلاً، لكنّني لستُ واثقاً منه. وليْس لنا إلاّ بصيصَ أملٍ نتمسّكُ بهِ للتطلّع إلَى غد مغَايِر. أذكِّر باقتنَاعِي أنهُ لا إصلاح للثقافة، والصحة، والبحث العلمي، خارج “إصلاح المدرسَة”، هيَ الورشُ الكبيرُ الذي يمكنُ أن نبني فيه الإنسانُ والوطَن والثقافة. من يعتقد أنه يمكنه بناء الثقافة، والفكر الابتكاري، وتهذيب الأذواق الفنية والروحية في “فضَاءَات ثقافيَة” و”منتدَيَات جمعويّة” معزُولَة فحسب، (وفي ظلّ “مدرسَة مستقيلَة” من التاريخ) فإنّه يَغفلُ عن الأساسيّ والجوهريّ (المدرسة) ويضع مكانهَا ما لا يمكنُ أن يقومَ مقامَها. هَل “الإرَادة السيّاسيَة” مستعدّةٌ لخسَارَة ما تربحُه من “انهيَار المدْرسَة”؟ هذَا ما سيُجيبُنا عليْه المُستقبَل، ونأمُل أن تضعَ “الإرادة السياسية” مصلحَة الوطَن والمواطِن والمُستقبَل، فوقَ كلّ شيْء..

ما هو الدرس الفلسفي لقيمة الحرية الذي يمكن استخلاصه من جائحة كورونا؟

الحريّة إشكال فلسفيّ وعلميّ مرْبكٌ، وقد يقود “تقييدُها” إلى الوعيِ بهَا، فلاَ يشعُر بهَا إلاّ من حُرِمَ منْهَا. لا أخشَى علَى “الحرّيَة” التي يعِي الإنسَانُ أنّهُ لا يتمتّعُ بهَا، بقَدر ما أخشَى علَى “حرّيَةٍ” تتحوّل إلَى “عبوديّة طوْعيّة” يضَع صاحبُهَا حرّيته في القفَص ويُحكمُ الإغلاقَ عليْها بنَفْسِه. تعلّمُني التجارب الإبداعيّة” لـ “آداب السجون” أنه فِي لحظَات تقيِيدِ حركَة الحركَة، يخرِقُ الإنسَانُ حيطَان خيَالِه الوَاسِع، ويكْتشفُ “حرّيَة” لاَ حدّ لهَا، ولاَ رقيبَ عليْهَا. أرجعَتْنَا كورُونَا إلَى “مساكنِنَا” التي لم نعُد نسكنُها بعد أن أمْسَت “نزلاً” ننزِلُ فيه دونَ أن نسكنَه، وقَد كتَب كل من المفكّرَيْن فتحي المسيكيني ومحمّد موهوب تأمّلات فلسفيّة رشيقَة في باب “السّكن” و”السّكينَة” وما بينَهُما. أكيدٌ أنّ “كرونَا” غيّرت طبيعَة علاقاتنَا بأنفُسنَا، وبالآخر، وبالمكَان، وبالزمَان، كمَا ذكَر أفايَة في “حديثِه” إلى “المسَاء” لكنّها كانت منَاسبَة لإعَادة افتكَاكَنا من “عبوديّةِ عَادَاتٍ”، حكَمَتْنَا، حتّى بتْنَا نعتقِدُ أنّهَا شرْطُ وجُودنَا. ليْسَ ما كنّا عليْه هو أفضَل نَمَطُ حيَاة يمكنُ أن نكُونَهُ (حيَاة جرّة)، لأنّنَا كنّا عبيدَ “سِستَام معقّد” حَسِبْنا معهُ مثلاً أنُه لاَ يمكِن الاسْتغنَاء عن الكَثِير من الأشْيَاء التِي وجدْنَا أننَا لنْ نخسَر شيئاً بفُقدَانهَا، بل إنّنا نخسَر أشيَاء كثيرَة بالبقَاء سجنَاء منطقِهَا. ليْسَ الإنسَانُ إلاّ حرّيتَه، وقد خَاض في سَبيلِ صونهَا حروباً ضروساً، ومع “كورُونا” يكْتشف هذَا الإنسَان مفَارقة “الحرّية” و”الحيَاة”، و”إحراجَات الحُدُود” بيْن ما يُشكّلُ “حقّاً طبيعيّاً متأصّلاً” فيهِ من ناحيَة، وتدَابيرَ حمائيّة لضمَان صحّة “المجْتمع” و”الدّولَة” من ناحيَة ثانيَة. قد لا يبدُو للأَمْر أهميّة في المغرب، بعْد أن نزلَت “الدّولَة” بقوّة، لكن الأمر في دوَل كبرَى -للفَرْد بوصْفهِ شخصاً فيهَا حضورٌ قويّ- طَرَحَ إشكالاً حقيقيّاً، لأنّ التّوازن هناك بلغَ أقصَاه بين “حقُوق الدولَة” و”حقٌوق الأفراد” وواجبَاتهمَا تجاهَ بعْضهمَا. كمَا قلتُ في البدَايَة، فإنّي علَى الأَقلّ بالنّسبَة لشخْصِي أرَانِي أكثَر اسْتمتَاعاً بحرّيتِي في “الحجْر” وسطَ كومَة من الأورَاق والكُتُب، وألزَمُ بيْتي لدرجَة أني لم أغَادرْهُ إلاّ ثلاث مرّات منذُ أوَاسط مَارس المنصَرم، وربّما قَد يكُون ذلكَ بسببِ حاجَتِي إلَى “الاخْتلاَء” بنفْسِي حتّى في الأيّام العَاديَة، حينَ أكُون منشغلاً بالبَحْث والدّراسَة.

يرى الفيلسوف بنفينوتو أن “نشر الخوف قد يكون أكثر حكمة من التفكير فلسفيا”، مضيفا أن “الخوف في بعض الأحيان يتطلب شجاعة”. هل تعتقد أننا بحاجة لشجاعة الخوف في زمن كورونا؟

لَم أطّلِع علَى هذا الرّأي، وقَد تَصفّحْتُ سريعاً المقَال الذِي أرسلتَهُ إليّ ويتضمّن ما ذكرتَهُ. أظُنُّ أنَّ الخوْف شعُورٌ طبيعيٌّ في الإنْسَان، وأَميلُ إلَى تَعرِيف الشّجاعَة بكونِهَا وسطٌ بيْن “الخوْف” و”التهوّر” (أخلاقُ أرِسطُو). لكنّ مسْألَة “نشْر الخوْف” أمرٌ فيهِ نظَر. “نشْرُ الخَوف” ليْسَ حلاّ لاستدرَاكِ عجْز الحكُومَات عن احتِوَاء الجائحَة، ويمكِنُ أن تتوَقّعَ أيّ شيء من “الإنْسَان الخَائِف”، بما فِي ذلك الإضْرَار بنَفسِه وغيْرِه. لاَ ينمّ “نشْرُ الخوْف” عَن “أيّ عبقريّة” فكريّة     أو سيّاسيّة في مواجهَة الخَطَر. إنّ تَنْشيطَ غريزَة الخوْف الكَامنَة في النّفْس البشرِيّة، “سيَاسَة جبَانَة” ضدّ الإنسَان والفايرُوس. نحتَاجُ إلَى “شجَاعَة إنسانيّة” تربّي الجمُوع المذعُورَة، علَى “إرادَة الحيَاة” وإنْ كانَت طلقَات الرّصَاص تمْطرُ “مَخبَأنَا” من كلّ الجهَات. تصوّر معِي أنْ تزرَع “الخوْف” من الموْت في نفُوس “جيشكَ” لكَي تحملَهُم علَى حمْل البنَادق، ستكُون النّتيجَة “انتحَاراً حربيّاً” لا محَالَة. إنّ ما أحسبُ أنّنا فِي مسيسِ الحَاجَة إليْه هوَ الحكمَة الإغْريقيّة القائلَة بـ “حبّ قدَركَ الخَاص” بأَن تعيشَه إلى النّهَايَة. لا نحتَاجُ “شجاعَة الخوْف”، وإنّما نحتَاج “شجَاعَة الحكْمة”، وهيَ وحدَها ما يُمكِن أن تمدّ المَذعُورينَ بمناعَة العَيْش في الأزمَة، دونَ أزمَات تزيدُ استفحَالَهَا. تمْلكُ الحكْمَة أسراراً وأنواراً خاصّةً بهَا، يمكنُ الاستظلال بظلّها في أيّام هذهِ الجائحَة، وتعلّمنا أن نتحمّل العيْش تحْت “الخطَر” دون أن نمُوت هَلَعاً، لأن الموْت حين يكُون لا نكُون، كمَا رُوِيَ عن الحكِيم أبيقُور. تعلّمُنا هذهِ الحكمَة أيضاً فنّ الحيَاة، وهوَ الفنّ الذِي يتيحُ لنَا مقاومَة كلّ خطابَات اليأْس والموْت والفنَاء. إنّ حياةً مليئَةً بالخَوْف من كلّ شيء، هيَ موْت سابقٌ لأوَانِه، لذَا لا أجدُنِي منتصراً لـ “حكمَة الخوْف” قدر انتصَاري لـ “شجاعَة الحكْمة”، والفرَح بالحيَاة حتّى الرّمَق الأخِير، ف “يَا أيّهَا الموْت انتظِرنِي خارجَ الأرْض..انتظرْنِي في بلادكَ ريْثَما أنْهِي حديثاً عابراً معَ ما تبقّى من حيَاتِي” (درويش). معَ الأسَف نفزَعُ اليَوم من كورونَا لأنّنا تربّينَا علَى “فقْه الموْت” و”شريعَة الخوْف”، ولوْ أمكنَنَا أنْ نُنمّي في أنفُسنَا وثقافاتنَا “فقْه الحيَاة”، و”شريعَة الفرَح” لكانَ “الموْت” بالنّسبَة إليْنا تجربَةً وجوديّةً وإبداعيّة تعاشُ كألَم لذِيذٍ، يطيرُ بِكَ محلّقاً فِي “سمَاوات الرّوح” ويسْرِي بكَ”معارجِ الإبْدَاع”. إنّ الشجَاعَة علَى الحيَاة، يهزِمُ في الأخيرِ كلّ المتربّصيِنَ بالحكمَة الفَرِحَة، مثلمَا تُفسِدُ هذهِ الحكمَة نفسُهَا “تجَارة الموت” التي ينتعشُ “سوقُهَا” في الفَواجع والموَاجِع.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.