الإنسانية على طريق الأرض-الوطن”. حوار مع ادغار موران
فور تنمية. ترجمة منير الحجوجي
ماذا يمكننا أن نقول عن ادغار موران Edgar Morin، المفكر العابر للتخصصات بامتياز، المولود سنة 1921؟. مسار ادغار موران هو مسار شخص عانق بكامل العشق أحداث عصر حولها بين أنامله إلى موضوعات تأمل لايتوقف. في الحياة المورينية (نسبة إلى موران)، ليس هناك عالم المفاهيم من جهة ثم الواقع من جهة أخرى. على الفكر، بالنسبة لادغار، حتى في تجريده الأكثر علوا، أن يكون مركبا، مرحبا بالتناقض، بمسافة من الخطية، مقبلا على اللايقين، خادما للبشرية في مسيرتها نحو مزيد من العدالة الاجتماعية، ومزيد من المساواة، ومزيد من الاعتراف بتنوع العالم. لكن هناك شيء أخر لدى موران غير تلك الرابطة البسيطة بين الفكرة والممارسة، المفهوم والفعل. ان انشغال موران الأساسي هو ذلك التمفصل بين التاريخ الصغير والتاريخ الكبير، بين الحميمي والشخصي من جهة، والجماعي والاجتماعي من جهة ثانية. كل عشرية من حياته تميزت بانخراط معين في القضايا العامة للعالم، من نضال المقاومة الفرنسية إلى معارضة الحرب الأممية في العراق، من معارضة الحرب في الجزائر إلى دعم المجتمع المدني في البلقان، دون أن ننسى مواقفه من الصراع الإسرائيلي/العربي.
هكذا ستجد الإيكولوجيا نفسها وقد اندمجت بشكل طبيعي في الانشغالات المورانية. يقدم موران شهادته حول أصل اهتمامه بهذا الرهان الرئيسي للقرن قائلا: “منذ سني المبكرة وأنا معجب جدا بنص أحلام يقظة متنزه ناسك Rêveries…. لجون ـ جاك روسو. كنت أعشق البحر والجبل ولفترة طويلة جدا لم أكن أستطيع الكتابة إلا وأنا أمام نافذة مفتوحة على المناظر الطوسكانية (من منطقة طوسكانيي). حاجتي إلى الطبيعة منغرسة بقوة في كياني. إلا أنه بكاليفورنيا، وبالضبط سنة 1969-1970، سيوقظ زملائي بجامعة بركلي الوعي الإيكولوجي بداخلي” . ما الذي جرى إذن بكاليفورنيا؟ أو، بشكل أدق، كيف كان جو تلك الفترة؟ في نصه مذكرات كاليفورنيا Journal..المنشور سنة 1970، يحكي موران عن “الثقافة المضادة” حتى نستعيد تعبير عالم نفس البيئة طيودور روزاك، الثقافة التي مزجت بين شجب “الحضارة البورجوازية، البيروقراطية، الرأسمالية” والانغماس في الموسيقى والروحانيات البديلة..الخ.. سنة 1972 سيعطي ادغار محاضرة بعنوان: “السنة الأولى من العصر الإيكولوجيL’An….. “. سيشكل هذا التعبير الجميل أيضا عنوان أحد كتبه الذي يحاور فيه نيكولا هيلو (2007. أنظر الحوار مع هيلو في موضع أخر من الكتاب). وبين هاتين الفترتين سينشر كتاب الأرض-الوطن Terre-patrie، الذي ألفه مع أن-بريجيت كيرن سنة 1993.
ولكن إذا كانت الإيكولوجيا نوعا من الالتزام الراسخ من أجل الأرض، وإذا لم تتوقف أبدا عن الدعوة إلى الاعتراف بالأبعاد الكونية والكوكبية للهوية الإنسانية، فإن ادغار موران يبقى رجل الشك والتناقض، رجل الفكر النقدي والمفارقة: فهو يبحر بين العقل والخيال، الفهم العقلاني والتصوف. وفي سياق حديثه عن مراحل تكوينه، يكتب موران مادحا تعايش التناقضات: “بدأت المرحلة الأولى، من طبيعة فكرية، بجملة لميشلي، في سنوات الخمسينات، وهي الجملة التي رنت في عقلي حتى انغرست الى أبعد الحدود في ذاكرتي: “في داخلي كلا جنسي الفكر” (…) ومنذ البداية كنت منبهرا بالمفكرين الذين كانوا يقولون بأنه لا يمكن فصل الأضداد عن بعضها البعض. أفكر بشكل خاص في هيغل وهيراقليط. ومن خلال دراساتي ومعارفي، تطور تصوري للتعقيد، واقتنعت بأن التعارضات توجد في حالة تكامل، وبأن الأقطاب التي يبدو كما لو أنها تقصي بعضها البعض هي ضرورية لبعضها البعض. هذه هي قاعدة فلسفتي الخاصة بالتعقيد: ان كل الأشياء التي ينظر اليها من طرف من لا يفكرون بمفهوم التعقيد على أنها عناصر متعارضة هي في الواقع متكاملة وتخصب بعضها بعضا. بذلك كنت أستشعر بقوة كل ما كان يحفزني على الشك (مونطانيي، أناطول فرانس)، ولكن أيضا كل ما كان يحفزني على التقدم على طريق الأبعاد الروحانية (طولسطوي، دوستويفسكي). كنت أعيش تحت وقع غرائز متضادة، وفي لحظة ما فهمت أن على هذه الغرائز أن تتعايش”.
سؤال: لنبدأ إذا تفضلت بسؤال عام. يتعلق الأمر بتعريفك للإيكولوجيا. ما هي الدلالات التي تحملها هذه الكلمة داخل تصورك للعالم؟.
ادغار موران: أعطي لكلمة إيكولوجيا أولا معنى ينحدر من البيولوجيا. لقد ظهرت الإيكولوجيا أواخر القرن 19 للإشارة إلى علم الوسط الطبيعي حيث نحيى. ثم تطور هذا العلم بشكل كبير جدا في الستينيات. وهناك مفهوم أخر فرض ذاته مع الإيكولوجيا: إنه مفهوم النسق البيئي. هذا مفهوم هام جدا لأنه يقر بأن التفاعلات بين العالم الحيواني والعالم النباتي والأجهزة وحيدة الخلايا والمحيط الفيزيائي والمناخ الخ.. تسمح بانبثاق نسق حي صدفوي ينظم ذاته بذاته. ثم بعد ذلك توسع هذا التصور إلى مجموع الحلقة الحية.
تستعيد الإيكولوجيا كعلم ما كان يعرف بشكل ما في السابق بفكرة الطبيعة. قام العلم الكلاسيكي بتفتيت أوصال هذه الفكرة – علما أنها فكرة عميقة حقا. يتمثل إسهام الإيكولوجيا فيما يخص فهم الطبيعة في رفعه من شأن البعد التنظيمي لهذه الأخيرة. يسمح هذا البعد، بالفعل، لنسق حي بأن ينظم ذاته بذاته ويواجه الأخطار التي تترصده الى أن يتحلل وقد يفنى. نرى ذلك جيدا اليوم مع تغير المناخ الذي يولد أخطارا حقيقية تهدد الجو، والأرض، وسكان الأرض.
إلى هذا المعنى الأول – الذي يحدد الإيكولوجيا باعتبارها علم التنظيم الحي الذي يتطور حتى يصبح نسقا بيئيا وحلقة حية – يجب أن نضيف معنى ثانيا. يتعلق الأمر بالعلاقة بين البشر ووسطهم الحي. في الدراسات التي خصصتها لهذه العلاقة، ألححت كثيرا على الرابط بين مبدأين. الأول هو مبدأ الاستقلالية، والثاني هو مبدأ التبعية. وهذا لا يصح فقط على البشر، بل أيضا على كل الكائنات الحية الأخرى. إن ما يشكل خاصية كائن حي هو توفره على استقلالية معينة، لكن لا يمكن الحفاظ وصيانة هذه الاستقلالية إلا إذا استمد هذا الكائن الطاقة من وسطه الخارجي. ومن خلال امتصاصه للطاقة، يبني الكائن الحي معرفة تساعده لا فقط في صياغة تصور معين بمحيطه، ولكن أيضا في الدفاع عن نفسه في وجه الأخطار الخارجية وتأمين الوظائف الحيوية، من مثل وظيفة التغذية. تبنى الاستقلالية إذن على التبعية تجاه المحيط. إن هذه الفكرة هامة جدا، لأن الفكر الغربي قام بالفصل بين الكائنات البشرية والمحيط الطبيعي، بين الإنساني والحيواني. وعوض النظر نحو هذه العلاقة بين الاستقلالية والتبعية، اعتبرت هذه الفلسفة أن الأولوية يجب أن تكون لإرادة الهيمنة على الطبيعة، بل إنها اعتقدت بأن هذه هي مهمتنا!. في هذا التصور الذي ساد لفترة طويلة، لم ينظر للكائنات الحية إلا بوصفها أشياء يتوجب تسخيرها من أجل الخدمة الحصرية للبشر. بدأت هذه القصة قبل زمن طويل، لتمر عبر ديكارت وتستمر إلى حدود سنوات السبعينيات. وإذا كنت أحيل إلى هذه الفترة الأخيرة، فبسبب، بشكل خاص، تقرير دونيلا ميدوز الذي دق ناقوس الخطر بشأن أنشطتنا التقنية والاقتصادية التي تدمر الطبيعة (أنظر الحوار مع دونيس ميدوز، واحد من صناع التقرير. المترجم). وطيلة كل هذه القرون، اعتقد الغربيون، عموما، بأنه لم تكن لنا أية تبعية إزاء الأوساط الخارجية. وحاليا، مع الوعي الإيكولوجي، نفهم بشكل أفضل أسباب هذا الغلط الأساسي الذي جعلنا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا سادة وملاكا للطبيعة. يكمن التحدي، إذن، في بناء علاقة تكافلية مع الطبيعة، علاقة تكون قادرة على أن ترعانا جميعا، نحن والطبيعة. هذا هو المعنى الذي تتخذه كلمة إيكولوجيا في أعمالي، أي معرفة العلاقة الحية التي تنشأ بين الكائنات الحية، بما فيها الكائنات البشرية، والوسط الطبيعي.
أخيرا، يرتبط المعنى الثالث للإيكولوجيا في مقاربتي بالحلقة البشرية تحديدا. أنا أتحدث بهذا المعنى عن الإيكولوجيا الاجتماعية. إن الفرد نفسه، المستقل، أو على الأقل الذي ينحو نحو الاستقلالية، يغذي استقلاليته الشخصية بفضل الثقافة واللغة والمعرفة والفن والروحانيات الخ.. ويمكننا، في إطار هذه الإيكولوجيا الاجتماعية، أن نتحدث عن وجود إيكولوجيا حضرية، حيث تشكل المدينة الوسط المغذي، وإيكولوجيا قروية، حيث يتشكل المحيط من الأرياف والحياة الريفية.
سؤال: أين تتموضع الوحدة أو الفضاء المشترك بين هذه الإيكولوجيات الثلاث؟.
جواب: إن القاسم المشترك بين هذه الدلالات الخاصة بالإيكولوجيا هو “السياق”. إذا لم نضع الأشياء داخل سياقها، لا يمكن أن نصل إلى بناء معرفة وجيهة، لا حول الأوساط ولا أيضا حول الروابط الموجودة بين مختلف الكائنات والأنظمة الحية. وتهم الموضعة السياقية هنا الكائن الحي بقدر ما تهم الحدث. لقد تمثل أحد أهم مكتسبات العلم الإيكولوجي في إعادة الاعتبار لإشكالية السياق، الذي هو الإطار، نسيج العلاقات التي تنظم الإنسان والطبيعة.
وحتى ظهور الإيكولوجيا العلمية، كان هناك اعتقاد بأن معرفة الظواهر تتطلب عزلها عن بعضها البعض، أي بعبارة أخرى عزلها عن سياقها. بالتالي كان يتم تحديد العالم والطبيعة كعوالم من المواضيع المفصولة عن بعضها، التي يمكن موضعتها بشكل واضح، والتي لا وجود لأية روابط أساسية بينها.
سؤال: ما هو بالنسبة لك التأثير الرئيسي، على مستوى الأرض ذاتها للمعرفة، لهذه المقاربة التي تقوم على فصل أشياء الواقع عن بعضها البعض؟.
جواب: إن أحد المشاكل الأكثر دراماتيكية التي يواجهها العلماء على أرض المعرفة هو أن هناك هوة كبيرة جدا بين ديناميتين. تخص الدينامية الأولى الكتلة الكبيرة جدا للمعارف التي بنيناها وراكمناها حول المواضيع كما يتم تمثلها بوصفها مواضيع مفصولة عن بعضها البعض. وتخص الدينامية الثانية ضعف المعارف المتعلقة بالروابط الموجودة بينها. لا زلنا عاجزين، حتى وإن كانت الإيكولوجيا قد ظهرت أصلا منذ قرن، عن ربط هذه المعارف والمباحث التي نحتت داخلها. إن هذا العجز بالذات عن تركيب المعارف، و”تبيئتها”، وربط المباحث الى بعضها البعض هو ما يجعل من الصعب فهم المشاكل الأساسية للكوكب.
سؤال: كنت مع ليما دو فريطاس وباساراب نيكوليسكو أحد مؤلفي الميثاق العابر للتخصصاتTraité….، الذي تمت إذاعته للعموم سنة 1994. توضح المادة 8 من هذا الميثاق ما يلي: “إن كرامة الكائن البشري هي أيضا كرامة من طبيعة كونية وأرضية. شكل ظهور الكائن البشري على سطح الأرض واحدة من مراحل تاريخ الكون. والاعتراف بالأرض كوطن هو من ضمن مطالب التصور العابر للتخصصات. صحيح أن لكل كائن بشري الحق في هوية خاصة، لكن كل كائن يشكل، وفي الوقت ذاته، وباعتباره واحدا من سكان الأرض، كائنا عابرا للأوطان”. نجد هنا كثيرا من مواضيع أبحاثك، بدءا بموضوعة “الأرض/الوطن”. إلى ماذا يشير هذا الشعور بالانتماء، هذا البعد المزدوج “الكوني والكوكبي”؟.
جواب: قبل الحديث عن الاحساس بالانتماء إلى الأرض/الوطن، أود توضيح ما يلي: نحن نعلم اليوم أننا نتوفر على هوية مزدوجة!. نتوفر أولا على هوية كونية، وفيزيائية، وكيميائية. نحن مشكلون من جزيئات، هي نفسها مشكلة من ذرات وجسيمات. تشكلت هذه الجسيمات في اللحظات الأولى لظهور الكون، أي منذ 15 مليار سنة. إننا نحمل تاريخ الكون فينا. لكن هذا التاريخ ليس هو البعد الفاعل الوحيد، لأن هويتنا هي أيضا من طبيعة أرضية. بالفعل، وانطلاقا من المغامرة الفيزيائية الطويلة، ولدت الحياة فوق كوكبنا كتنظيم مركب من جزيئات كبرى. وهذا التنظيم هو ما يمنحنا بعدنا البيولوجي. تقوم هوية الإنسان إذن على هذا الرابط الوثيق بين التاريخ الفيزيائي للكون والتاريخ البيولوجي للكوكب. لكن يجب أن نوضح أن الإنسان لا يختزل في هذه الأبعاد، لأنه وعبر واسطة اللغة والثقافة سيطور مع الوقت كفايات إنسانية تحديدا. إني أطرح مسألة الإحساس بالانتماء إلى الأرض/الوطن في سياق هذه الهوية المزدوجة للإنسان، الهوية الكونية والكوكبية. أذكر أولا بأننا أطفال هذه الأرض، لأننا جميعا منحدرون من التطور البيولوجي الذي تحدثت عنه للتو، وهو التطور الذي حصل فوق أرض كوكبنا (وليس في مكان أخر). ثانيا يجب ألا ننسى بأن كل البشر يتوحدون على مستوى الأصل. يمكننا اذن أن نتمثل وحدة النوع البشري بالذات انطلاقا من تنوع الطبائع والثقافات واللغات والتواريخ الاجتماعية الخ.. بطبيعة الحال، لا يمكن لهذه الوحدة أن تخفي التنوع البشري، وإلا سنحصل على تصور مجرد تماما للمغامرة الإنسانية. إن هذه الوحدة الإنسانية – التي تشمل مستويات متعددة: جينية، تشريحية، فيزيولوجية، عاطفية، دماغية – هي بالضبط ما يسمح للتنوع بالتطور. هكذا يصبح من الممكن القول بأننا نتوفر جميعا على هوية مشتركة وعلى مصير مشترك. ووحدة الأبعاد هاته تنكشف على مستوى الأرض ذاتها.
سؤال: هل ساهمت ظاهرة العولمة في نمو هذا الوعي الكوكبي؟ وإذا كان الجواب بنعم فكيف تم ذلك؟.
جواب: بلا أدنى شك، لوحدة المصير هاته علاقة بالعولمة. في نهاية المطاف، إن ما أنتجته العولمة أمر مزدوج: تبعية من جهة، وأخطار مشتركة من جهة أخرى. كل المسار الجاري حاليا هو مسار تدهور الكوكب وبالتالي تدهور شروط إمكان الحياة. نستمر في فبركة أسلحة الدمار الشامل، وفي الإخلال باقتصاداتنا، وفي تعميق الفوارق بين الشمال والجنوب وداخل المجتمعات.. وإذا كانت وحدة المصير تعني أيضا وحدة الأخطار التي تترصدنا كنوع، فالسبب هو أننا نتوحد على مستوى الحياة والموت. كان أوطو باور هو الذي عرف الأمة انطلاقا من المفهوم الذي أبدعه هو نفسه والذي هو مفهوم “المصير المشترك”. اليوم ليست الأمة هي التي عليها أن تلعب هذا الدور، ولكن الأرض/الوطن.
سؤال: لماذا هذه الإحالة إلى “الوطن”؟.
جواب: تتوفر كلمة وطن على بعد أمومي، فهي تحيل – حتى وإن بدأت بمقولة الأب Patrie- إلى السلطة العادلة، التي لا نعثر عليها في أي مكان في العالم. نحن مجبرون على كل حال على أن نتحدث عن الأم/الوطن. في نظري، يتغذى المصير المشترك، على المستوى الكوكبي، على هذه المادة الأمومية. إنها بالنسبة لي كلمة أساسية.
سؤال: هل يمكنك أن تحدثنا عن الأماكن التي ظهر فيها هذا الإحساس بالانتماء إلى الأرض/الوطن؟.
جواب: بدأ هذا الإحساس يظهر، في الفترة المعاصرة، لدى من نسميهم مناهضي العولمة. وبشكل ما، ومع أنهم ظلوا مواطني البلدان التي ينتمون إليها، إلا أنهم اعتبروا أنفسهم مواطنو العالم. لقد فهموا جيدا بأن مصيرنا هو من الآن فصاعدا مصير كوكبي. يتبع هذا الظهور الخطاطة الكلاسيكية التي حللتها من خلال مقولات “الانحراف” و”الاتجاه”. سأتخذ كمثال ظهور الحركة الثورية الاشتراكية. في القرن 19، كان هناك بعض المفكرين – برودون، ماركس، انكلز، لاصال، كروبوطكين وآخرون- تم تجاهلهم بل احتقارهم من قبل الجامعة والنظام الرسمي، وكانوا يدافعون عن تصورات جديدة للعالم، ويحملون مثلا جديدة. البعض منهم خلق في ألمانيا منظمة سياسية، هي الحزب الاشتراكي-الديموقراطي. كما تم تأسيس أحزاب أخرى في مناطق أخرى سيرا على هذا النموذج. في البداية، كانت هناك أقلية نشطة، لأن كل شيء يبدأ ب “انحراف”، بإعادة النظر في النظام الرسمي، بولادة شبكات صغرى ستقوم تدريجيا بالتنديد بالمنظومة المهيمنة. وفي حالة ما إذا توفرت الظروف المواتية، يمكن لهذا “الانحراف” أن يتحول إلى “اتجاه” قد يتحول بدوره إلى قوة تاريخية قادرة على أن تترك بصمتها الدائمة في العالم وتفرض منظومتها الخاصة.
أنا ألح على أن السيرورات الاجتماعية والتاريخية تبدأ على شكل سيرورات منحرفة هامشية منذورة لأن تتقوى وتتطور. يمكن لهذه السيرورات أن تجد في طريقها، في بعض الأحيان، شروطا تسرع منها وتضخمها. كان طوماس كون قد أشار – في حديثه عن ظهور بردغمات جديدة – إلى أهمية ما سماه “الثورات العلمية”. صحيح أن الأزمات أو الكوارث التي تكون على وشك الحدوث ترفع من الوعي بالخطر. بالتالي فلربما لا يمكننا أن نعي استعجال اتخاذ التدابير الضرورية للخروج من الأزمة الإيكولوجية الكوكبية إلا ونحن على أبواب الهاوية.
سؤال: في هذا الانتقال من “الانحراف” إلى “الاتجاه”، من الوعي الهامشي إلى الوعي الشمولي، ألا يمكن أن يتم احتواء القيم الجديدة من طرف النظام السلعي المهيمن؟. أنا أحيل هنا بطبيعة الحال إلى التنمية المستدامة وإلى ما يسمى الرأسمالية الخضراء (أو البيئية).
جواب: لا أعرف مغامرة فكرية أو إيديولوجية واحدة لا يمكن أن تتعرض لخطر الاحتواء والتشويه. وحتى أكمل مثالي الخاص بالاشتراكية، فمن الواضح أن فكر ماركس تم تشويهه من طرف ستالين. إن ما هو مهم بالنسبة لي هو أن نكون واعين بإمكانية التلاعب بالأمور. وفيما يخص الإيكولوجيا، أعتقد أن ظهور وتطور رأسمالية خضراء أمر لا مفر منه. ستتطور هذه الرأسمالية في جزئها الأكبر في مجال الطاقة. نلاحظ ذلك مع كل تلك الشركات التي تتخصص في بناء المحطات الهوائية، واللوحات الشمسية، والأنظمة الجديدة للتدفئة المنزلية.. الخ.. يتعلق الأمر هنا بوقائع. لكن موقفي الحالي هو التنديد وبشدة بمقولة التنمية المستدامة التي هي بشكل ما الإطار الذي تتطور ضمنه الرأسمالية الخضراء. وإذا كنت أنتقد التنمية المستدامة، فلأنها تبقى عبارة عن تنمية. والحال أن الانتصار للتنمية يستند على فكرة أن التقنية والاقتصاد هما محركا كل التحولات والتقدمات. للأسف نحن نلاحظ وبقوة بأنه إذا كانت التنمية قد خلقت لحد الآن بعض الجزر المعزولة من الرفاه والغنى للطبقات الوسطى، فإنها ولدت الفاقة في مدن الصفيح التي تحيط بالمدن الكبرى في أسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، كما فتحت الطريق لتفكك التضامنات العائلية والاجتماعية، وفاقمت بشكل كبير جدا من مساحة الفساد. أنا متيقن بأنه يتوجب إعادة النظر في فكرة التنمية. وليس بنعتها بالمستدامة سنحل المشكل. يبدو لي أن التنمية المستدامة، بتدابيرها التي تروم محاربة التلوث، ومعالجة النفايات الخ.. تبقى غير كافية بشكل كبير ونحن نريد تجاوز الوضعية الحرجة الحالية.
سؤال: ما هو إذن بديل التنمية المستدامة؟.
جواب: ليس المهم هو الاشتغال باستغلال الطاقة، لأن ما نحن بحاجة إليه شيء كبير، سياسة كبيرة جدا. وعلى هذه الأخيرة أن تكون شمولية ومتعددة الأبعاد، ولا يجب اختزالها في المظاهر التقنواقتصادية. وحتى يمكن لهذه السياسة الكبيرة أن ترى النور، علينا أن نغير تصورنا للعالم وللحياة وللمجتمع. يقف النظام الحالي على مقولات الحساب، والكم، والتقنية. وهذه المقولات توجد في قلب قيم الرأسمالية واقتصادها. والحال أن الخروج من الأزمة الإيكولوجية، ومن التنمية، ومن الرأسمالية يفترض أن نتوجه نحو مقولات وقيم أخرى. على السياسة الكبرى البديلة للرأسمالية أن تتوجه نحو قيم كيفية، أن تدافع على جودة الحياة، على الرابطة الاجتماعية، على الثقافة، على الطبيعة. يتعلق الأمر بتحول أساسي في النموذج العام للحضارة. لذلك تحدثت، لمرات كثيرة في كتاباتي، عن ضرورة “سياسة للحضارة”.
سؤال: ما علاقة هذه السياسة الإيكولوجية الكبرى بما تسميه “إصلاح الفكر”؟.
جواب: الرابط ـ وهو أساسي ـ هو أن كل الإصلاحات التي تروم هذه السياسة الإيكولوجية الكبرى تنزيلها هي إصلاحات متضامنة ومتداخلة. والحال أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تغيير عميق، وفي أي مجال كيفما كان، بلا إصلاح للعقل أسميه أيضا “إصلاح الفكر”. إن هذا الإصلاح هو الذي باستطاعته أن يجعلنا نقر بالطابع الأساسي والشمولي للأزمة التي نمر منها ونواجه التحديات التي تطرحها. بلا هذا الإصلاح سنستمر عرضة لمختلف التسميمات الاستهلاكية والإشهارية ولكل أشكال التجهيل والتضبيع. يلزمنا الطابع الشمولي للأزمة الإيكولوجية بأن نفتح عددا كبيرا من أوراش الإصلاح. ويجب إطلاق هذه الأوراش بشكل مثالي ومتزامن، حتى يمكننا أن نوجهها جميعها وجهة واحدة صوب طريق جديد يجب أن يكون طريقا ثوريا.
سؤال: لا يمكن فصل إصلاح الفكر الذي تطالب به عن نوع جديد من التربية. توضح المادة 11 من الميثاق العابر للتخصصات القيم التي تعتبرها أنت وزملائك مؤسسة لهذه التربية: “إن تربية أصيلية لا يمكنها أن تعطي الأولوية للتجريد في المعرفة. إذ عليها أن تدرس طرق وضع الأمور داخل سياقها، وطرق تفعيلها على الأرض، وطرق النظر إليها نظرة شمولية. تعيد التربية العابرة للمعارف النظر في الدور الذي يلعبه الحدس، والخيال، والإحساس، والجسد في بث المعارف”.
جواب: تمثل أحد المشاكل الخطيرة للنظام الحالي للفلسفة الغربية ولإطاراتنا التربوية في اعتبار الخيال نوعا من “البخار” الذي ينبعث من العقل، نوعا من الوهم، من الخرافة. والحال أن الخيال هو ببساطة شيء ضروري للتطور. على كل حال، سبق لي أن كتبت مؤلفا بعنوان الإنسان الخياليL’homme… . علينا أن نتمثل الخيال كبعد محايث للواقع الإنساني، وليس، كما هو الحال في أغلب الأحيان، كمجرد انعكاس غير حقيقي لعالم حقيقي. تمنحنا نظرية الجمال والأدب والفن معرفة حقيقية حول الإنسان، وحول مكانته داخل العالم، وحول أحلامه، الخ.. إن أعمال الخيال هاته، القائمة على القيم النوعية التي تحدثت عنها للتو، ليست أبدا ترفا سطحيا. فإصلاح الفكر هو ـ ونحن نسعى نحو تربية جديدة ـ نوع من رد الاعتبار للخيال. وحتى وإن كنت أفضل الكلمة الأولى، فإن وصل/خرق المعارف هما وجهان لواقع واحد. إنهما – وهما يتغذيان على بعضهما البعض- أساس الإصلاح الجذري للتربية الذي نحن بحاجة إليه.
سؤال: ما هو تقييمك لما نسميه “التربية على البيئة”؟.
جواب: أنتقد بشكل ما كلمة البيئة هاته التي تبدو لي سطحية أكثر من اللازم. في أصلها الإغريقي، تحيل هذه الكلمة إلى البيت. بل إني أقول بأن للبيت حديقة هي الطبيعة الحية فوق الأرض. يجب على تربية أصيلية، قائمة على وصل/خرق المعارف، أن تدرس عمق علاقتنا بهذا البيت وهذه الطبيعة. وهنا لابد من المرور عبر الإنجيل. ففي سفر التكوين Genèse…. نجد أن الإنسان، الذي خلق على صورة الله، قد تم فصله عن العالم الحيواني. وفي الرسائل Epitres….. وعد بول البشر بحياة أخروية، مانحا إياهم وضعا أعلى من كل الأنواع الأخرى. على التربية الإيكولوجية أن تتجاوز هذا التصور الذي يقوم على فصل الأشياء، وتعيد التأكيد على روابط التبعية بين الإنسان ووسطه. من وجهة النظر هاته، فإن إعادة قراءة كتاب كجون ـ جاك روسو يمكن أن تكون ذات أهمية كبرى. يمكن لهذه القراءة أن تساعدنا مثلا في الوصل العضوي بين العلوم الإنسانية والمعارف حول العالم المعدني، والنباتي، والحيواني. وهنا، وحول هذه القضية الدقيقة المتعلقة بالإصلاح التربوي من منظور إيكولوجي، يسعدني أن أستشهد بهذا الكلام لماركس: “يوما ما ستدمج العلوم الطبيعية العلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية العلوم الطبيعية”.
سؤال: في كتابك المعارف السبع الضرورية للتربية المستقبلية Les sept…… (منشورات اليونسكو، 1999) ، تتحدث عن مجموعة من العراقيل التي يتوجب دحرها وعن مجموعة من الأوراش التي يتوجب فتحها حتى ترقى التربية الى مستوى التصالح بين الإنسان، والعالم الطبيعي، والكون. تتناول في الفصل الأول موضوعة الخطأ والوهم. ما هي الأسباب التي جعلتك تعتبر الخطأ والوهم عقبات في وجه المعرفة؟.
- جواب: إن الخطأ والوهم لا يشكلان عقبات فقط في مجال التربية، ولكن أيضا في حياة كل واحد منا. إذا أخطأتم في استراتيجية ما، وكيفما كانت، فأنتم تخاطرون بالفشل. وإذا أخطأتم في صراع دموي، فقد تلقون ربما حتفكم. في الحياة العاطفية، إذا أخطأنا في اختيار شريكنا، يمكن وقتها أن نعيش حياة بئيسة. لا يشكل الخطأ فقط عقبة رهيبة في وجه المعرفة، ولكن أيضا في وجه تحقيق علاقاتنا ورغباتنا. علينا الآن أن نميز بين الخطأ والوهم، لأننا نأخذ في الأول قطا، مثلا، على أنه كلب. على العكس من ذلك، الوهم هو من طبيعة مختلفة. يتمثل الوهم في دفعنا إلى الاعتقاد بواقعية ما ليس واقعيا. سأتخذ كمثال المجتمع الستاليني في الاتحاد السوفييتي. الكثيرون اعتقدوا بأن الأمر كان يتعلق في هذا البلد بمجتمع سعيد ومنسجم، ولكن ذلك لم يكن أبدا صحيحا. الوهم شيء معمي للأبصار.
إن أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه هو أن نقلل من خطورة الخطأ في الحياة. لا تكفي التربية لنضمن عدم حصول الخطأ في هذا الميدان أو ذاك، حول هذه المسألة أو تلك. ومع ذلك، قد تساعدنا التربية، إذا ما احترمت بعض الشروط، في الكشف عن جذور الأخطاء والأوهام. على كل حال، لقد كان هذا هو الإسهام المتواضع لأعمالي.
من ضمن الأخطاء الكثيرة التي أقوم بشرحها في الكتاب الذي تحدثتم عنه، هناك واحد يبدو لي مهما جدا في علاقته بالقضية العامة للأزمة الإيكولوجية، ويتمثل في استعمال معين للعقلانية. وبنفس الشكل الذي نقول بأن الأرض، أو المجتمع، مريضان، فإن العقلانية بدورها يمكنها أن تكون مريضة. هناك بالفعل ما أسميه “أمراض العقلانية”.
سأمثل لهذه الفكرة بميدان العلم. يتوجب على الباحثين أن يقروا بالطابع اللامكتمل لنظريتهم العلمية – لأن كل النظريات العلمية هي لا مكتملة بطبيعتها -، حتى في حالة المصادقة على فرضياتهم. مثلا، كثير من النيوتونيين (أتباع نيوتن) قبلوا بصعوبة ـ عندما ظهرت نظرية أينشتاين ـ بأن يتم بشكل ما حصر وجاهة “النظرية الكونية” لإسحاق نيوتن الخاصة بالجاذبية في مجالات دون أخرى. يمكن أن أستعمل حالات عديدة من مقاومات أخرى. كانت هذه الأمثلة منطلقي للتمييز بين النظرية والعقيدة. إن نظرية عقلانية تكون مفتوحة على الحجج المضادة وعلى الوقائع التي تناقضها. ولكن إذا ما أصبحت هذه النظرية عقيدة، فإنها تنغلق على نفسها مكتفية بمنطقها الخاص وبالحجج القديمة التي منحت لها شرعية نسبية فتصبح مذهبا، دوغما. في تصوري، يمكننا على مستوى المذهب/الدوغما أن نميز بشكل أفضل المرض عن العقلانية، باعتبار أن الأول هو ما أسميته “العقل المغلق”. في هذه الأمراض يمكننا أيضا أن نكتشف “التبرير العقلاني” الذي يتمثل في بناء خطاب عقلاني يفسر كل شيء، ويدمج كل شيء، وحتى ما لا يمكن تفسيره، أو ما ليس عقلانيا. يتعلق الأمر ب “هذيان منطقي” ليس له أية أسس واقعية، ـ أذكر أن هذا هو ما سبق أن استشفه فرويد جيدا. يمكننا أن نتحدث أيضا عن مقولة أخرى، هي “العقلانية التسخيرية”. يقوم أشخاص وجماعات وشركات ودول بتسخير موارد العقل لأهداف في بعض الأحيان لاعقلانية تماما من وجهة نظر مصالح البشرية فوق الأرض من مثل صناعة أسلحة الدمار الشامل. - سؤال: هل هناك بديل عقلاني “للعقل المغلق”؟.
جواب: لحسن الحظ نعم. لقد سميت هذا العقل البديل “العقل المفتوح”. وهذا العقل الذي يقر بمسؤوليته عن أخطائه المحتملة هو بطبيعته عقل ناقد لذاته وواع بحدوده. وبالفعل، فإن العقل المفتوح يقبل بوجود حدود للمعرفة وباستحالة تفسير كل شيء بشكل عقلاني. وعلى عكس العقل المغلق، يوجد العقل المفتوح، وفي جميع الحالات، في حوار دائم مع الواقع، ويرفض أن ينغلق في حوار أحادي مع نفسه.
سؤال: أفترض أنك تعتبر على المستوى الفكري والعلمي العقل المغلق واحدا من مكونات النسق التاريخي الذي كان وراء الأزمة الإيكولوجية؟.
جواب: ما يمكن قوله هو أن العقلانية المغلقة قامت بشكل كامل بفصل الإنسان والمجتمع عن الطبيعة. والحال أننا لم نكن نعي إلى أي حد أننا كنا مرتهنين للوسط الطبيعي، من أجل مأكلنا، وصحتنا، وتوازننا العقلي..الخ.. لم نكن نعي أن اندحار الطبيعة كان الوجه الأخر لاندحارنا نحن. كانت هذه العقلانية المغلقة مرتبطة بالأسطورة – التي كانت تعتبر عقلانية – التي كانت تزعم بأن واجب الإنسان هو تحديدا أن يغزو الطبيعة. ومع الأزمة الإيكولوجية، نعيد اللقاء، أخيرا، بمعنى الحدود، ونقر بالشروط الضرورية لانبثاق معرفة وجيهة حول الإنسان، والمجتمع، والطبيعة.
سؤال: ما هي، تدقيقا، الشروط الضرورية لتطور مثل هذه “المعرفة الوجيهة”؟.
جواب: يتمثل الشرط الأول الذي سبق وأن تحدثنا عنه في وضع الأمور داخل سياقها. يمكن القول بأن العجز عن وضع مغامرة المجتمعات البشرية داخل سياقها، داخل العالم الطبيعي الذي كانت تتحقق في قلبه، كان هو عيب العقلانية المكتفية بذاتها والمغلقة. إن ما نحن بحاجة إليه هي نظرية في المعرفة لا تقتصر على دراسة المواضيع المعزولة، ولكن تتكلف أيضا، وخصوصا، بفهم الأنساق والسياقات التي تتطور داخلها تلك المواضيع. وحتى تكون وجيهة، على المعرفة أن تموضع داخل سياقها وليس فقط أن تكون متطورة جدا.
سؤال: في الفصل الذي تشرح فيه المعرفة الوجيهة تربط بين أربع مقولات: السياق، الشمولي، متعدد الأبعاد والمركب. أريد أن تتحدث لنا عن متعدد الأبعاد. بشكل خاص، أريد معرفة موقفك من تعبير السوسيولوجي الألماني هربرت ماركوز، وهو التعبير الذي يشكل عنوانا لأحد كتبه، الإنسان أحادي البعد؟.
جواب: أنا أعرف جيدا هذا التعبير بما أنني كنت ناشر هذا الكتاب أواسط الستينيات. ورغم أن ماركوز لم يكن له أي حس بالأزمة الإيكولوجية، الا أنه كان واعيا بخطورة اختزال الإنسان في بعد واحد، وهو الاختزال الذي كانت ورائه الرأسمالية والتقنية. واليوم، يشكل اختزال الإنسان في صورة المستهلك تجسيدا لهذا الإنسان أحادي البعد. والحال أنه من البديهي أننا كائنات متعددة الأبعاد، ـ وهذا هو أفق كل ما أقوم به. في الأنتروبولوجيا التي قمت بصياغتها، لا أعتبر الإنسان العاقل فقط حيوانا عاقلا، ولكن أيضا إنسانا جنونيا، أي إنسانا قادرا على الحمق والهذيان. من جهة أخرى، ألححت على أن الإنسان العاقل ليس فقط إنسانا صانعا، منتج أدوات، ولكنه أيضا إنسان أسطوري، قادر على خلق الأساطير والخرافات والمعتقدات. وأخيرا ليس هناك، على عكس ما تعتقده إيديولوجيا الرأسمالية، فقط الإنسان الاقتصادي الذي يحيى من أجل المنفعة، ولكن هناك أيضا الإنسان اللعبي، الذي يحيى من أجل اللعب.
سؤال: ونحن نستمع إليك يمكن أن نتحدث عن وجه شبه دقيق بين النزعة الاختزالية التي تشوه الإنسان بحصره في البعد الاقتصادي وحده، والنزعة الاختزالية التي تشوه الطبيعة بحصرها في مجموعة من “الموارد”.
جواب: بطبيعة الحال. إن أحد عيوب الفكر المهيمن، وتحديدا الفكر العلمي، على الأقل إلى غاية ظهور الإيكولوجيا، كان بالفعل هو النزعة الاختزالية!. كان يعتقد بأنه بفضل هذه المنهجية كان من الممكن معرفة مجموع العناصر التي تشكل الطبيعة في معزل عن بعضها البعض. ومع الإيكولوجيا، والفكر النسقي، والفكر المركب، نعلم اليوم بأن المعرفة الحقة تكمن في بناء العلاقات بين الأجزاء، وبين الأجزاء والكل، وبين الكل والأجزاء. بالنسبة لي، يشكل المرض الاختزالي جزءا من أمراض الفكر ويشير الى مرض أخر للعقل.
سؤال: لنستمر في تصفح المعارف السبع الضرورية للتربية المستقبلية. بعد موضوعة المعرفة الوجيهة، تسطر على أهمية تدريس الشرط الإنساني. تعتبر أن الإنسان حتى وان كان رهينا، من أجل وجوده، الى شروط كونية وفيزيائية وأرضية، إلا أنه لا يختزل إليها. أين تكمن إذن، في قلب مغامرة الطبيعة الحية، فرادة الإنسان؟. - جواب: إن ما يميز الإنسان داخل العالم الحي هي ثقافته. أقصد بالثقافة وعيه ومنتجات وعيه، كاللغة، والموسيقى، والغناء، والتقنية، والمعارف، وطرق العمل، والمعتقدات، والأساطير. يمكننا أيضا أن نتحدث، في هذا السياق، عن الروح أو العقل، التي هي تعبيرات، ليس عن الدماغ وحده، ولكن أيضا عن العلاقة بين الأنشطة الدماغية وأنشطة الثقافة. إن هذه الهوية الإنسانية بامتياز، التي هي الهوية الثقافية، هي بحاجة، من أجل أن توجد وتبقى، إلى الحاجة الإنسانية الأخرى، الهوية الطبيعية. في الواقع، يرتبط هذان البعدان ببعضهما البعض. فالعقل هو بحاجة إلى الدماغ. وإذا ما توقف الدماغ عن الاشتغال ستكون حينها النهاية. على العكس من ذلك، عند الإنسان، حتى الأنشطة الطبيعية والفيزيائية والفيزيولوجية تتخذ شكلا ثقافيا. مثلا، نعرف أن الولادة، التي هي الشيء الأكثر طبيعية، يتم إرفاقها باحتفالات، بلحظات قوية، يمكن أن تكون دينية، من مثل التعميد في المسيحية، أو علمانية، من مثل تسجيل المولود في الحالة المدنية. نفس الشيء بالنسبة للموت، ذلك الحدث الطبيعي بامتياز، والذي نرفقه بطقوس، وحتى عملية التغذية هي عملية في الوقت ذاته فيزيولوجية وثقافية، لأننا ونحن نأكل نقتسم أطباقا مادية، ولكن أيضا الصداقة، والود، والأحاسيس: إذ نستمتع في الوقت ذاته بجودة الأكل وجودة العلاقة الإنسانية. توضح هذه الأمثلة أن الثقافة هي ما يميز الإنسان، فلا يمكن بالتالي فصلها عن طبيعتنا وعن الطبيعة.
سؤال: إذا كانت هذه التربية الجديدة تقوم فعلا – وهنا أستعيد واحدة من عباراتك – على “عقلانية مفتوحة” قادرة على دمج منجزات الخيال، فأي وضع يمكن أن نمنحه للمعارف الحسية، للفنون العملية، للمتخيلات الإيكولوجية للعالم القروي؟.
جواب: هذا سؤال هام وعلينا بالفعل وأكثر من أي وقت مضى أن نعيد الاعتبار لهذه المعارف القروية. على التربية أن تستثمر أيضا تلك الكتل من المعارف المتراكمة المتوارثة حول الطبيعة منذ قرون في القرى، وهذا في كل القارات. للأسف تنحو هذه المعارف إلى الاندثار مع اندثار العجزة ملاك الضيعات ومع الزحف الكوكبي للفلاحة التصنيعية. أشير الى أن مدارس تعليم الزراعة لعبت دورا هاما في هذه السيرورة السلبية لكونها لم تمكن المهندسين الزراعيين الا من معرفة شكلية، تقنية، كمية خالصة. أتحدث هنا عن الزراعة، ويمكننا أن نأخذ مثال المعارف القديمة في الميدان الطبي، المحتقرة والمرفوضة من لدن الطب الرسمي. إن عدد الأطباء المكونين داخل الكليات الذين يجهلون الموارد والعلاجات بالنباتات مثلا التي كان يتقنها أجدادنا، قلت إن هذا العدد كبير جدا. ينظر هؤلاء نحو ما يصاغ للحفاظ على الكنوز الثقافية على أنه ينهل من الرجعية والبدائية. بطبيعة الحال، تتوفر هذه المعارف على جزء من الشعوذة، لكن للطب الحديث أيضا شعوذاته.
ومع تقلص، وربما نهاية المعارف الحسية وما سميتموه “المتخيلات الإيكولوجية للعالم القروي”، فإن جزءا كبيرا من التنوع الكوكبي سينطفئ بلا رجعة. يجب أن نحتفظ عميقا داخل عقولنا بالعلاقة الأساسية بين التنوع الثقافي والتنوع الحيوي. وكما أن الوحدة الإنسانية أنتجت تعددية الثقافات واللغات، فإن وحدة الحي أعطت التعددية الإيكولوجية، الطبيعية. وبعبارة واحدة، سأقول بأن الوحدة هي كنز التنوع وبأن التنوع هو كنز الوحدة!.