بورتريه : محمد القاسمي الإدريسي النسب ,فارس الوطن في محارك التبوريدة بلا جواد
فور تنمية: أحمد فردوس
محمد القاسمي الإنسان الذي تملك ناصية لغة الخيل والخير منذ أن عرفته، رجل تمكن من صناعة أسلحة التسيير والتدبير وسط محارك التبوريدة رغم شراسة ميدان سنابك الخيل والبارود…دائما تجده منتصب القامة واقفا وسط نقع حافر الخيل وتحت سقف دخان بارود الفرح ليخلق السعادة والفرح على وجه الناس.
محمد القاسمي الإدريسي النسب، شمعة تضيء محيطها الاجتماعي والثقافي والتراثي، كونه سليل أسرة رحمانية عريقة، تعتبر إبنها / الرجل واسطة عقدها الذي يزيّن جِيدَ تراثنا اللامادي على مستوى تعدد موروثنا الثقافي الشعبي، فضلا عن تخصصه في فن ورياضة الفروسية التقليدية.
إنه الرجل الخلوق، الذي رصدته عين شيخه الرَّامِي والفنان المبدع، الطبيب نور الدين الزوزي ذات سنة من سنوات الكد والعمل، فاكتشف فيه خصل النبل ونكران الذات، وحسن العلاقات الاجتماعية ميدانيا وتحمل مسؤولية الأمانة، إلى جانب تعدده الثقافي والفني والتراثي بعد أن وضعه تحت مجهر و “سْكَانِيرْ” مختبر “رْجَالْ لَبْلَادْ” و “مْجَادِيبْ الْحَالْ”، فاختاره ضمن فريق بصم على تأسيس مدرسة “التّْبَوْرِيدَةْ”.
هو الرجل الذي ترك الاُثر تواصليا في الميدان مع كل فرسان التبوريدة في المغرب، جنوبا وشمالا، غربا وشرقا، هنا وهناك يعرفه الجمهور بخامته الصوتية عبر أثير الميكروفون دون تردّد، يحبه الصغير والكبير، المرأة والرجل،
المسؤول الترابي ورجل السلطة، هو الذي تعشقه أرض الرحامنة كما تحضنه تربة دكالة وعبدة وأحمر والشاوية ومجالات جغرافية كثيرة تشبع بعاداتها وتقاليدها وطقوسها… لا لشيء إلا لتواضعه الصادق، وتمكنه من لغة تراثنا اللامادي ـ بارود الفرح ـ وقدرته على فك لغز وشيفرة مهرجانات ومواسم الخيل والبارود التي مرَّ منها وعبر جسرها، وتنفس هوائها وتربتها، واستمتع بصهيل خيولها الثائرة على وقع زغاريد أمهاتنا وجداتنا في أرض المغرب العميق.
تختزن ذاكرة محمد القاسمي اليقظة والمتّقدة، ملامح وتقاسيم تجاعيد أغلب علامة الخيل وفرسانهم الأشاوس عبر ربوع المملكة، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر “وما بدلوا تبديلا”. تقاسم معهم الحلو والمرّ، تحت سقف خيمة التراث، في سبيل أن تَعْبُرَ كتائبهم بسلام من نقطة الإنطلاق إلى نقطة إطلاق بارود الفرح، فيعلن منتشيا على إيقاع غنائنا التقليدي “مْشَاتْ الْخَيْلْ أُو جَاتْ سَالْمَةْ، وْلَيْنِّي عَلْفَةْ مْعَلْمَّةْ”.
بحنكته يصف للمتلقي أوصاف حصان العلام ولباسه التقليدي، وحركاته المبهرة، وكيفيات طريقته ومدرسته التي ينتسب إليها رفقة فرسانه، أكانت المدرسة نَاصِرِيَّة أو شَرْقَاوِيَّة أو خِيَّاطِيَّة أو رَحَّالِيَّة أو زْنَاتِيَّة أو صَحْرَاوِيَّة… يعطي لكل دي حق حقه وسط محرك الخيل والخير دون التفريط في واجباته، حيث تتسع خَاطِرُهُ وقلبه الخافق للجميع دون مهادنة أو مزايدة أو تزلف لأحد.
عاشرت الرجل ما يقارب 24 سنة منذ أن وقّعنا كجمعية تراث أحمر شراكة مع جمعية تراث الرحامنة ـ في شخص كل من الباحث الأستاذ المصطفى حمزة والدكتور نور الدين الزوزي ـ فانطلق مشوارنا التراثي ميدانيا عبر ربوع المملكة، وسط العديد من محارك التبوريدة بالمهرجانات والمواسم، سواء منها التي أسسناها وساهمنا فيها بالأفكار والجهد والعطاء حتى اشتد عودها وأزهرت أشجارها الوارفة الظلال، أو تلك التي كنا نحل ضيوفا عليها كمنشطين قبل أن تدرج منظمة اليونيسكو تراث التبوريدة المغربية كتراث لامادي.
كان ومازال محمد القاسمي الإدريسي النسب، يسبقنا لفضاء المهرجان أو الموسم بيومين أو ثلاثة أيام، لينكب على المساهمة في تأثيث موقع المحرك، وإعادة النظر في هندسته، ومراقبة كل كبيرة وصغيرة قبل أن تحط سربات الخيل خيامها وخيولها، ويفتي بحكمة للمنظمين كيفية التحكم في مداخل ومخارج طرقات الفضاء وموقع منصة الإذاعة والتنشيط، وخيمة مستعجلات الصحة، حفاظا على سلامة الجمهور والفرسان، بل كان بحكمته وتبصره يعيد النظر في مكان مرابط الخيول وبناء الخيم، ونقطة توزيع البارود والتنسيق مع كل مكونات اللجنة المنظمة الرسمية.
كان ومازال محمد القاسمي يذهلني بمواقفه العملية، وكنت أشفق على حال فارس المحارك بصفته صديق الْبَّارْدِيَّةْ مْوَالِينْ الْخَيْلْ يعزونه ويعزهم، لأنه كان يتطوع بحب وشغف من أجل ضبط لائحة عدد خيول كل سربة وفرسانها والجهة الوافدين منها، والسهر على إيصال نقط الماء الشروب لخيم الخيالة، والإنارة، ويوزع مادة العلف، ومواد الإستهلاك، وتجده رفقة لجنة البارود والحبة للحسم في عملية التوزيع… والجميل في الرجل أنه كان يسهر على عقد اجتماعات خاصة مع علامة الخيل بحضور السلطات المحلية، من أجل التواصل وضبط الحقوق والواجبات والتعاقد معهم على مواعيد تجهيز الفرسان والخيل عند نقطة الصفر.
كان ومازال محمد القاسمي يصرّ على اختيار المقاطع الموسيقية والغنائية التي يعشقها فرسان الخيل والبارود، والتي تعبر حقيقة عن فخرهم بالإنتماء لهذا المجال الجغرافي أو ذاك في علاقة بالنمط العيطي الذي يمثل ذاكرتهم التاريخية والثقافية والفنية، وحين يشتد وطيس نقع حافر الخيل وصهيلها على إيقاع دخان البارود الذي يلعلع على ﮜصَاصْ الصافنات والمغيرات، يحلق الرجل منتشيا بتعبيراته الراقية ومعانيها الرائعة التي تمتح من العيطة وفن القول وكلام الْحَبْحَابَةْ.
لقد صنع الرجل شخصيته الميدانية بتراكمه النظري والعملي، بعد أن راكم بجهده النظري، والذهني والعضلي والنفسي والمعنوي، مكانته المتميزة بين كتائب شجعان الخيل والبارود، وتشرّب كل العادات والتقاليد والطقوس من ينبوع شيوخهم الرواد المتألقين، واستطاع أن يرسم فعلا خارطة طريق جودة عروض التبوريدة التي ضمنت المحافظة على موروثنا الثقافي الشعبي وتراثنا اللامادي بدون منازع.
من أجمل صنائع الرجل أنني كنت أكلفه في بعض الأحيان لينوب عن لجنة التنشيط، في استضافة أطفال العديد من الجمعيات الثقافية التي كانت تبرمج زياراتها لبعض المهرجانات والمواسم أثناء فترة المخيمات، من أجل تقديم دروس عن فنون التبوريدة وسط خيم أصدقائنا علامة الخيل وما أكثرهم، ويشرح للأطفال بحب كل مكونات سنابك الخيل والبارود، ومستلزماتها ذات الصلة بالصناعة التقليدية، نعم كان ومازال يؤمن بضرورة تمرير المعلومة للجيل الحالي والمقبل حتى لا يضيع تراث التبوريدة وتبتلعه أمواج التفاهة التي يروج لها البعض في زمن السخافة، بل كان ينخرط بتلقائية في استقبال العديد من الباحثين والدارسين لتراث التبوريدة، ويرافقهم في بحوثهم الميدانية، ويفتح باب إقامتنا في وجوههم، بكرمه وجوده وسخائه الذي لا ينضب.
مهما قلت وكتبت لن أستطيع أن أرسم بورتيه عن الرجل الذي يمثل مدرستنا التراثية التي تركت الأثر والبصمة الخاصة في ميدان التبوريدة وفي نفوس الباردية موالين الخيل إلى جانب جمهور التبوريدة.