من السخاء الى الغلاء ، او عندما يصير حاتم بخيلا !
فور تنمية. بقلم يوسف صبري طالب في سلك الدكتوراة.علم الاجتماع السياسي.
نبدا هذه المقالة وكلنا ايمان بان هذا البلد مده الله بالخيرات كلها، بالماء والخضرة والثلج والرمل والبحر ،ومده بالناس الذين وسعوا في هذه الجغرافيا (تاريخيا) ،ليعيش الاباء والاجداد والاحفاد والقادمين في سعة ورحب، وهم يتمتعون بهذه الخيرات الوطنية، ويستطيعون الوصول الديمقراطي المشروع الى استهلاكها ، و تدميرها، (مارسيل موس) ومعنى التدمير هو نفسه الاستهلاك عند الاثنوغرافيين .
لكن في” سوسيولوجيا الحياة اليومية ” وبعيدا عن الارقام والمؤشرات ( دوكسا العام زين )،الا ما يدل على وضع غير طبيعي (باتولوجيك ) ويتعلق مثلا: بعدد السجناء بالمغرب وارقام العاطلين وهكذا …لان نتائج الاحصاء الاخير عند ظهورها كاملة ستكون بالنتيجة تعبيرا عن واقع يحتاج من الفاعلين ايجاد سياسات عمومية قوية لمواجهة مكامن الخلل قبل المونديال وبعده بكل العصور.
فالواقع اليوم له صراحته ومعطياته الميدانية المكشوفة بالحواس قبل الفعل The Analysis of Mind (برتراند راسل )، اي اننا لم نعد بنفس حالة الرخاء التي عشناها قبل سنوات قليلة، والسؤال الجوهري هو : لماذا يكاد اليوم المستهلك يدرك انه غير قادر على الوصول الى ابسط الحقوق التي تتعلق” بالشبع” ؟ وبدون تفاصيل حول هرم للحاجيات لا نتوقع تحققها للقفز الى قمة “ماسلو ” البعيدة المنال ، اللهم فئة قليلة محدودة هي من تقدر وتستطيع.
اولا: مقتنعين انه في الظاهر ،المغربي وبعيدا عن” القحوط التاريخية” المعروفة مثلا ب”عام البون ” ، وسنوات الجفاف، واللحظات التي عانى فيها هذا الشعب نقص الكلا وجفاف البيادر والبوادي …مع كل ذلك كان هذا المغربي سخي يميل الى ان يحصل ضيفه قدرا مهما من الشبع ولو على حساب بيته واهله، حتى ترك بهيمة” كالحمير والنعاج” بالاسواق كان يتبعه الندم والبكاء على الفراق، وترك الدابة بعيدا عن الخيمة، فقط لان الجوع والنفقات لم يعد رب الدار بقادر على الوفاء بها، وبينما كنا نكبر سنوات الثمانينات كنا نلقى مواشي بالسوق ونسوقها وهي تعبانة مريضة ونتركها كذلك، لما كبرنا قالوا لنا ان تلك الممارسات كانت من ” سنوات الجفاف والقحط” . فمسالة ترك الذواب بالاسواق، التي يتخلص فيها “عبد بدوي” من وسائل عيشه بعدما يصبح في مواجهة واضحة لمعنى الجوع وانقاذ النفس قبل الحيوان المعرض للهلكة لها مبرراتها. فالانسان ساعات من نهاره يدع كل غالي مقابل ان يفلت غريزيا ( خوف ،رايمون ارون) بجلده, و هنا كانت معركة الفيلسوف الفرنسي “جون بول سارتر” خاسرة كذلك في مقاربته بكون” الوجود يسبق الجوهر ” l’existence precede l’essence، لانه لم يراع في البشر” الظروف التاريخية والاجتماعية” وهي الاساسية في فهم الظواهر التي تكافح لغاية اليوم العلوم الانسانية للقبض على النتائج و الاسباب خلالها ،بشكل يكاد يصيب الحقيقة المطلوبة حتى يتخلص هذا الانسان من حيرته بالعالم الغامض والمبهم. لذاك نحيل في هذه المقالة لتوكيد ان “وجودية سارتر” لا تسمح باكثر من قناع واحد , وهو انها منحت الفرد قليلا من القرار على نفسه ، مستبعدتة تاثير “الظروف وشروط حياته” من قاموسها.
دعونا في ما نحن بصدده ان لا نجعل من المقالة مادة علمية ، بل فقط وجها للوصف والتحليل الذي نقر من خلاله بوجود ازمة، بوجود وقائع مادية جديدة في حياة الناس لها اسبابها بكل تاكيد، وهنا نفرق بين الكتابة عن” سوسيولوجيا الحياة اليومية” sociology of day life ، وبين الابحاث الاجتماعية العلمية التي لها مجالها الخاص (المختبر)، ولان الباحث هو مواطن وفرد وذات وانسان وبشر ،فانه يستطيع انتاج وجهة نظر او رؤية، كما للفن والادب والتاريخ والصحافة رؤية معالجة لمجموعة ظواهر ومواضيع ،تخطيء وتصيب فيها بالقدر الكافي، للتحكم في هذه الظواهر بمعقولية و حياد لا تدعم ساعتها جهة ولا اتجاها كائن من كان.
لاعود بالقول انطلاقا من تجربتي الفردية وانا الذي سلخ سبع سنين بين محلات واماكن صار يتردد عليها كطالب وكباحث… وكل مرة يستنتج الاتي :
+ ما كان من محلات “للماكولات والوجبات “اغلقت تباعا اوتغير مالكوها، وتغيرت قواعد ادارتها، ليس لان الوضع سليم ،بل لان هناك ازمات؟ فيتغير” اللاعبون والخطة “، وعندما سالت من باب “الفضول ” المعرفي ،قيل لي انه :الكراء والنفقات قد تضاعفت، وان رب المحل اضطر للاغلاق ، وموانع ذلك… ان سعر المواد التي تنتج بالنهاية “رفاه اصحاب المحلات”, وتحسم مصير” اليد العاملة الماجورة” (جهد ساعات عملها ) لم يعد يطاق، و ان
المواد الخام( خضر،لحوم ،فواكه،سمك،دقيق، )لم تعد قادرة على تحمل كل ذاك السقف، ولاخدمة الزبناء، ولا اصحاب المشاريع ، ولا خدمة اقتصاد بصورته “الاولية”… اي المقاولة الصغيرة والاشخاص الذاتيين.
+ بروز الاشكال الجديدة من وجبات مغربية مشهورة فمثلا :بذل الطجين ظهر هناك ” الطويجين السريع”، قبل ان يقطع نفس الطبق عهده بمفهوم مقادر اللحم بالغرامات ، ليصبح هناك طبق مشوه لكل الوجيات لا يعني سوى اشارة دالة، وهي “مقاومة وبريكولاج ” بالحيلة(جيمس سكوت) لاصحاب هذه المحلات حتى لا يخنقوا ما تبقى لهم من “الكرامة” مقابل مستهلك، بات هو الاخر مضطرا للقبول بالشكل المشوه الجديد للاطباق وللاكل ومفهوم الشبع، وبالتالي لنظام الصحة ونظام” للتتابع” (دياليكتيك, هيحل ماركس) نفسه مشوه.
+غياب مفهوم “الكم ” في الطعام، اقصد ان كثيرا من محلات الوجبات كان بامكانهم العطاء والسخاء بدون تردد، والكم مؤشر واقعي في الفهم، وغياب هذا الفائض من” العلامات ” Signes، الطارئة Contingent على الطبيعة الايثارية للمغربي ، يحل مكانها واقع” للحصص”Quotas التي تعيد الى الاذهان النموذج الليبرالي الاول حينما تمثلناه واسبغنا عليه العبارة التالية: ( شري تندغ كري تبات) بدون وعي او قصد ،فلن يبيت احد في الفنادق الا صاحب مال، ولن يلتهم طعام الا من جيبه مليء بالنقود.
تتخذ الحياة الاجتماعية اليوم بتاثير واقع اقتصادي تنزع عن هذا البلد ربما في” اوساطه الشعبية والمتوسطة” ، ميزة الجود والعطاء بلا رقيب، لان الواقع صار يحتمل “متغيرات” و ظهرت فيه تجليات للعلاقات المحتكمة الى الارقام والحساب، فلا ننتظر استجداء الباقي في عملية رياضية : نتيجتها صفرا.
سيذهب الحاتميون مغلوبين بان العلاقات الجديدة في المجتمعات التي كانت مناوئة للمعاني الراسمالية والمتمترسة في خندق العلاقات” القرابية” ذات الاصل التضامني الالي (اميل دوركايم ) في معنى (الجوار ، ذي القربى ،اليتامى ،العابرين وابن السبيل والمؤلفة قلوبهم) تتحول الى هيكل مجتمعي جديد, الممل فيه انه ليس بالتحديد نظاما “نيوليبراليا ” على نمط الغرب؟ لانه يحتاج الى “الحرية” كما تدارس فيها مفكرون(ماكس فيبر واللجنة العلمية في المانيا -ابريل عام 1948) غذاة التاسيس للدولة الالمانية الجديدة، وعندما نسطر على مفهوم الحرية فانها ليست، بالتي على بالك وخلد القراءة العامة للناس la lecture publique ، ولا ما نوظفه في البيانات والاعلانات، وبلاغات النشطاء والاحزاب ، ولا فقط حرية “التفكير والتجوال والتامل والنقابة والاحتجاج”، بل الامر اكبر من كل هذا .
بالمكشوف، فان هذا البلد يحاول ان يتدارك الاخطاء ،وان يستفيد من امكانيات الحاضر، وان يربي مواطنيه على منوال ما يمكن ان يقدمه غيرنا الينا من نماذج Models” في التعليم والصحة والامن والثقافة والعمران والبيئة والقوانين والاتفاقيات والمعاهدات” وكله جيد. ونحن نحاول قدر الامكان خلق جسور بين ماض قريب كان كارثيا (ما قبل التناوب التوافقي) ،وو اقع عليه ان ينصت للمجتمع; بايمان، وبدون التفكير بالخطيئة ( theorie du salut) والمضي كما تستلزم القواعد ذلك.
ختاما ، فان نهاية ” ماذبة حاتم” تبين ان كل الذي جرى في البناء المؤسساتي ( الاقتصاد والسياسة ) تنقصه” وحدة الموضوع” ،او بعبارة العلم ينقصه “الانسجام ” l’harmonie ،وهو ما يتوجب فعله عمليا في حالتنا، انطلاقا من ثقافة خاصة وبيئة غالبا ما نفسرها “بالخصوصية المغربية”، فماذا تعني هذه الخصوصية بمنطق السياسة والصحة والمدرسة والسكن اذا وضفنا المنهج التاريخي والاجتماعي والاقتصادي النقدي، الذي يدعو في النهاية الى وحدة الموضوع (الانسجام) . بمعنى ان نحسم كل معاركنا ،معركة بمعركة وفق رؤية وعتاد ومنهجية وحل . فلا يمكن حتى بالغايات التاريخية الكبرى امكانية الجمع مثلا ادعاءا: بين احداث عام 1914 واحداث عام 1848 دفعة واحدة لدى الاوروبيين ،مصدر الهامنا ، بل ما يمكن ان يوحد بينها جميعا هو مسالة التفكير في “القواسم المشتركة” كازمات تحتاج حلول مركبة مشتركة منسجمة، و من خلال رؤية نقدية مسؤولة كما بالعلم، “ذهابا وايابا” بين الميدان المدروس والمعطيات التي يوفرها الفاعلون من اجل انسجام تدخلهم، وتحقيق الغايات بالدقة الممكنة وظهور بوادر للحل الحاسم المؤدي الى “الدولة الإجتماعية ودولة الرفاه” الحقيقية .
سيقول احدهم ما الجدوى من هذه المقالة عن الجوع والشبع “اللبيدو”, فلكل شبعان قصة ، ولكل جائع واقع، بالطبع تدرس العلوم الظواهر ( العادية والمرضية) بدون حياء ولا خجل ولا ينبغي لها ذلك، وتقدم الدراسات والمراصد والمنظمات تقارير غالبا ما تتموقف منها البلدان خارج التراب الاوروبي لاعتبارات تتعلق اما بالتمثل ،او الاحاسيس، او المصالح الوطنية ( علاقات السلطة بين الحاكمين و المحكومين).
نحن نقول ونردد دائما ان كل التقارير “كيدية” كاذبة وفوقية متعالية غير وثوقية، وليس لها منطق علمي محايد “, لكن الابحاث التي تجرى محليا بالجامعات الوطنية ومكاتب الدراسات وغيرها لا تقول بالعكس، نحن نمشي باتجاه النتائج ومدى مطابقتها للمناهج، لناخذ على سبيل المثال مؤشر الساكنة السجنية بالمغرب وحيدا بهذه المقالة حتى لا نتوسع اكثر ، فالى حدود متم شهر اكتوبر من العام 2024 حيث تشير الارقام الى 105 الف سجين ، بزيادة 2000 سجين عن السنة التي سبقت العام الماضي ، مع كل المجهودات المبدولة على مستوى القانون والعقوبات البديلة ، واليات التدخل وغيره فهو رقم غير طبيعي ، ولا يعني الا وجود واقع في البنيات “الاقتصادية ،السياسية، الادارية، الاجتماعية” التي لا تعكس الا شعورا ابتدائيا بوجود مشاكل وازمات ومسكوت عنه تفضحه الارقام ،بل هناك واقعا يفرض علينا قراءة تبحث في الاسباب(شوبنهاور representation et vouloir) , فلا نتائج بدون اسباب، الى غاية السبب الرئيسي او المركزي او السبب الاول Cause premier(Leibniz) ، فاذا ما اخذنا بلغة احصائية عدد سكان المغرب وقمنا بالبحث عن معدل” الوسط الحسابي” لعلاقة عدد الساكنة السجنية بالسكان فالعدد هو 2،85 لكل 36مليون و800 الف نسمة؟ فالسجن يتصل بحياة كل الاسر و الأفراد واقاربهم على مايبدو وهو مؤشر خطير، وبالتالي لا يمكن للفاعل الحكومي والسياسي، والفاعل الاقتصادي والسياسات العمومية المنتجة الا ان يضيق صدرها ، وان تعي ادوار العلم في فهم الواقع وتفسيره ، وان الامر برمته اذا قمنا باستنتاج عام لنتائج الاحصاء سيكون حالنا غير محسود عليه في البطالة وساكنة السجون قبل الدخول في باقي المؤشرات ، والقراءة المعتدلة المنهجية للشروط التي يحيا فيها المغربي اليوم.
وبناء على كل ماسبق، فالشبع كمفهوم يحيل على دلالات وقيم Valeurs ورموز Symboles تتعدى (الاكل والشرب) الطعام الى الصحة والوصول الى الرفاه للجميع الذي تنشده المجتمعات كلها، واذا عدنا لتفسير عميق لمفهوم الشبع فهو الذي اوحى لماركس يوما ليؤسس متنه على نتيجة مفادها ان “الاغلبية” يمكنها ان تعيد بناء التاريخ من جديد عبر الاشتراكية (ديكتاتورية البروليتاريا) حينما ضاقت الظروف بتلك الاغلبية وسط العتمة الاجتماعية والمعيشية، واذا عدنا الى كل الثورات والحروب والمواجع، كانت ” حالات النشوء (داروين ) تبدا من مصادرة الحق في الطعام ،الذي لا يعني سوى ثورات للجياع، والجوع هو القيمة الجوهرية للمظالم كلها في الاديان السماوية قبل الشروحات الوضعية ، خذ فرنسا قبيل الثورة الفرنسية والتاريخ الاوروبي برمته، فالجوع مهندس اللاستقرار وبالنتيحة ،غالبا ما لا تنجح مع ميثولوجيا ماذبة ” الحصى والقدر” او ما من شانه من” اشكال المقاومة بالشارع العام” وهي كثيرة اليوم ولا يخفيها الرصيف المصبوغ ، فلا يطرد في البشر الكائن ” الحيوان “(برتراند راسل) الذي يحضر فيهم، وتغيبه عنهم وجاهة ” التعاقد الحضاري المدني”، الذي يصون الحق ويتساوى فيه الجميع في الغنيمة، ويمنع الغرائز الوحشية البدائية ان تظهر من وراء قضبان “اللاوعي” (فرويد).