أحمد قصوار يكتب :أيام مقهى “جوهر”
فور تنمية. أحمد القصوار
الى روح محمد بودهن وعلي الشاوي
1-
لا يمكن للمكان ان يكون هو؛ كما هو، في ماهية مجردة، ومن دون حضور الفعل الإنساني، والاثر الإنساني، والحضور بين اشخاص جمعهم ذلك المكان لسبب من الأسباب.
لا يمكن أن ندعي معرفتنا بالمكان، من دون ان يكون له أثر في نفوسنا، وان يكون وجودنا قد اصابته “لوثة” ذلك المكان.
2-
حينما استعيد حضوري الإنساني في مقهى “جوهر”، لا يمكن ان أنسى او اتجاوز حضور/ حضوري مع اشخاص اعزاء، منهم من لقي حتفه ومنهم من ينتظر. فهذا المكان، الفضاء الإنساني المعتق في ذاكرة القلب قبل العقل في نهاية التسعينيات وبداية الالفية الثالثة، ارتبط ارتباطا خاصا مع الصديق محمد بودهن رحمه الله والزميلين سي الصادق عاشور وسي محمد مليت اطال الله عمرهما. كانت البدايات المهنية الأولى معهم في حي المحيط العريق. وكانت اللقاءات الممتعة الصباحية او الزوالية في فضاء “جوهر” المريح.
3-
لا يمكن ان اذكر “جوهر” من دون ان استحضر الساعات الطويلة التي قضيتها في العمل على الترجمة او القراءة او تهييئ مشاريع بحث؛ منها من اكتمل، ومنها من ضاع او تم نسيانه بين الأوراق وفي ثقوب الذاكرة.
لم تكن “جوهر” مقهى عادية او عابرة. كنت/ كنا نجلس فيها بشكل شبه يومي، لمرة واحدة على الأقل. بالنسبة لي، كنت اجلس مرتين: تكون الأولى مع الزملاء او مع الصديق محمد بودهن رفيق المعهد والعمل. وتكون المرة الثانية جلسة خاصة اباشر فيها مشاريعي البحثية والترجمية.
4-
مع مرور الأيام، شكل فضاؤها الواسع واضاءتها الجيدة في النصف الأول من اليوم تيارا جاذبا لي لا محيد عنه ولا مجال لاستبداله او الابتعاد عنه.
احتفظت المقهى طيلة تلك السنين بإطلاق صوت إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية / ميدي1، حيث تتوالى الاخبار والبرامج الإخبارية والموسيقية الغربية والعربية.
ربطنا علاقة نوعية مع النادلين: “سي إبراهيم”، “سي اومانا”، “سي الحسين”. حفظوا واحتفظوا بعاداتنا في شرب القهوة.
5-
لم تكن “جوهر” مقهى نجلس فيها. كانت فضاء تقودنا اقدامنا اليه بديهيا. لم تكن فضاء لشرب القهوة او الشاي. كانت فضاء نشيد فيه انسانيتنا ونرسخ فيه المشترك والجميل فيما نعمل او نأمل. كانت بالنسبة لي مكتبا ثانيا أساسيا سواء للعمل المهني او للبحث الجامعي او الثقافي العام.
استحضر جلوسي منفردا في ساعات الصباح الأولى للإفطار أحيانا، او لاستثمار بعض الوقت للاشتغال في ترجماتي او مشاريعي الجامعية حينها، قبل الذهاب الى مقر العمل. استحضر جلوسي فيها بين 12 زوالا و2 بعد الزوال. استحضر جلوسي أحيانا في ساعات المساء بعد مغادرة مقر العمل للقاء صديق او أصدقاء (علي الشاوي، رضوان شكري، منير الحجوجي..).
6-
لم يكن الزمن هو الزمن، ولا المكان هو المكان. كنت في حضرة زمكان يبدو بديهيا ان اتواجد فيه وبه. لم يكن ثمة انفصال او تباعد او تنافر. كان الكل يساهم في تحقيق المبتغى.
لم تكن “جوهر” بالنسبة لي كما يتمثلها الزملاء الذين جمعتنا بهم لأول مرة. لكل واحد “جوهر”ه. وكل واحد له تاريخه الشخصي المتواصل او المتقطع/ المنقطع معها.
شخصيا، حققت فيها الكثير من اهدافي الصغيرة والمتناثرة أحيانا في مجال البحث والترجمة والكتابة.
7-
لم تكن “جوهر” فضاء واحدا وموحدا. كان هناك فضاء خاص على اليمين ميزها تاريخيا مخصص للطلبة والباحثين، حيث يقضون وقتهم لساعات (في الغالب) للكتابة او المراجعة او القراءة او اجراء تمارين في المواد العلمية. توافدت عليها أجيال كثيرة من طلبة الكليات والمعاهد، ولاسيما كلية الحقوق وكلية الآداب. يجلسون فرادى او جماعات، ولكل طقوسه وطاولته وفترات استراحته ومواقيت جلوسه او انصرافهن سواء في الصباح او في المساء.
8-
قامت “جوهر” بدور تاريخي في نجاح وضمان تركيز ومواظبة عشرات الطلبة والطالبات الذين وجدوا فيها مقرا امنا احتضنهم وساعدهم على التحصيل والتحضير للامتحانات او اعداد البحوث والمذكرات.
على الجانب الايسر من الفضاء الداخلي للمقهى، كان هناك حيز مخصص عادة للعائلات وعموم الزبناء الذين لا يصنفون ضمن الطلبة او الأساتذة الذين يلجونها للدراسة والتحصيل.
حصل تعايش وتكامل عجيب رسخا اعرافا وتقاليد توارثها الزبناء وحافظ عليها النادلون، مما جعلها فضاء عموميا متعددا يجمع بين اشخاص من قاطني الحي، واخرين من طلبة وباحثين وأساتذة وموظفين يقطنون او يعملون قربها او قادمين من احياء بعيدة من الرباط وسلا وتمارة، ناهيك عن الزبناء العابرين.
9-
كان يحصل تعايش وانسجام غريب بين اشخاص واعمار وتخصصات وعوالم مختلفة في فضاء “جوهر” المؤنس والمتميز بجودة المشروبات وتألق النادلين ومعرفتهم الدقيقة بعادات وحاجات مختلف الزبناء. حدث هذا في نهاية التسعينيات وبداية الالفية الثالثة وقبل حلول العصر الرقمي والتلوث السمعي البصري في مختلف الفضاءات العمومية.
لم يكن هناك ضجيج الهواتف “الذكية”، مقابل بروز أصوات طلبة العلم. كنا نرى الكتب والملفات والأوراق والاقلام قبل ان تحل الحواسيب واللوحات الالكترونية.
10-
لا يمكن للمكان ان يكون هو، كما هو، او كما قد يبدو ظاهريا بنظرة “حيادية” عابرة او جامدة. مع توالي الأيام، وتكرار العادات، صار الجلوس في “جوهر” ضرورة “وجودية” للتمكن من القراءة او الكتابة او الترجمة…أصبح شرط امكان لتحقيق شرطي الإنساني وممارسة طقوس تحقيق الذات.
لم تكن “جوهر” مكانا خارجيا منفصلا عن الذات. كان تمثلها والحضور فيها او مغادرتها متداخلين ومتكاملين.
حضرت فينا وحضرنا فيها، وعشنا فيها لحظات واحاسيس مختلفة بين الفرح والحزن والغضب…
ربما نكون نحن الذين سكناها وسكنتنا في تلك السنوات. ربما نكون قد احببنا المكان، لأنه يعكس “جوهرنا”.