OCP

في حوار مع “فور تنمية”.. الكاتب والباحث والناقد ياسين كني: جيل Z يصنع مقاومته الثقافية خارج وصاية النخبة

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فور تنمية

في زمن تتسارع فيه التحولات وتتشابك الأسئلة حول السلطة والثقافة والمعنى، يبرز اسم ياسين كني كأحد الأصوات المغربية التي اختارت خوض مغامرة الدراسات الثقافية، مشروعاً نقدياً يسعى إلى تفكيك آليات الهيمنة وفهم العلاقة المعقدة بين القوة والعقل الجمعي.
جمع كني بين التحليل النظري والخلق الإبداعي، فكان الأدب عنده امتداداً للفكر، والفكر وجهاً آخر للجمال. نال جائزة كتارا للرواية العربية تقديراً لمسار يجمع بين الرؤية والجرأة.
في هذا الحوار مع “فور تنمية”، يتحدث كني عن السلطة والمجتمع وجيل “Z”، وعن الثقافة بوصفها آخر معاقل المقاومة وأفقاً مفتوحاً للأمل.

 

حاوره : منير الحجوجي

 

سؤال: أستاذ ياسين كني، مرحبا بك.. أنت من القلائل مغربيا/عربيا ممن توقفوا عند منظور الدراسات الثقافية.. هل لك في البداية أن تعرفنا بالدراسات الثقافية وخصوصا بهذا الباب المفصلي في قلبها الذي هو باب نقد أليات السلطة في احتواء/احتلال العقل الفردي/الجماعي؟

الأستاذ ياسين كني: بعيدا عن الاغراق في المصطلحات والتاريخ الدراسات الثقافية هي محاولة لخلق نشاط نقدي لاستغلال الجهود المبذولة ضمن المناهج التحليلية المعروفة، وخاصة ذات الأصول الماركسية والتحاليل النفسية والأنتروبولوجية، لفهم الثقافة كنظام للمعاني والقوى التي تشكل المجتمع والهوية، وتحاول الحفر عميقا حول آليات تَشكُّلها المعاصرة والموروثة.

تهتم الدراسات الثقافية بالقوى والهيمنة، ولذلك فهي ترصد الآليات الرمزية للسلطة من أجل تدجين الفرد وخلق دُجنة اجتماعية تطبع مع قرارات السلطة كيفما كانت طبيعتها، وكيف تستغل الرصيد التاريخي والقوة المعاصرة وتقاطع المصلحة مه الفاعل الخارجي لخلق نظام الهيمنة المركب.

سؤال: في تقديرك أستاذ ياسين، أين “تلعب” السلطة حاليا، ما هي ألياتها السيطرية، دوليا ومحليا؟

ياسين كني : السلطة اليوم تمتلك ما لم تمتلكه سلطة تاريخية سابقة، فهي تواكب الفرد من ولادته إلى وفاته، يد السلطة تلعب اليوم في جميع البرمترات، إنها تلعب دور الإله في الديانات القديمة، هذه المرة على وجه الحقيقة لا الاستعارة. تمتلك السلطة اليوم جميع الآليات لتصل إلى عقل ووجدان الفرد/ المواطن، كما تمتلك دعما عالميا يكرس نفس سردية الاستسلام القدري للمنظومة، من خلال منظومة رمزية ومادية تمتلكها وتحركها بضبط هائل. هناك ثقوب صغيرة نعم، الصراع قائم حول تلك الثقوب ومن له القدرة على التحكم بحجمها.

لنتحدث في أرض الواقع قليلا، دعنا نستحضر التجارب العربية في سياقها العالمي. السلطة العربية تتحكم في المدرسة والمسجد والاعلام، من خلال هذه الوسائط تمرر آلياتها للهيمنة، تهيئ جماعة المواطنين لقبول القرارات الكبرى والصغرى، لا والتصفيق لها واعتبارها تطلعات شخصية. حينما يفشل الأمر تستخدم السلطة آليات غير إيديولوجية، القمع بمختلف درجاته، لكن هذا جزء جبل الجليد الظاهر فقط، خلف الانصياع الجماعي تقف مؤسسات رمزية أخرى، الفعل التاريخي، تاريخ التدجين ما يزال حاضرا في المنطقة، متوارث جيلا بعد جيل، من فتنة الصحابة مرورا بالتطاحنات المذهبية وليس انتهاء بزمن السيبة. كل هذا التاريخ يلعب في الخلفية ويدعم من طرف السلطة ليخلق حالة الانصياع الجماعي للسلطة، انصياع يقف خلفه أهم لاعب هو اللاشعور الجمعي. هناك لاعب قوي آخر يدعم السلطة المحلية إلى جانب التاريخ، لاعب متفوق جدا، إنها الرأسمالية العالمية التي تدعم استمرار النموذج لأنه في مصلحتها.

قوى الهيمنة السلطوية إذن مدعومة بتركيبة فريدة غير مسبوقة، بمقابل قوى مقاومة منزوعة الآليات متشتتة الجهد. لكن التاريخ كان دائما هكذا، في الوسط الاجتماعي كما في الوسط البيولوجي، طفرة واحدة كفيلة بمحو تاريخ طويل من الهيمنة.

 

سؤال: هل لك أن تقول لنا كيف يمكن أن تقرأ الدراسات الثقافية مغربا أقل ما يقال عنه أنه ليس على ما يرام؟ وهل تتفق مع جون وتربوري وجملته الشهيرة أواسط الستينيات من “أن كل شيء في المغرب يتغير حتى لايتغير أي شيء”؟ هل الحراك الحالي، حراك جيل زيد، مؤشر على أننا أمام شيء “أخر”، أمام لعبة “أخرى”، أمام افتتاح زمنية جديدة، أمام، اذن، القطع مع الأطروحة الوتربورية؟؟

ياسين كني :  الدراسات الثقافية لا تشخص من أجل التشخيص، بل من أجل معرفة الحقيقة كاملة، وبعد ذلك يترك الأمر للفاعلين التاريخيين ليقرروا، إما ركوب قطار التاريخ، أو التخلف عنه وانتظار قطار آخر، أو حتى، لما لا، البقاء الأبدي في محطة قطار توقفت القطارات عن المرور بها.

الدراسات الثقافية تقول أن المغرب أخلف قطارات كثيرة، السبب يكمن في قبول النخبة بغرق المغربي في قبحيات تاريخه واستسلامه للقوى المعاصرة، المغرب يتغير فوقيا، هذا جميل، نحن نمتلك في العشرين سنة الأخيرة ما لم نمتلكه في قرن ونصف قبلها، لكن انظر على ماذا نبني هذا كله، نبنيه ببساطة على خواء يهدد كل شيء بالانهيار الكبير، في لحظة قد ينتهي كل شيء، وأهم خواء نبني عليه هو الخواء البشري، نحن ننزع بشرية المغربي منه ونحوله إلى كائن لا يمكن التنبؤ إلا بأنه سيهدم ولن يبني.

جملة وتربوري ناقصة، في المغرب يتغير كل شيء ليتغير كل شيء إلا ما يجب أن يتغير، جيل زيد يعي لاشعوريا بهذا، لكن يعوزه آليات مواكبة، هو جيل بداية جديدة، كمتفائل كبير أقول أن هذا جيل الأمل، جيل ما بعد سردية الاستقلال التي استمرت هزاتها الارتدادية إلى حراك 20 فبراير، هذا جيل خلق خارج هذه السردية، لكن كباحث محايد أنا لا أؤمن بنهاية التاريخ العام، لكنني أؤمن بنهاية التاريخ الخاص، أخشى أن تكون أمتنا تسير نحو نهاية التاريخ، ونصبح بعدها أمة بلا هوية منصهرة تماما في سرديات المهيمن، السوق الرأسمالي اليوم وأي مهيمن قادم في المستقبل. لكن لننتبه، قد تأتي النجدة من جهة أخرى جديدة في التاريخ، قد لا يأتي الخلاص على شكل خلاص لأمة، بل على شكل خلاص لبشرية تعود إلى التصاقها بالأرض وتعترف بأمومتها، وفي ظل التكنولوجيا الحديثة أنا من المؤمنين بهذا الحل، وأتمنى أن أعيش بداياته.

سؤال: لاحظنا جميعا، وفي عز الارتجاجات الجارية، كيف لجأت السلطة الى إطلاق مسودة نص قانون للانتخابات.. فقرة في مشروع النص تكشف عن جملة رهيبة مفادها أن السجن لمدة خمس سنوات ينتظر أي يشكك في “نزاهة” و”صدقية” الانتخابات.. كيف تقرأ الأمر؟ ألا يذكرك الأمر بالفاشيات التاريخية الكبرى التي كثيرا ما لجأت الى مثل الأمور لتنزيل أقصى ما يكمن من التحصين قبل أن تنتهي في أخر المطاف الى مزابل التاريخ الشهيرة؟؟

ياسين كني :  البداية كانت مختلفة هذه المرة، مشاورات وزارة الداخلية وصلت أنباؤها: نريد انتخابات نزيهة وشفافة، جيد. قدم المحللون تفسيرات كثيرة، أكثرها إقناعا أن السياق الدولي وترامب وملف الصحراء.. هو المحرك لهذه الرغبة في انتخابات حقيقية. بدت الأمور مبشرة. صحيح نحتاج بنية جديدة للعبة الانتخابية تبتدئ بقانون الانتخابات وتقسيم الدوائر وإشراف محايد.. لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، جاء قانون منع المحكوم عليهم جنائيا من الترشح أيضا كخطوة إيجابية، لكن فجأة نزل مقترح قانون تكميم الافواه، لا يجب أن نقرأه مفردا، سبق أن قدم وزير العدل قوانين مشابهة بدعوى حماسة المنتخَب، لكن هذا لا يمكن أن يفسر إلا أنه حصانة طبقية جديدة تضاف إلى باقي مقتضيات هذه الحصانة. سنعود للسؤال السابق، تتغير المغارف لنفس الحريرة التي يشتكي منها كثيرون، معالق ذهبية لا تمنح طعما جيدا لطعام غير مقبول.

سؤال: أستاذ ياسين، أنت أيضا منتج نصوص سردية/عوالم تخييلية حصلت على صدى حقيقي في محافل لها ثقلها الاعتباري (أنت حاصل على جائزة كاتارا للرواية العربية).. ما هي “الرسائل” التي تضمنها نصوصك؟ علما أن الكاتب غالبا ما يرتعب من المهمة حتى لايحرق كما نقول اللعبة القرائية.. ومع ذلك هل لك أن تتفضل ولو بإشارات طفيفة لفتح شهية القارئ؟

ياسين كني :  الكتابة عندي ليست أجزاء منفصلة. فما أكشفه في الدراسات الثقافية أحاول أن أستغله في النصوص الإبداعية. أعي أن البناء لا يتم بطريقة آلية، بل تتداعى أشياء كثيرة وصغيرة لتساهم في البناء، مهمة الدراسات الثقافية أن تكشف مسببات القبح الذي يكمن خلف الجماليات الكثيرة، ما نسميه بالأنساق الثقافية. مهمتي في النصوص الإبداعية أن أنتج أنساقا مضادة، خلف الجماليات الإبداعية أحاول اللعب في برمترات اللاشعور لإنتاج سلوكيات سوية. الأمر صعب وطويل ويحتاج تظافر الجهود. أنا أحاول أن أقوم بدوري، الباقي أتركه للتاريخ، كما أنني في الإبداع أستمتع، وأتعالج نفسيا، وهذا مهم لخلق التوازن بين الصدمات التي نتلقاها في البحث وتفكيك البنى المجتمعية.

سؤال: أستاذ ياسين، أنت المدرس المتمرس في سلك الابتدائي، كيف تقنع طفلا أننا لانعيش فقط بالبطاطا والهاتف المحمول و كيف تقنعه بأن الأدب يقترح أو على الأقل يقول أشياء لانجدها في التقنية، ولا في الدين، ولا في ….؟ كيف تقنعه بأن الأدب يمكن أن يكون هو ما سينقذه في زمن المحارق الكبرى؟

ياسين كني :  حتى لا أدعي المثالية فأنا مدرس كباقي المدرسين، محاصر ببرنامج دراسي وسياسات تعليمية ورزنامة تشكل خارطة طريق أضيع فيها من أجل تحقيق التعاقد بيني وبين الدولة في تمرير المنهاج المعلن والخفي، لكنني أحاول أن أشتغل على شيئين أظنهما مؤثرين أكثر من الدروس التي تجف يوما بعد يوم. أولا صورتي لدى المتعلم. المتعلمون يعرفون أنني كاتب وجزء منهم يتابع نجاحاتي. مهم جدا أن يرى المتعلم شخصا يشبههم يعيش مسيرة نجاح مختلفة عن نماذج النجاح المسوقة والمكرسة، هذا يفتح لهم بابا واسعا ليفعلوا الأمور بشكل مختلف. ثانيا أحاول أن أسرق أوقاتا ليكون لنا سنويا برنامج موازي في إطار الحياة المدرسية والأنشطة، إنتاج فيلم أو مسرحية يمكن أن يقدم للمتعلم عالما آخر موازيا ينقذه من أشياء كثيرة. مرة سمعني المدير منشغلا بالشرح، ربما خلال ذلك رفعت صوتي أو انفعلت، لا أدري لماذا تدخل، قال لي جملة ربما بشكل عفوي، لكنها تصلح شعارا لمدرسة المغرب: تمهل، المهم أن لا يخرج من مدرستنا متطرف! هذا هو صلب ما يجب أن نفعل، التطرف بكافة أنواعه هو ما يحاصرنا، تطرف الفساد والاستبداد، تطرف العبث والترفيه، التطرف الديني… هذا بالضبط دور الأدب والفن، تهذيب النفس. المدرسة خصوصا في السنوات الأولى يتوجب أن تمرر قيما وتهذب نفوسا، أن تنشئ أسوياء نفسيا، المقاربة المعتمدة اليوم هي مقاربة الملء ثم الملء، إفراغ عدد هائل من المعلومات حتى يغرق فيها المتعلم دون جدوى.

سؤال: هل لمحت أستاذ ياسين في نقاشات جين زيد على المنصة الشهيرة “ديسكورد” أو في البيانات التي أصدرها الحراك أثرا للأدب في بلورة الأطروحات الاحتجاجية؟ نحن نعلم أن الثائر غالبا ما يمتح من خزان الأدب لما يرى فيه ما يراه من إمكانات تنويرية.. نتذكر هنا كيف أن ماركس أعلن أنه تعلم من بالزاك حول الصراع الطبقي/المجتمع البرجوازي أكثر مما تعلمه من كتب الاقتصاديين.. ما هي النصوص السردية/التخييلية التي تنصح بها جيل جين زيد من أجل رؤية أكثر رحابة وربما جذرية للفعل الاحتجاجي؟؟

 

ياسين كني : بداية الأدب ليس نصوصا مكتوبة فقط، هو موجود في الروايات والقصص والكتب عموما، لكنه موجود في الأغاني من خلال كلماتها، موجود في حكايات الجدات وكلمات العوام، موجود في شكل اللباس والبنايات، في أغاني القرويين.. يجب أن لا نقع في فخ المؤسسة والسلطة التي نصبته. لقد استطاعت السلطة، من خلال تصنيف الأعمال هذا مؤسسي وهذا هامشي، هذا أدب وهذا غير أدب، قلت استطاعت أن تضمن شيوع أنواع محددة من الآداب والفنون، تلك التي تخدم النسق، تنبهت الدراسات الثقافية لهذا مبكرا، لذلك اهتمت بما سمته الهامش، نبهت إليه، ألم تر أن بوب ديلان فرض على المؤسسة ونال نوبل، من كان يظن ذلك.

الأدب مهم جدا، وحينما لا تلبي المؤسسة رغبات الجماهير يصنعون أدبهم، بالعودة لجيل زيد فالأدب يشكل جزء أصيلا من سرديتهم، بدأنا نرصد ذلك في تيفوهات المشجعين، يستحضرون الآداب العالمية بدقة، مزرعة الحيوان لأرويل والتحول لكافكا حضرا في تيفوهات لجماهير كروية، أغاني الراب حضرت فيها مصطلحات فلسفية واقتصادية وسياسية بليغة تظهر الأدب، المجموعات الفيسبوكية الخاصة بالشباب تظهر الاهتمام بالرواية خصوصا. طبعا الأمر لا يخلو من بعض الفوضى وغياب التأطير، لكن هذا يدخل في صميم تجربتهم التي تنضج ببطء، تجربة يجب أن لا نحللها بآليات أجيالنا فقط، هو جيل مختلف، والأدب بدوره يأخذ طريقا مختلفا. ما أصبح يعرف اليوم بالأدب السيبراني داخل بقوة في صلب تجربتهم، موجود في اللعب الإلكترونية التي يتفاعلون معها. نحن أمام جيل جديد تنقصنا الآليات لتحليله ولمواكبته، وهذا ربما يكون في صالحه لأن الأبوية لم تنتج شيئا.

سؤال: كيف ترى مغرب العقود القادمة؟ هل سيكون مغربا الكرامة أم سيسقط بين أيادي همجية  قديمة/جديدة ستكون هذه المرة مسلحة بأخطر ما يوجد الأن الذي هو الذكاء الصناعي؟

ياسين كني :  المستقبل لا نملك إلا أن ننخرط في جعله جيدا. حينما نحلل ونفكك ونخرج باستنتاج تشاؤمي فهذا لتجنب المأل السيء، ولذلك أنا لا أفضل أن أحدد ماهية المستقبل بل أن أنخرط في تجويده والتحذير من مخاطره، ومعلوم أن التاريخ يسير بالطفرات، لا وجود للخطية في الزمن، وأنا ربما من القلائل المتفائل بخصوص الذكاء الصناعي، ربما يكون خلاصا جماعيا ويوفر ديمقراطية في القوة والوصول للسلطة. أنا خلال هذه الأيام منخرط في كتابة رواية تتحدث عن الذكاء الصناعي، وتحمل هذا الهم، لكن المهم أنها تحاول أن تلعب على شرط التنبيه، الذكاء الصناعي قطار تاريخي مهم، قد يكون الأخير في محطة الانتظار، فلنركب أو نمضي حياتنا في الانتظار، لا مكان للتخوف والخوف، من أفلت قطار التقنية سابقا أفلته لأنه رفع نفس التخوفات المرفوعة اليوم في وجه الذكاء الصناعي.

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.