OCP

الباحث في السوسيولوجيا د عمرالايبوركي يقرأ التحولات في زمن الكورونا

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لفور تنمية: الدكتور عمر الايبوركي

إن مفهوم التغير الاجتماعي يتجسد في الدينامية الاجتماعية التي تعرفها بعض أو كل المجتمعات من خلال اختراق مجموعة من التوترات للنظام السائد،والمواجهة ضد عوامل الثبات والسكون، وهنا لابد من تعيين بعض اللحظات التي تتصدع فيها الأنساق الاجتماعية الراكضة،والبحث عن الشروط الكامنة وراء هذه القطيعة والتصدع.

هل يمكن القول إننا نعيش فترة مفصلية بتأثير هذا الوباء ،وهل تتحقق تلك القطيعة التاريخية مع ما سمي بمجتمعات الحداثة،وأصبحنا على أبواب مجتمعات ما بعد الحداثة كما تنبأ بذلك منظرو ن من فلاسفة وعلماء الاجتماع؟
غالبا ما تتغير طبيعة المجتمعات تاريخيا بفعل رجات علمية،أو كوارث إنسانية ،وتستبدل توجهاتها عندما تهتز القيم التي بنيت عليها الحضارة في فترة زمنية معينة،لدرجة الاعتقاد بأنها الفترة النهائية التي لا تغيير بعدها،و يعلن فيها موت الإنسان.

هل من حقنا أن نساءل التغير في بعده الاجتماعي الذي بدأت تلوح ملامحه بعد جائحة كرونا ؟

قد تتعرض بنيات المجتمعات إلى تحولات،وتغيرات اجتماعية تكون ظرفية،أو دائمة،لأن المجتمع يلجأ إلى أشكال متعددة من الدفاع،أو الوقاية من الصدمات التي قد تصيبه،أو تحد من توجهاته العامة سواء كأفراد أو مؤسسات.وهذا التغير الاجتماعي إذا اكتملت دوافعه، فقد يلامس نسقا من العلاقات المتفاعلة،و الذي يمكن رصد نظامه الداخلي ،والكشف عن طبيعة مظاهره،و حدود فعاليته.

ويقترن التغير الاجتماعي بالزمان والمكان، ولإدراك تحققه لابد من المقارنة بين الفترات والمراحل التي يعرف فيها مجتمع معين تحولات لاإرادية، قد لا يعيها أفراده على مستوى أنماط العيش،أو استبدال التنظيم الاجتماعي السائد،أو تغير في البنية السياسية،والعقليات،والقيم.

إن التغير الاجتماعي الذي عرفته المجتمعات المعاصرة اليوم برز عندما انتقل المجتمع إلى القيم الموضوعية مثل العقود والمعاملات المقننة،والمؤسسات المالية كمصدر للسلطة، بدل القيم الإنسانية والروحية في المجتمعات المسماة تقليدية حيث يكون التضامن الآلي يتميز بالانغلاق والتشابه وسيطرة القيم والأعراف عوض المجتمع المنفتح الذي يسود فيه التنوع وتقسيم العمل ويطبعه التضامن العضوي.

فالثقافة الجديدة التي سادت المجتمعات ترتبط أساسا بالنمط الاستهلاكي،نتيجة لما لعبته وسائل الإعلام من توجيه أفكار واختيارات الأفراد والجماعات عن طريق التسويق والإشهار. كما عملت على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة على الناس،و حددت هذه التمثلات نمط الحياة،وطريقة العيش، وتحكمت في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع.وهكذا ذابت حياة الأفراد في إطار عالم افتراضي، بحيث تحولت كل فئات المجتمع إلى آليات استهلاكية تساير تجدد الحاجيات، لأن وسائل التواصل الالكترونية دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا، وعولمت سلوكات ليبرالية جديدة،حتى بتنا كائنات استهلاكية تشكل نموذجا مثاليا موحدا في المأكل، والملبس،والتفكير، وطريقة التواصل عن بعد عبر الصورة، و اللاتواصل مع الواقع القريب الذي يبدو غريبا،كل هذا في إطار ما يسمى بالمجتمع الشبكي.وهكذا نشأ حولنا عالم من الخواء والفوضى، كما غابت بعض القيم الثقافية الإنسانية كالقرابة، والتضامن، والاكتفاء بالحاجيات الضرورية، والقناعة،والإيثار…
أدت هجمة الحداثة مع اللامساواة،والفقر بكل أنواعه،وارتفاع نسبة الأمية،والتنافسية المدمرة، إلى فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية،وضغط وسائل الاتصال واختراق التكنولوجية للمجالات الفردية،والانفتاح على الآخر بفعل العولمة الثقافية، واكتساح مظاهر الحداثة من عقلنة تحاول إزاحة بعض الظواهر والسلوكات التقليدية،كل هذه العوامل كانت سببا في أزمة الذاكرة الجماعية، ودافعا لمجاراة المجتمعات الحداثية بكل مظاهرها. كل فرد يضع نصب أعينه إشباع رغباته وتحقيق مصالحه الفردية،بل ويسعى إلى الاندفاع نحو التنافس مع الآخرين وتدميرهم. وأصبحت الغايات تبرر الوسائل،واستحالت معايير النجاح من الاستقامة والإخلاص،والعمل من أجل الآخرين إلى انتهاز الفرص(الهمزة) مع تفشي الزبونية والمحسوبية.

هذه الظواهر لا ترتبط فقط بالمجتمع المغربي خاصة أو العربي عامة بل هي ظاهرة برزت كتجلي للعولمة في بعدها الاقتصادي والإعلامي،بحيث انتقلت بنا العولمة من المجتمع الصناعي إلى ما يسمى مجتمع المخاطرة الذي تغيب فيه أنماط الحياة المستقرة.إن المجتمعات المبنية على القيم الأخلاقية بدأت بالاندثار مفسحة المجال لمجتمعات جديدة تسودها الفوضى وتغيب فيها أنماط الحياة المستقرة،أو ما يسمى بمجتمعات المخاطرة.

• ما هي صيرورة التحولات،في ظل تأثير هذه الجائحة،ونوعية تحققها وتطورها كظواهر؟

• ما أبعاد هذه التحولات على مستوى الفرد و المؤسسات الاجتماعية ؟

• هل وصلنا إلى قمة الدورة الحضارية بتعبير ابن خلدون،و آن الأوان ليسقط النموذج،وتتوقف عجلة التقدم المادي ليعيد الإنسان بناء وصياغة حاجياته،وتوجهاته،ونظامه ؟

يمكن القول انه بفضل هذا التراكم الحضاري الذي عاشته المجتمعات طيلة القرن الماضي ،كان لا بد من بروز ظواهر طبيعية ومكتسبة بفعل التقدم العلمي والتنافس الاقتصادي،وهذا التأثير له انعكاسات اجتماعية على كل المجتمعات سواء على مستوى الأفراد والمؤسسات،وتبقى درجة مناعتها في الحفاظ على قيمها،وطبيعة مؤسساتها هي الكفيلة بتقليص الخسائر التي تصاحب هذه المرحلة الانتقالية.

ما نلاحظه اليوم مع متغيرة الجائحة التي ضربت العالم هي مجموعة من التعديلات التي مست أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية في كل المجتمعات،واتخذت أشكالا متعددة من التصرف الاجتماعي لدى الأفراد،والمجتمعات ،ويمكن ان نقف عند بعض هذه التحولات على ان ذلك يتطلب ابتعاد الحدث،ومعرفة مدى تأثيره وحدود أبعاده اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا سواء على المستوى الوطني أو العالمي.

أدت هذه الثورة الجائحية إلى عودة الانغلاق،والانكماش على الذات،والى القيم الثقافية المحلية التي كانت تشكل حصنا حصينا للفرد والمجتمع. لأنه أمام عجز المواجهة انكشفت المجتمعات،وتراجعت إلى صف واحد لا فرق بين قوي وضعيف إلا بالتضامن والشراكة الاجتماعية بين جميع فئات المجتمع. أعاد الوباء ترميم العلاقة بين الإنسان وماضيه التكافلي مع الآخرين،وانبعثت القيم الثقافية المستمدة من مبادئ الدين،وطفا البعد الروحي،وبرز نوع من الضمير الجمعي داخل المجتمع الواحد.

على مستوى المؤسسات الاجتماعية،عادت الأسرة إلى الواجهة واستردت بعض وظائفها بعد ان اقتصر دورها على الوظيفة البيولوجية،أي أنها أداة للاستهلاك فقط، بل عليها اليوم ان تكون مؤسسة إنتاج الإنسان وتأهيله،تقوم بوظيفة التنشئة الاجتماعية القادرة على احتواء الأجيال ،و تنمية خصائص الأطفال والمراهقين النفسية،وسماتهم الشخصية وقدراتهم العقلية،بعد ان سلمتها إلى الشارع،والى مؤسسة المدرسة التي تحملت العبء الأكبر منها.نستطيع ان نقول اليوم إننا نعيش في مجتمع بلا مدرسة، والذي تلعب فيه وسائل التواصل التكنولوجي دورها الايجابي عن بعد،بينما تراقبه وتتابعه الأسرة عن قرب.

في فترة الحجر الصحي بسب جائحة كورونا تبقى العلاقات السائدة اليوم داخل الأسر في مجملها هي علاقات تضامنية بين أفرادها ،بل بين أفراد المجتمع الواحد،هنا تتوثق العلاقات الاجتماعية .

لقد كشف هذا الوباء وجود خلل في قيام المؤسسات الاجتماعية بأدوارها في عملية التنشئة الاجتماعية للفرد،وغياب الانسجام والتكامل بين الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام،والشارع،بل هناك أحيانا تضارب بينها. وما رأيناه اليوم هو تبادل الوظائف وتكاملها،وعادت الأسرة كما كانت من قبل هي المهد الأول لعملية التنشئة،وهي الموجه الذي يتكامل مع المدرسة،وباقي المؤسات الأخرى.كما التأم شمل الأسرة،واسترجعت معها سلطة الأب والأم،على الرغم من اندثار الأسرة الممتدة، وانتشار الأسرة النووية ،كما اتسعت ساعات التواصل اليومية في غياب الشارع،والمدرسة.

هذا جانب من التغير الاجتماعي الذي نعيشه في هذه الفترة من التحول التي يخضع لها المجتمع المغربي ككل المجتمعات،ومن شأنه ان يقوي الأسرة كخلية اجتماعية ضرورية للفرد ككائن اجتماعي لإعادة إدماجه وإنعاشه بقيم ثقافية كان الاعتقاد الجازم أنها تتجه إلى الاندثار والتفكك.وهو نموذج بسيط ومختزل ضمن التحولات الكبرى التي نعيشها جميعا بتأثير من وباء يصارعه الإنسان من أجل البقاء بكل إمكانياته.

وما يمكن استنتاجه هو ان الإنسان سيعيد صياغة ذاته، ومجتمعه،والعالم من حوله،ليتأقلم من جديد مع البيئة الجديدة والمناخ الذي سيخلفه هذا الوباء،وفقط المجتمعات المؤهلة والصاعدة هي من سيتحسس الطريق نحو العالم الجديد.

هذه تأملات في تأثير هذه الجائحة التي تعيشها جل مجتمعات العالم ،وقد طرحت علينا تساؤلات مصيرية سواء على مستوى الاقتصاد والسياسة والمجتمع،لأن انعكاساتها ستكون مركبة على الحضارات الإنسانية بشتى مرجعياتها ومرتكزاتها،ولأن العالم ما قبل كورونا لن يكون هو نفسه ما بعدها .

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.