الباحث محمد ناجي بنعمر يعود بترجمة كتاب مثير حول تاريخ المقاومة بالرحامنة وتادلة وزيان والقصيبة
صدر مؤخرا للدكتور والباحث محمد ناجي بنعمر كتاب جديد عبارة عن ترجمة لمشاهد من مقاومة الرحامنة وتادلة وزيان والقصيبة يرويها الرائد الفرنسي كورني وهو في طريقه لاحتلال الجنوب المغربي بين سنتي 1912 و1913.
الكتاب الصادر عن سلسلة منشورات الزمن تحت عنوان ” رائحة البارود ” يأتي ضمن المشروع العلمي الطموح الذي يحاول هذا الباحث تشييد صرحه منذ خمس عشرة سنة.ويكتسي موضوعه أهمية بالغة لمحاولته تسليط مزيد من الضوء على حقبة دقيقة، ومفصلية من تاريخ المغرب الحديث،إنها بداية الاحتلال الفرنسي وما سبقها ولحقها من أحداث وقضايا كان ،ولا زال، لها أكبر الأثر على وجودنا الخاص في هذا العالم الذي نقتسمه مع باقي الشعوب.
النص المترجم بحسب مقدمة د. عبد النبي ذاكر دقيق وحاسم يسعف المؤرخين اليوم في إعادة قراءة الظاهرة القيادية في مطالع القرن الماضي، وطرائق تدبيرها لأزمة الاحتلال، بمناوراتها ودسائسها وبطولاتها وإستراتيجياتها ونجاحاتها وانتصاراتها وهزائمها، في معاقل الجنوب المغربي: الرحامنة، تادلة، زَيان، القصيبة، سوس، تيزنيت، تارودانت…
ويضيف صاحب المقدمة أن ترجمة هذا الكتاب، الذي يستطلع ملامح الاحتلال الفرنسي للجنوب المغربي، ضمن مشروع متميِّز راهن فيه الباحث المغربي د. محمد ناجي بن عمر على تبصير القارئ بجدوى إعادة قراءة الكتابات الكولونيالية: الإثنوغرافية والأنثربولوجية والسوسيولوجية والعسكرية والديبلوماسية… من منطلق إعادة التحديق في ملامح الذات المنعكسة في مرآة الآخر، وولعا بما يمكن أن تسديَه هذه الكتابات الصادرة عن عين أجنبية ـ بما فيها النسائية ـ من خدمات للمغرب المعاصر بمدنه وقراه ومداشره وصحاريه وقبائله ونبض حياته الاجتماعية والسياسية والدينية… وفي هذا السياق يمكن أن نستوعب مجهوده الترجمي الجبّار لـ(زمن”لمحلّات” السلطانية) و(مراكش) و(الصلحاء) و(رحلة إلى المغرب) و(الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر) و(في قلب الأطلس) .
يشار إلى أن محمد ناجي بن عمر راهن على ترجمة أعلام: (منهم لويس أرنو، إدموند دوتي، رينولد لادريت دو لاشارير، روبيرت مونطاني، المركيز دو سي سيغونزاك) كتبوا عن المغرب من منطلقات معيّنة، تلونت بلون الاستعمار، لكن هذا لا يمنع من ضرورة مجادلتها ونخْلها، واستدعائها للمشهد الثقافي الراهن، استجابة لمقتضيات الصيرورة التاريخية، وتطلعات الأمّة. و لاا شك أن هذه القناعة، وجدت لها صدى لدى المثقفين المهتمين بالمشهد المغربي في بحر القرنيْن التاسع عشر ومطالع الألفية الثانية. و لربما كان هذا هو سر الإقبال على إعادة طبع هذه الكتب مترجمةً، أما وقد وقعت تحت سلطان غواية السفر على خطى من عبروا مسالك الشاوية ودكالة والرحامنة والحوز وسوس وفاس وأعماق الأطلس، واستوقفتهم الزوايا والحصون والقصور والقصبات والأضرحة، كما استوقفتهم غرائب الطقوس والممارسات والشعائر، وعجائب الطوائف الدينية: (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هدّاوة، كناوة…). وما كان لكل هذا أن يتأتى لولا تداخل المحقِّق المدقِّق والمترجم النبيه تحت جُبّة واحدة، جعلت من العملية الترجمية لديه جهدا تحقيقيا، تُلفت سلاسته القرّاء، وتستدرجهم للتفيُّئ تحت ظلال المعاني الوارفة، والمقاصد اللطيفة، دون صداع رأس تتسبب فيه العديد من الترجمات اليوم.
والكتاب الذي نسعد اليوم بتقديمه ووضع هوامشه وثبت أعلامه لا يخرج عن السِّرب، اعتبارا لتوقفه عند مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب الحديث 1912 ـ 1913، عَمَد فيه صاحبه النقيب كورني، شارل ـ جوزيف ـ أليكساندر Cornet, Charles-Joseph-Alexandre 1879 ـ 1914 إلى تتبع التفاصيل الصغرى والدقيقة لغزو الجنوب المغربي تحت قيادة الجنرال الشهير شارل مانجانCharles Mangin ، الذي قدّم لهذا العمل ـ المُهدى له ـ دون أن يخفي إعجابه الكبير بصاحبه.
ومعلوم أن الجنرال مانجان أسهم في احتلال المغرب تحت قيادة الماريشال الذائع الصيت: ليوطي Louis Hubert Gonzalve Lyautey. وقد تميّز الرجل بالاستيلاء على مراكش. وهو من الفاعلين الرئيسيين في الحملة على المغرب ما بين سنتي 1907 ـ 1914. وحري بالذكر هنا أنه صاحب كتاب: (القوة السوداء) ، وهو كتاب يوصي فيه بأهمية الاستخدام العسكري للموارد البشرية لإفريقيا السوداء لاحتلال إفريقيا الشمالية. كما دعا فيه إلى الاستخدام العاجل على نطاق واسع للقوات الاستعمارية المسماة “قوة سوداء”، في حالة نشوب حرب بأوروبا. ولا عجب في أن يتم إهداء الكتاب المترجم اليوم إلى شخصية كان لها باع طويل في الحروب الكولونيالية وتجييش الجيوش لها، والكعب المعلى في التأليف حولها .
كان النقيب كورني يراقب رحى المعركة، دون أن يخفي إعجابه ببعض زعماء المقاومة، وبجمال المغرب، فنقل بّورتريهات رائعة عن هؤلاء الزعماء، ووقف وصفه عند لوحات شاعرية لمناظر البلاد: (حقول، حدائق وبساتين قصور، قصبات، أودية ووديان…)، مما أكسب نصّه حيوية أبعدته عن التقرير العسكري الجاف. وتسلّل ماء الأدبية غَدِقا إلى الكثير من مقاطع النص، فجاءت نديّة تضِج ببهاء الأمكنة ورونقها.
وبقدر ما كانت السخرية والغرائبية إستراتيجيتان خطابيتان لتأكيد تفوق الذات، وتكريس دونية المغربي ـ وهو ما يفرضه السياق الاستعماري ـ جاءت بّورتريهات زعماء المقاومة وكبار “القياد”، والوصف الباذخ لجمالية الفضاء لتذيب جليد خطاب حاقد يأتي على الأخضر واليابس في العلاقات الإنسانية.