من تاريخ الماء في الرحامنة (3) الرحامنة بلاد السانية والبير…وبلاد المطفية والفرفارة
فور تنمية: ذ الباحث عبد الخالق مساعد
تحدثنا فيما سبق عن أول خريطة مائية في الرحامنة التي أنجزها العسكري الفرنسي لاراس ،لكن هذه الخريطة لم تحط إحاطة شاملة بجميع الموارد المائية في الرحامنة ،ولم تأت على ذكرها وإنما اعتمدناها كأول وثيقة مكتوبة تتحدث عن الماء في الرحامنة خلال سنة 1907 وما بعدها.
والسبب الذي جعل لاراس يغفل هذه الموارد ،هو كونه رصد الآبار والتي على الطرق والمسالك والنزائل المؤدية إلى أسفي والصويرة والجديدة التي كانت تمر منها القوافل التجارية أو التي يستعملها الداخلون إلى مراكش من الرحامنة وخارجها .ولم يتحدث كذلك إلا عن الغدائر الكبيرة والمشهورة ،وعن العيون الكبيرة القريبة من هذه الممرات والمسالك.
ولذلك فقد أغفل كثيرا من الآبار التي كانت تحفرها الدواوير والتجمعات السكانية الفردية منها والجماعية ،وهو ما اصطلح عليه (ببئر الجماعة)، و اغفل عيون الأودية التي تحيا بسقوط الأمطار وجريانها ، كعين وادي فم المشرع مثلا ،وغديرة الدار الحمراء في أراضي أولاد عبد الله على سفح الجبيلات ، والغدائر الطبيعية التي يكونها انحسار مياه الأودية في بعض الأراضي المنخفضة الطبيعية والاصطناعية التي يستحدثها الفلاحون في أراضيهم ،أو باتفاق جماعي فيما بينهم من خلال تصعيد مياه الأودية عن طريق الربط وذلك لتوريد أغنامهم ،كما أن لاراس أغفل اكبر منطقة رطبة في الرحامنة ،وهي بحيرة سد المسجون والتي كانت تقصدها الطيور المهاجرة من أوروبا ،كما انه لم يتحدث عن المطفيات أما السانيات فلم يذكر إلا سانيتن (2) بمنطقة الجبيلات.
السانية والبير:(ذكر لاراس سانيتين فقط)
السانية:
السانية : حسب معجم لسان العرب « دولاب الماء : أداة لرفع الماء من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى بغية استخدامه في ري الأراضي، وهي عبارة عن دولاب كبير رُكِّبتْ في محيطه مجموعة من الدِلاء التي تَفرغ حمولتها من المياه في قناة تحملها إلى الحقول. يقال سَنا : أي سَقى، والسانية الناضحة هي الناقة التي يُستقى عليها وفي حديث الزكاة « ما سُقي بالسواني ففيه العشر » والقِتب هي آلة السانية التي تُحمل على البعير، والمنحاة : هي طريق السانية التي يدور حولها البعير لسقي الحقل.
السانية والناعورة:
اسمان لآلة تُستعمل في استخراج المياه ورفعها من الأسفل إلى الأعلى، مع بعض الاختلافات بينهما. لقد ارتبط اسم “الناعورة” التي يديرها الجريان المائي بالحقبة المرينية إذ لم يَرِدْ لها ذكر في المصادر المغربية قبل هذا العهد.
والأمر يختلف فيما يخص “السانية” التي تديرها الطاقة الحيوانية إذ توجد فروق بين النوعين : “الناعورة الكبيرة” التي ظهرت أول مرة بفاس والناعورة التقليدية أو ” النوريا” التي سبق استعمالها بالمغرب قبل استعمال “الناعورة الكبيرة” .
السانية”: تقنية من تقنيات السقي التقليدية بالمغرب عبارة عن دولاب لرفع الماء من الآبار داخل المناطق ذات الفرشات المائية السطحية بواسطة حبل به مجموعة من ” الأقداح ” يديرها جمل، بغل، حمار، بقرة… ويطلق لفظ “سانية” كذلك على الإستغلاليات الفلاحية المجهرية: وهي(بساتين وحقول) تتوفر على بئر مزودة بتقنية لرفع أو ضخ الماء وتنتج البقليات والخضر موجهة خاصة لساكنة المدن.
حسب مار ورد عند “E.Michaux Bellaire ” في سلسة مدن وقبائل المغرب، الجزء 10، القسم الثاني، ص: 75″ أن مدينة أزمور عرفت بالسواني أكثر من مدينة الجديدة حيث كانت تظم سواني الحناء والفواكه والأشجار المثمرة خاصة بمنطقة “الغدير”
الباحثون يرجعون اختراعها إلى حوالي القرن الأول قبل الميلاد ببلاد الرافدين وخاصة بأرمينيا، كما أن تاريخ دخولها إلى المغرب غير متحقق منه، لكن الراجح أنها استعملت قبل الفترة المرينية ويحتمل بشكل قوي أنها دخلت عن طريق (الأندلس ).فقد ورد عند ابن أبي زرع الفاسي في مؤلفه “روض القرطاس” « عملت الناعورة الكبرى بوادي فاس، بدأ العمل بها شهر رجب من سنة 685 هحرية/ 1286 ميلادية ، ودارت في شهر صفر سنة 686 هجرية”
ظهرت هده الآلة -الناعورة الكبيرة- في المشرق وخاصة بالحضارات القديمة (حضارة بلاد الرافدين) انتقلت هده التقنية القديمة إلى المغرب عبر الأندلس وتم تركيبها وبناؤها على وادي فاس. إنها ذاتية الحركة وتقام على ضفاف الأنهار والمجاري المائية وذات حجم كبير، يتراوح قطرها ما بين 6 أمتار إلى 26 متر، أما ” السانية ” فهي : ليست ذاتية الحركة بل تديرها الدواب وقد تقام على ضفاف الأنهار أو على الآبار، ذات حجم أصغر قطرها ما بين 2 و 3 أمتار. إن هذا النوع من النواعير حديث في تلك الفترة- الفترة المرينية – وجاءت لتخلف نواعير تقليدية قديمة تُدار بواسطة الدواب، وهي التي كانت تسمى بالسانية لكن لم تساهم في اندثارها بل استمر استعمالها إلى جانب “الناعورة الكبيرة”.
وهكذا يتبين أن الرحامنة استخدموا السانيات وليس النواعير،فالسواني تكون على الآبار والنواعير تكون على الأنهار.
والرحامنة عرفوا استقاء الماء بالسانية والدلو من الحجم الكبير المسمى بلغرورخصوصا في المناطق التي يكون فيها الماء على عمق قريب كالمناطق المحاذية لسلسلة الجبيلات حيث عرفت هذه المناطق ما يسمى بالعرصات مفردها عرصة اي بستان والتي كانت مليئة بالأشجار المثمرة كالزيتون والرمان والمشمش واللوز والتفاح والخوخ والاجاص والسفرجل والاشجارذات الاستخدام الطبي والصحي كالحناء والصفصاف ،بالإضافة إلى مختلف أنواع الخضار حسب المواسم .
البئر:
ومن الآبار المشهورة في منطقة الجبيلات : بئر العرب قرب أولاد رحو – بئر الطريفية قرب أولاد لمهازيل – بئر سيدي مفتاح قرب أولاد طلحة – بئر بن سعيد قرب أولاد مسعود – بئر لعبيد قرب دوار الطلبة – بئر بلعسر قرب أولاد ابراهيم – بئر لعور قرب لعناكير الشيخ اعمر – بئر الكلب – بيار الكمرة – بيار الفضة عين الكطارة – بئر بلحسن – بئر المويلح – بئر مريك – بئر السدرة – البئر الخوينز – بئر الدرى – بئر لعرب – البئر الجديد – بئر سيدي سعيد (ذكره لاراس). واغلب هذه الآبار تقع في سفوح الجبيلات مما يساعد في ارتفاع منسوب مياهها لكونها تتغذى من مجموعة من الأودية والمجاري المائية الموسمية الخارجة من سلسلة الجبيلات : كوادي فم المشرع – وادي بوروس– وادي الخرواع – وادي الرمل – قايد الويدان – وادي الذئبة .
بئر الجماعة: يختلف في كونه اكبر حجما وعمقا واوفر ماء من الآبار الفردية للعائلات والأسر،زيادة على أنه يتم حفره في مكان تتعارف وتتفق عليه الجماعة بعقد شفوي أو مكتوب حتى لايقع التنازع حوله ،كما ان الفضاء المحيط به يسمح ببناء عدة جوابي يغذيها صهريج تخرج منه عدة منافذ ،ولكون قطره واسعا يمكن تركيب أكثر من حبل وأكثر من ناعورة خشبية (لولب) ،ودلاء كبيرة كما يستعان في الاستقاء بواسطة الدواب .وهو عند الرحامنة من التراث والموروث الصحراوي لأجدادهم قبل الوصول إلى هذا المجال الجغرافي شمال مراكش ،فاسمه الأول هو بئر لعرب ،ولذلك يحمل نفس التسمية احد آبار الجبيلات.
الرحامنة استخدموا السانية والبيركغيرهم من القبائل الأخرى في مختلف أنحاء المغرب لان السانية والبيركوسيلتين من وسائل استخراج الماء وتوفيره ،تعتبران من التراث المائي المغربي،ووجودهما في منطقة ما في ذلك الوقت دليل على الغنى وبحبوحة العيش والوضع الاقتصادي المريح ولا أدل على ذلك من صدور أغنية “السانية والبير” لأول مرة عام 1944 لرائد الأغنية الشعبية المغربية الأستاذ الحسين السلاوي (1918-1951) الذي أعظم إبداعا فيها كتابةً ولحنًا وأداءً، وحققت انتشارا واسعا في الأوساط الشعبية والجماهيرية .
وإذا كان الرحامنة جعلوا من الغدائر الطبيعية والصناعية موردا مائيا لتوريد الأغنام والمواشي ولو لوقت محدود ،فان المطفيات سواء في الحقول أو قرب التجمعات السكانية والدواوير كانت موردا مائيا للتصبين وتوريد الماشية ،أما أشغال البيت فإنها تكون بماء الآبار العذب ذي الجودة العالية .
والرحامنة استفادوا كثيرا من المياه العذبة لنهرين كبيرين جاريين باستمرار،وهما وادي تانسيفت ووادي أم الربيع خصوصا السكان المجاورين لحافة هذين النهرين ،وقد نستغرب للضخ العالي الذي كانا يميزهما، فقد بلغ صبيب وادي تانسيفت خلال سنة1914 مايعادل 5 متر مكعب في الثانية ،أما وادي أم الربيع فان الماء كان يطفو ويغرق القنطرة المارة من فوقه وظل هذا الأمر حتى سنوات السبعينيات من القرن الماضي ويأتي ذكر ذلك في نشرات
الأخبار حول الطرق المقطوعة.
الربط ولغديرة :
الأربطة على الأودية :مفردها ربط : وهو سد تلي بدائي يبنى من الاحجاروالتراب المبلل وأغصان أشجار السدروذلك لاستغلال فيض الأودية النازلة من الجبيلات الأمر الذي جعل من الفلاحين مهرة في بناء السدود التلية ،على جنبات هذه الأودية والروافد بطريقة فنية عجيبة ،مستخدمين تقنية فيزيائية مبهرة في تصعيد الماء من الوادي إلى الفدادين، وخبرة في استخدام المواد،وبذلك يتمكنون من ري زروعهم والاحتفاظ ببعض الغدائر لتوريد مواشيهم داخل حقولهم.
لغديرة:
غَدير : جمع غُدْر وغُدُر وغُدْران: مياه راكدة، قليلة العمق، يغادرها السَّيلُ،وتبقى كمستنقع للماء تتكون الغدران بعد انتهاء السيل،وتصبح وسطا مائيا تعيش فيه الضَّفادعُ
والغدران كثيرة في المغرب وتسمت بها مناطق بعينها كجماعة لغديرة بالجديدة،وقرى بشفشاون/ او احياء في مدن معينة كحي لغدير باليوسفية .ولاراس حينما تحدث عن لغدير انما ذكر الغدران القريبة من المسالك التي وصفها في خريطته وقسمها إلى غدير كبير أو غدير بدون تصنيف .
والرحامنة عرفوا تعدد مصادر المياه من ضايات ، وغدير ؛ والتي شكلت موردا أساسيا للماء بهذا المجال الذي يعيشون فيه ،والذي سرعان ما تراجع وتضاءل وجوده بسبب تعاقب فترات الجفاف التي تشهدها المنطقة ومطفيات (جبوب) وسدود تلية، نقط ثابتة آبار يعتمد عليها للتزود بمياه الشرب وتوريد قطعان الماشية، وفق أعراف وتقاليد متعارف عليها بين أفراد القبيلة، وتعاملوا فيما بينهم بالنوبة في التوريد كعرف تقليدي بسيط، لتنظيم عملية الاستغلال الجماعي للماء وتدبيره.
المطفية أو المطفيات عبارة عن صهاريج محفورة في فضاء مفتوح، ذات أحجام من بضع أمتار مكعبة، يتم فيها تخزين المياه الجارية في الطريق عند سقوط الأمطار، لضمان توريد الماشية، وتوفير الماء للساكنة، واستعمال مياهها في سقي الحدائق الصغيرة والتصبين أو أشغال البناء بالطوب والآجر الطيني . أفرزت العلاقة القوية بين الفلاحة والماء في الرحامنة ، خاصة بعد نقص الأمطار وتراجع التساقطات وضعف الخزانات المائية الطبيعية، إلى تطوير مجموعة من التقنيات، التي أثبتت نجاعتها لتخزين وتدبير الماء، على رأسها نجد تقنية المطفية “”matfia وتعرف ب“Les marnes” في فرنسا.
واستفادت المطفيات في الرحامنة من تقنيات البناء المتعارف عليها في مراكش كاستعمال الجص المانع من تسرب الماء ،فيما يشبه تماما مواد بناء صهريج المنارةكما استفاد الرحامنة من سياسة الماء التي جاءت بها سلطات الحماية ،فيما عرف بنقط الماء والجوابي :
(POINTS D’EAU ET ABREUVOIRS)
حيث نالت الرحامنة حظها من هذه السياسة المائية والفلاحية التي كانت تنهجها سلطات الحماية، وذلك لزيادة الإنتاج الحيواني من القطيع والأغنام ،خصوصا وان الرحامنة تتميز بجودة المراعي ،وقد أقيم على نقط الماء هذه ما يعرف بالفرفارات
(MOULIN A VENT)
والتي تعمل بالطاقة الريحية ميكانيكيا (AEROMOTEUR) وانتشرت هذه الفرفارات في المناطق الخاصة بالرعي ،أو إقامتها بالقرب من التجمعات السكانية ليستفيد منها الإنسان والحيوان ، ونذكر في هذا الباب فرفارة اعرابات وفرفارة البحيرة ببنكرير،وفرفارة بير النصراني غرب أولاد املول ،وفرفارة سوق اثنين المحرة وفرفارة بلاد خورط،لقد كانت هذه المشاريع المائية تقام حسب دراسات وجدوى،وكانت تنشر بالجريدة الرسمية كما يعلن عن صفقات انجازها عبر الجرائد ،كما هو الشأن بالنسبة لانجاز فرفارة المحرة التي أعلن عن طلب عروضها بجريدة لافيجي ماروكين 1954 .
وقد عمدت سلطات الحماية على اصدار إعفاءات ضريبية على بعض الآلات جلب الماء ونشر ذلك في الجريدة الرسمية بما في ذلك المضخات وطواحين الهواء الفرفارات ،وذلك من اجل تدعيم نقط الماء في المناطق الشبه الجافة التي تعاني من نقص الماء ومن بينها الرحامنة، كما تشهد بذلك الوثائق المصاحبة.
وقد ضمت العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء عددا من الشركات الموردة للمضخات والسواني والفرفارات لبيعها للفلاحين المغاربة.
******************************************************************
1-بئر العرب في الصحراء والذي حمل اسم بئر الجماعة في الرحامنة وحافظ على نفس التسمية بين أبار الجبيلات الى اليوم.
2- صورة لقنطرة وادي تانسيفت 1914 حيث الصبيب 5 م مكعب في الثانية .
3-صورة لفيضان وادي أم الربيع وإغراق القنطرة
Annuaire économique et financier 1921-1922 / Protectorat français au Maroc
4- الدورية الاقتصادية والمالية 1921-1922 الحماية الفرنسية بالمغرب.
5- نصوص قانونية من الجريدة الرسمية غشت 1929 عدد 2179 تهم الإعفاء الضريبي على التجهيزات المائية والفلاحية بما فيها الجرارات والمضخات والفرفارات .
6- صورة لفرفارة تعمل بالطاقة الريحية
7- اعلان عن طلب عروض لانجاز وتجهيز بئر اثنين المحرة بفرفارة
(جريدة لافيجي ماروكان 1954)
8- إشهار للفرفارات من نوع صامصون
شركة كازا موطو شارع محطة القطار الدار البيضاء






