الــمــقــاومـة … !
فور تنمية: د عبد الواحد ايت الزين أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط
المقاومة قدر الشّعوب المحاصَرة، ولا يمكن لحصار شعب سوى أن ينميّ فكرة المقاومة ويجذّرها في أرواح كلّ أفراده. يوقظ الحصار فرائص المقاومة من مخمدها، ويبعث فيها الشّرارة تلو الشّرارة حتى تتحول ناراً مشتعلة. تموت المقاومة حين تضعف الفكرة وتخفت في أرواح وعقول حامليها، وأما إن كان كلّ كلّ يحدث في “أرض الحصار”، يذكّر أن موتاً بشرف أفضل بكثير من حياة الحصار والهوان، فإنّ فكرة المقاومة تصير في الأوراح شامخة وبالعقول مقترنة. ما ضعفت الفكرة خارج الأرض المحتلّة إلا حينما فَصَلَ “الإسرافيليّون العرب” شعوبهم عن الفكرة بوصفها قضيّة لها تاريخ وملاحم وأمجاد، وما كانت الفكرة على الضّعف الملحوظ في بعض الكيانات العربيّة لما كانت القضية قضية العرب جميعاً. قبل أن تصير الفكرة/ القضية “محلية/فلسطينية” كانت فكرة/ قضيّة عربية بل قضيّة إنسانيّة، ولما كانت كذلك، شكّلت –ولم تزل تشكّل- الشاهد الأبرز في العالم المعاصر على معنى أن يكون الإنسان مقاوماً.
لا يزرع الحصارُ الخوفَ في الإنسان، بقدر ما يخصب فيه بذرة المقاومة وينمّيها. يكتشف الإنسان أقصى ما يستطيعه حين تعرضه للمحن الشّديدة. لنختم حديثنا عن “قوة المقاومة” باستعادة مثال الجلاّد وضحاياه المعذّبين: ففي لحظات التعرض لأشد أنواع التعذيب والقهر يلتقي الإنسان مع ذاته في صفاء خالص، يقابلها فيتعرف على ما فيه ولا ينتبه له: إنه يدرك ذاته وما تقدر عليه من صبر وتحمل ومقاومة وصمود. وكذلكم حال الشعوب المحاصرة والمقاومة، فهي، وهي تتعرض للقصف والحصار، تبدع، وتغني، وتفرح، وتتعلم فن العيش بالرغم من قنابل “الوحوش”، هكذا كانت حال المستعمرات الأوروبية إلى حين قريب، وهكذا كانت حال الهنود والفيتناميين، إلى حدود الأمس، وهكذا كانت حال اليهود من ضحايا النازية إبان الحرب العالمية الثانية، وهكذا كانت وماتزال حال المقاومة بغزة ولبنان وفلسطين المحتلّة، كذلكم كان وكذلكم سيكون، فليعتبر المحتلّ من دروس التاريخ ويتعظ !
ليس الإنسان كائناً عاقلاً وناطقاً وسياسياً فقط. إنه، وعلاوة على ذلك كائن مُقاوم. يكاد فعل المقاومة أن يكون انعكاساً لمختلف تلك السّمات التي تميّزه عن غيره، وعلى رأسها العقل واللّغة والاجتماع المنظّم، وما تعلّق بكل ذلك من إرادة وحرية وقدرة على الصّنع والإبداع. لا يحتاج المرء إلى كثير من الجَهد لإثبات تأصّل فعل المقاومة في الكيّان الإنسانيّ أفراداً وجماعات، فالتاريخ مكتوب بفعل المقاومين، ومسطّر بدماء تضحيّاتهم، ومؤرّخ بقصَص ملاحمهم.
لقد قاوم الإنسان قدره الطبيعيّ الذي صوّره كائناً ضعيفاً أمام غيره من الكائنات، فتبيّن انطلاقا من مقاوماته أن في قدرته اللامتناهية على المقاومة والفعل عنصر تفوّقٍ له في الحياة والطّبيعة. هكذا راح الإنسان يقاوم معطاه الطّبيعيّ، ويوسّع من إمكاناته ليصير سيّد الطبيعة والمسؤول الأوّل عمّا يلحقُها إن إيجاباً أو سلباً. على هذا الأساس أمكن القول: إن الإنسان كائن مقاوم بالتعريف والطبيعة، وبمقاوماته يصنع التاريخ، ويغير من مجرى قوانين الطبيعة أيضاً.
ما التاريخ إن لم يكن قصّة لأفراد وشعوب كتبت قوانينه بمقاوماتها؟ ما التاريخ إن لم يكن هو “طبيعة الإنسان” بما هو كائن مقاوم؟ ما التاريخ إن لم يكن شهادة حيّة على مباغتة الإنسان لقوانينه و”طبيعته” [قوانين التاريخ وطبيعته] والمكر بهما من حيث ترسّخهما وتجذّرهما؟ تكشف المقاومة أن التاريخ لا يمكن أن يكون “طبيعة” مستقرّة وثابتة ونهائية، وأن الإنسان بفعل المقاومة قادر على تغيير وجهة التاريخ ومقاصده. إنّ الإنسان يصنع التاريخ بشكل دائم ومتجدّد، وكلما استتبت الأوضاع، وظهر أن “كل شيء تحت السّيطرة”، كانت هناك مقاومة ما، تفاجئ وتباغث “التاريخ” بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. التاريخ حركة مقاومة، وإبداع بشري لا يني عن المباغتة، وأنى لأي “قوة” و”غطرسة” -مهما بلغ اعتدادها بنفسها وقوتها- بتوهّم إيقافه والتحكّم في مساراته.
ما استسلم البشر لقوانين الطبيعة وهي ما هي عليه من جبريّة وحتميّة، فكيف للتاريخ أن يصير “طبيعة” ويُعتقد في إمكانية التحكّم في قوانينه وتعطيل قدرة الإنسان على الفعل فيه ! قدر الإنسان أن يكون حرّاً، وكلّما ضاقت حريته، اكتشف ما فيه من قدرة على توسيع رحبة وجوده الحر. الظّاهر من خلال استقراء التاريخ والطّبيعة عينهما أن الموت عند الإنسان أهون من أن يعيش تحت نير الاستعباد والتحكم، وما تاريخه/طبيعته سوى نضال ومقاومة مستمرين من أجل حريته ضدّ مختلف أشكال إخضاعه. أن يحيا الإنسان معناه أن يكون ويعيش حراً، وأن يموت معناه أن يكف على أن يكون حراً، لذا فالموت عنده ليس “تحية وداع” للحياة، وإنما هو فقدان لما يكون به الإنسان إنساناً: الحرية والمقاومة.
يوجد في الإنسان ما لا يمكن سلبه إيّاه. فيه ما يظلّ متعذراً على أيّ “سجّان” أن ينتزعه منه، وليس هذا الذي يظلّ بعيداً عن “تحكّم الجلاّد” سوى شعوره بقدرته على المقاومة والتغلّب على محاولات “تركيعه”. من كان سيّد نفسه وقراره، عاش حريته، ولو كانت الأغلال تلفّ يديه وعنقه. ثمة في الإنسان ما لا تطالُه سيّاط الجلاّد، وهو كذلك لأنه “لا يُرى، ولا يُلمس”، إذ بمجرّد ما يباشر الجلاّد حصص التعذيب لانتزاع مقاومة الإنسان وسلبه كرامته وإنسانيته، يكتشف الإنسان “حديقة خلفيّة” في دواخله العميقة، ولما يحتمي بها ملاذاً له، يفوّت على الجلاّد ظفره ونصره .
بادٍ أنّ مأتى قوّة فعل المقاومة نابع من انغراسه وتجذّره في الدّاخل الروحيّ للإنسان، لكن لا ينبغي أن نفهم من هذا “العمق الروحي” لفعل المقاومة أنه فاعلية سلبية خاضعة ومستسلمة، لأن الروحيّ هنا قوّة متأججة، سرعان ما تنقلب إلى فعل مادي قد يغير من مجرى التاريخ بكامله. يفصح هذا العنصر الروحي الكامن في النفس البشرية عن ثقتها في قدرتها على الإتيان باللامتوقع، وحين يترسّخ هذا الإيمان ويتجذر يعلن عن نفسه في حدث مفاجئ وصادم، وهو كذلك لأنه يخرق القوانين المسطّرة التي تسمح بالتوقع والتنبؤ. ولنقرأ أدب السّجون، وصمود العائدين من أفران الموت والتعذيب، لنلمس “ما لا يلمس” في تجارب المقاومة والتحمّل.
لقد اكتشفها بوئثيوس، وبرهن عليها ابكتيت بأقوى برهان. اكتشف بوئتيوس في محنة السجن حريته الداخلية التي سمحت له بسلب السجان انتشاءه بنصره، وكذلك فعل كل المقاومين بجرأتهم على إشهار حرية “أرواحهم” و”أحلامهم” في وجه سجّاني أجسادهم. ما اكتشفه بوئثيوس –وغيره- برهن عليه ابتكتيت لما قاوم بربرية “سيّده” وتحمّل جنونه ووحشيته، فأخضعت المقاومة نزوات المستعبِد لسيادتها، وتحولت –بفعلها- العبودية إلى حرية، وأظهرت ما تسمح به المقاومة من قدرات على التحمل –تحمل ما يبدو أن لا طاقة للمرء بتحمله أحيانا- وتعبئة “دواخل الإنسان” لمواجهة ما تتعرض له “خوراجه” من ضغوط وترهيب وتعذيب. لا يجتاح المعتدي الذات إلاّ حينما يتمكن من القبض على “روحها” و”دواخلها”، وما لم يفعل ذلك، فمهما سجن، وعذّب، واضطهد، وأرعب فإنّ فكرة المقاومة تظلّ شامخة وظافرة. ولعلّ جون لوك قد أحسن التعبير لمّا قال في: “رسالته حول التسامح”: “صادر إن شئت أموال إنسان، واسجن بدنه أو عذّبه، فإن أمثال هذه العقوبات لن تجدي فتيلاً إن كنت ترجو من وراء ذلك أن تحمله على تغيير حكم عقله على الأشياء”. إنّ كل أساليب التنكيل والاضطهاد لا يمكنها أن تغيّر حكم عقل الإنسان في الأشياء، فأنّى لها أن تعقِل فكرة المقاومة، وتصادرها من عقل لا يرى في غيرها تحصيناً لوجوده !
ما اكتشفه بوئتيوس، وبرهن عليه ابكتيت بأقوى برهان (الاختبار الواقعي)، وعبّر عنه لوك بأفضل ما يكون التعبير، أعادت المقاومة الفلسطينية تأكيده وترسيخه وإثبات صلاحياته الأبديّة. ما كانت ضربة السّابع من أكتوبر مجرد “انتفاضة حماس” ! لقد كانت بالأحرى بعثاً لمعنى أن يكون الحصار باعثاً على الإبداع في فن المقاومة. أظهرت الضّربة القاصمة تلك أن فضيلة تحمل ما لا طاقة للمرء به، والانطلاق منه لمقاومة الاستعباد، وكتابة تاريخ الحرية، ليس فعلاً يخصّ الأفراد وحسب، بل يتجاوزهم ليمسّ بناء الكيانات الجماعية والأوطان والشّعوب. في اللّحظة التي كان فيها المحتلّ، يتوهّم قبضه على “روح المقاومة” ومن ثمة شلّ جسمها على المبادرة والفعل، أتته ريّاح المقاومة بما لم يحسب له حساباً. هكذا حصل ما حصل في السّابع من أكتوبر 2023، حيث، ولمّا اطمأن المحتلّ إلى غطرسته وقوته ومخابراته، وتوهّم أن فكرة المقاومة تلاشت، وأنّ ألويّتها انشغلت عنه بتدبير يومها، وما يجثم عليه من جوع وحرمان كان المحتل يتفنّن في إشعار غزة بهما، لمّا ظنّ المحتلّ ما ظنّه استيقظ في السابع من أكتوبر على صوت المقاومة مبرهناً أن “حال الحصار” قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في يد المحاصِر.
حيث لا مفر -ومثلما كتب محمود درويش- فليس لك إلا أن تحاصر حصارك، بذراعك، بذراعي، بك، بي، بأشلائك، وبأشلائي. بالجنود، وبالجنون، ليس لك إلا أن تحاصر الحصار. حتى لو كانت ذخيرتك قتلاك وجرحاك وأسراك فليس لك إلا محاصرة حصارك، فلا إخوة لك، ولا أصدقاء، لا دواء، ولا سماء. ليس لك إلاّك فحاصر حصارك حتى يسقط القناع عن القناع، ويسقط القناع عن القناع، ويسقط القناع عن القناع… !
عبد الواحد ايت الزين
أستاذ باحث
المقاومة قدر الشّعوب المحاصَرة، ولا يمكن لحصار شعب سوى أن ينميّ فكرة المقاومة ويجذّرها في أرواح كلّ أفراده. يوقظ الحصار فرائص المقاومة من مخمدها، ويبعث فيها الشّرارة تلو الشّرارة حتى تتحول ناراً مشتعلة. تموت المقاومة حين تضعف الفكرة وتخفت في أرواح وعقول حامليها، وأما إن كان كلّ كلّ يحدث في “أرض الحصار”، يذكّر أن موتاً بشرف أفضل بكثير من حياة الحصار والهوان، فإنّ فكرة المقاومة تصير في الأوراح شامخة وبالعقول مقترنة. ما ضعفت الفكرة خارج الأرض المحتلّة إلا حينما فَصَلَ “الإسرافيليّون العرب” شعوبهم عن الفكرة بوصفها قضيّة لها تاريخ وملاحم وأمجاد، وما كانت الفكرة على الضّعف الملحوظ في بعض الكيانات العربيّة لما كانت القضية قضية العرب جميعاً. قبل أن تصير الفكرة/ القضية “محلية/فلسطينية” كانت فكرة/ قضيّة عربية بل قضيّة إنسانيّة، ولما كانت كذلك، شكّلت –ولم تزل تشكّل- الشاهد الأبرز في العالم المعاصر على معنى أن يكون الإنسان مقاوماً.
لا يزرع الحصارُ الخوفَ في الإنسان، بقدر ما يخصب فيه بذرة المقاومة وينمّيها. يكتشف الإنسان أقصى ما يستطيعه حين تعرضه للمحن الشّديدة. لنختم حديثنا عن “قوة المقاومة” باستعادة مثال الجلاّد وضحاياه المعذّبين: ففي لحظات التعرض لأشد أنواع التعذيب والقهر يلتقي الإنسان مع ذاته في صفاء خالص، يقابلها فيتعرف على ما فيه ولا ينتبه له: إنه يدرك ذاته وما تقدر عليه من صبر وتحمل ومقاومة وصمود. وكذلكم حال الشعوب المحاصرة والمقاومة، فهي، وهي تتعرض للقصف والحصار، تبدع، وتغني، وتفرح، وتتعلم فن العيش بالرغم من قنابل “الوحوش”، هكذا كانت حال المستعمرات الأوروبية إلى حين قريب، وهكذا كانت حال الهنود والفيتناميين، إلى حدود الأمس، وهكذا كانت حال اليهود من ضحايا النازية إبان الحرب العالمية الثانية، وهكذا كانت وماتزال حال المقاومة بغزة ولبنان وفلسطين المحتلّة، كذلكم كان وكذلكم سيكون، فليعتبر المحتلّ من دروس التاريخ ويتعظ !
ليس الإنسان كائناً عاقلاً وناطقاً وسياسياً فقط. إنه، وعلاوة على ذلك كائن مُقاوم. يكاد فعل المقاومة أن يكون انعكاساً لمختلف تلك السّمات التي تميّزه عن غيره، وعلى رأسها العقل واللّغة والاجتماع المنظّم، وما تعلّق بكل ذلك من إرادة وحرية وقدرة على الصّنع والإبداع. لا يحتاج المرء إلى كثير من الجَهد لإثبات تأصّل فعل المقاومة في الكيّان الإنسانيّ أفراداً وجماعات، فالتاريخ مكتوب بفعل المقاومين، ومسطّر بدماء تضحيّاتهم، ومؤرّخ بقصَص ملاحمهم.
لقد قاوم الإنسان قدره الطبيعيّ الذي صوّره كائناً ضعيفاً أمام غيره من الكائنات، فتبيّن انطلاقا من مقاوماته أن في قدرته اللامتناهية على المقاومة والفعل عنصر تفوّقٍ له في الحياة والطّبيعة. هكذا راح الإنسان يقاوم معطاه الطّبيعيّ، ويوسّع من إمكاناته ليصير سيّد الطبيعة والمسؤول الأوّل عمّا يلحقُها إن إيجاباً أو سلباً. على هذا الأساس أمكن القول: إن الإنسان كائن مقاوم بالتعريف والطبيعة، وبمقاوماته يصنع التاريخ، ويغير من مجرى قوانين الطبيعة أيضاً.
ما التاريخ إن لم يكن قصّة لأفراد وشعوب كتبت قوانينه بمقاوماتها؟ ما التاريخ إن لم يكن هو “طبيعة الإنسان” بما هو كائن مقاوم؟ ما التاريخ إن لم يكن شهادة حيّة على مباغتة الإنسان لقوانينه و”طبيعته” [قوانين التاريخ وطبيعته] والمكر بهما من حيث ترسّخهما وتجذّرهما؟ تكشف المقاومة أن التاريخ لا يمكن أن يكون “طبيعة” مستقرّة وثابتة ونهائية، وأن الإنسان بفعل المقاومة قادر على تغيير وجهة التاريخ ومقاصده. إنّ الإنسان يصنع التاريخ بشكل دائم ومتجدّد، وكلما استتبت الأوضاع، وظهر أن “كل شيء تحت السّيطرة”، كانت هناك مقاومة ما، تفاجئ وتباغث “التاريخ” بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. التاريخ حركة مقاومة، وإبداع بشري لا يني عن المباغتة، وأنى لأي “قوة” و”غطرسة” -مهما بلغ اعتدادها بنفسها وقوتها- بتوهّم إيقافه والتحكّم في مساراته.
ما استسلم البشر لقوانين الطبيعة وهي ما هي عليه من جبريّة وحتميّة، فكيف للتاريخ أن يصير “طبيعة” ويُعتقد في إمكانية التحكّم في قوانينه وتعطيل قدرة الإنسان على الفعل فيه ! قدر الإنسان أن يكون حرّاً، وكلّما ضاقت حريته، اكتشف ما فيه من قدرة على توسيع رحبة وجوده الحر. الظّاهر من خلال استقراء التاريخ والطّبيعة عينهما أن الموت عند الإنسان أهون من أن يعيش تحت نير الاستعباد والتحكم، وما تاريخه/طبيعته سوى نضال ومقاومة مستمرين من أجل حريته ضدّ مختلف أشكال إخضاعه. أن يحيا الإنسان معناه أن يكون ويعيش حراً، وأن يموت معناه أن يكف على أن يكون حراً، لذا فالموت عنده ليس “تحية وداع” للحياة، وإنما هو فقدان لما يكون به الإنسان إنساناً: الحرية والمقاومة.
يوجد في الإنسان ما لا يمكن سلبه إيّاه. فيه ما يظلّ متعذراً على أيّ “سجّان” أن ينتزعه منه، وليس هذا الذي يظلّ بعيداً عن “تحكّم الجلاّد” سوى شعوره بقدرته على المقاومة والتغلّب على محاولات “تركيعه”. من كان سيّد نفسه وقراره، عاش حريته، ولو كانت الأغلال تلفّ يديه وعنقه. ثمة في الإنسان ما لا تطالُه سيّاط الجلاّد، وهو كذلك لأنه “لا يُرى، ولا يُلمس”، إذ بمجرّد ما يباشر الجلاّد حصص التعذيب لانتزاع مقاومة الإنسان وسلبه كرامته وإنسانيته، يكتشف الإنسان “حديقة خلفيّة” في دواخله العميقة، ولما يحتمي بها ملاذاً له، يفوّت على الجلاّد ظفره ونصره .
بادٍ أنّ مأتى قوّة فعل المقاومة نابع من انغراسه وتجذّره في الدّاخل الروحيّ للإنسان، لكن لا ينبغي أن نفهم من هذا “العمق الروحي” لفعل المقاومة أنه فاعلية سلبية خاضعة ومستسلمة، لأن الروحيّ هنا قوّة متأججة، سرعان ما تنقلب إلى فعل مادي قد يغير من مجرى التاريخ بكامله. يفصح هذا العنصر الروحي الكامن في النفس البشرية عن ثقتها في قدرتها على الإتيان باللامتوقع، وحين يترسّخ هذا الإيمان ويتجذر يعلن عن نفسه في حدث مفاجئ وصادم، وهو كذلك لأنه يخرق القوانين المسطّرة التي تسمح بالتوقع والتنبؤ. ولنقرأ أدب السّجون، وصمود العائدين من أفران الموت والتعذيب، لنلمس “ما لا يلمس” في تجارب المقاومة والتحمّل.
لقد اكتشفها بوئثيوس، وبرهن عليها ابكتيت بأقوى برهان. اكتشف بوئتيوس في محنة السجن حريته الداخلية التي سمحت له بسلب السجان انتشاءه بنصره، وكذلك فعل كل المقاومين بجرأتهم على إشهار حرية “أرواحهم” و”أحلامهم” في وجه سجّاني أجسادهم. ما اكتشفه بوئثيوس –وغيره- برهن عليه ابتكتيت لما قاوم بربرية “سيّده” وتحمّل جنونه ووحشيته، فأخضعت المقاومة نزوات المستعبِد لسيادتها، وتحولت –بفعلها- العبودية إلى حرية، وأظهرت ما تسمح به المقاومة من قدرات على التحمل –تحمل ما يبدو أن لا طاقة للمرء بتحمله أحيانا- وتعبئة “دواخل الإنسان” لمواجهة ما تتعرض له “خوراجه” من ضغوط وترهيب وتعذيب. لا يجتاح المعتدي الذات إلاّ حينما يتمكن من القبض على “روحها” و”دواخلها”، وما لم يفعل ذلك، فمهما سجن، وعذّب، واضطهد، وأرعب فإنّ فكرة المقاومة تظلّ شامخة وظافرة. ولعلّ جون لوك قد أحسن التعبير لمّا قال في: “رسالته حول التسامح”: “صادر إن شئت أموال إنسان، واسجن بدنه أو عذّبه، فإن أمثال هذه العقوبات لن تجدي فتيلاً إن كنت ترجو من وراء ذلك أن تحمله على تغيير حكم عقله على الأشياء”. إنّ كل أساليب التنكيل والاضطهاد لا يمكنها أن تغيّر حكم عقل الإنسان في الأشياء، فأنّى لها أن تعقِل فكرة المقاومة، وتصادرها من عقل لا يرى في غيرها تحصيناً لوجوده !
ما اكتشفه بوئتيوس، وبرهن عليه ابكتيت بأقوى برهان (الاختبار الواقعي)، وعبّر عنه لوك بأفضل ما يكون التعبير، أعادت المقاومة الفلسطينية تأكيده وترسيخه وإثبات صلاحياته الأبديّة. ما كانت ضربة السّابع من أكتوبر مجرد “انتفاضة حماس” ! لقد كانت بالأحرى بعثاً لمعنى أن يكون الحصار باعثاً على الإبداع في فن المقاومة. أظهرت الضّربة القاصمة تلك أن فضيلة تحمل ما لا طاقة للمرء به، والانطلاق منه لمقاومة الاستعباد، وكتابة تاريخ الحرية، ليس فعلاً يخصّ الأفراد وحسب، بل يتجاوزهم ليمسّ بناء الكيانات الجماعية والأوطان والشّعوب. في اللّحظة التي كان فيها المحتلّ، يتوهّم قبضه على “روح المقاومة” ومن ثمة شلّ جسمها على المبادرة والفعل، أتته ريّاح المقاومة بما لم يحسب له حساباً. هكذا حصل ما حصل في السّابع من أكتوبر 2023، حيث، ولمّا اطمأن المحتلّ إلى غطرسته وقوته ومخابراته، وتوهّم أن فكرة المقاومة تلاشت، وأنّ ألويّتها انشغلت عنه بتدبير يومها، وما يجثم عليه من جوع وحرمان كان المحتل يتفنّن في إشعار غزة بهما، لمّا ظنّ المحتلّ ما ظنّه استيقظ في السابع من أكتوبر على صوت المقاومة مبرهناً أن “حال الحصار” قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في يد المحاصِر.
حيث لا مفر -ومثلما كتب محمود درويش- فليس لك إلا أن تحاصر حصارك، بذراعك، بذراعي، بك، بي، بأشلائك، وبأشلائي. بالجنود، وبالجنون، ليس لك إلا أن تحاصر الحصار. حتى لو كانت ذخيرتك قتلاك وجرحاك وأسراك فليس لك إلا محاصرة حصارك، فلا إخوة لك، ولا أصدقاء، لا دواء، ولا سماء. ليس لك إلاّك فحاصر حصارك حتى يسقط القناع عن القناع، ويسقط القناع عن القناع، ويسقط القناع عن القناع… !