OCP

د عبد الواحد أيت الزين يكتب “أيخْمَان”…إنّها الأوَامر! (2)

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لفور تنمية : د عبد الواحد أيت الزين

 

      (…) يُخامرُك شعُورٌ بعظمَة ما يسرِي في الإنسَان حينَ الإقبَال علَى “تطهير الرّوح” (الجسَد والفكْر) ممّا يُهيّجهُا من بقَايَا “اليوْم”. هوَ صفَاء ذهنيّ وانبسَاط تامّ من يُلقِي بجلَل الأفكَار في طرِيق الإنْسَان. ليْس الأمْر عسيراً، لكنّ الأشدّ عُسْراً أنْ تصُون لذهْنِكَ صفاءَه، وتحفَظ لجسدِك انبسَاطَه وأنْت مُهدّد بالحرْق في فرْن معدنيّ مُغلَق، هكذَا كانَت حالُ “الفيلسُوفَة” حنّة آرنْت وهيَ تفكّر في أيخمَان ذاك الزّمَان، حيْث كلّ شيء كانَ ممنوعاً.

   كانَ التفكيرُ طريقَ الإنسَان للنّجاة من مخلّفات رعْب المحَارِق النّازيّة. بالرّغم من كلّ التوحّش النازيّ، ظلّ التفكِير راقيّاً مُحافظاً علَى كَامل قوَاه وحَيويّته لحظتَئذٍ. لا يضعُف التّفكيرُ حينَ تشْتدّ وطْأةُ التسلّط، وتتقوّى منَابِعه، بل هيَ شدّة التسلّط من تهَب التّفكير أسبَاب الوجُود، وتحفّزه على المقاومَة والصّمُود. كانَ التفكيرُ –وما زال- وحْدهُ حامي الإنسَان من أن يخْسَر عقلَه. كيَ لا يَنْقَلِب الإنسَان “بهيمَةً”، لزمَه تَعوّد ممارسَة التفكير. لَمْ يكُن التّفكيرُ في تَاريخِه الطّويل سوَى المُقَابل الرّئيسُ للتوحّش والبَهامَة. أيْ نعَم وحْدهَا البهيمَة -أيّها الإنسَان- لا تفكّر. لا يصيرُ الإنسانُ “أيخماناً” إلاّ حينَ يكُون و”البهيمَة” سيّان.

   هناكَ تفاهَة الشّر( Banality of Evil)، وهناكَ تفاهَة التسلّط. فَكّرَ في: “تفاهَة السّلْطَة” عنواناً لـِ “نقطة نظامِك”. استَدْرَكْتَ عليْه من: “تفاهَة الشرّ (آرْنْت)” إلَى “تَفاهَة التسلّط (كتَابُ يمينِكَ)”. وحْدهُ أيخمَان شريكُهمَا سَواء بالإشَارَة أو العبَارَة. كَتَبْتَهُ ومَحَاهُ، كتبَهُ ومَحَوْتَه. آه لَكَم هي مُقفرَة “مقَابِر المحْو”، ولكَم هيَ عدالَة البلاغَة والنّحْو ملطّخةٌ بدمِ سلالَة الِمدَاد؟ إنّها الأوَامِر والمَساطِر تَمتَدّ إلى “ولادَة الكلاَم” لتُجْهِضَه قبْل أنْ يَفرَح به أهلُه. لَم يعُد شنْق الكلاَم -مثْل شَنْق الإنسَان- مرعباً ومريعاً كما كانَ، بل صَارت فيه بعْضُ رحْمة: رَصَاصَة مُباشرَة، مثل نقرَة زرّ. أعيدُوا لي مِمِحاتِي المطّاطيّة…أعيدُوا لي ممحاتِي. عنْد حلُول المقصلَة محلّ المشنقَة بكاهَا الفرنسيّون بِأُغنيّة. إنّنا نعرِف أوّلَ شخْصِ مَحَتْهُ المقصلَة من الحيَاة (نيكُولا جاك بيليتيه، 25 أبريل 1792)، لكنّك ستظَلّ تَجْهَل يقيناً أوّلَ ضحيّة مِمحَاة !

   ربّمَا حيَن محَاهُ تذكّرْتَ “فلسفَة الأمْر” عنْد نصّار؛ فالتسلّط كما هوَ عنْدهُ إساءَة استعمالٍ لـ “السّلطَة”. لكنّهُ بلا شَك تذكّرَ لمّا مَحَوْتَهُ أنّ ربّك أكْرَمَهُ –وإيّاكَ- بـ “وَسِيط أوَامِر” لا يَقرَأ، وإن هوَ قرأَ لا يَفهَم، وإن هوَ فَهمَ تَأوّلَ، وإن هوَ تَأوّلَ -وفِي بَطْنِه “عَجينٌ زائِدٌ”- أسَاء التّأويل. “وما يعلَم تأويله إلاّ اللّه”، أمّا الرّاسخُون في “الأمْر” فليْس لهُم منْه إلاّ ما دَسُّوه فيه. سَحَبَ –ووافَقْتَه- بعْد استشَارَةٍ “تفاهَة السّلطَة” وإن هيَ –سيّدة المقَام- أَصَرّت علَى الإبقَاء عليْهَا، لكنّه لا يَستَنصحُها أحياناً، إلاّ ليَعْمَل بخلاَف ما تنصَحُ به لاسيّما في مَقَام “المنهيّات” و”الأمْريّات”.

   أمامَك طابُور طَويلٌ لشعْبٍ نسيّ وجْهَهُ وأضَاع وِجْهَتَه. ومُنادٍ أنْ اخشوشِنوا يا عبَاد اللّه، فإنّ النّعَم زائلَة لا تدُوم. كانَ السّفَر والتنقّل نعمَة ربّانيّة قبْل “غزوَة ووهَان”. في “عَصْر التّفتِيش” أمْسَت “الحركَة” بركَة تُبذَل في سَبيل صُكُوكهَا الدّراهِم والمغَانِم. لَم تعُد أرضُ اللّه -كما كانَت- وَاسعَة رَحْبَة، أضْحَى “استئجَار التأشير” كابُوس المُخشَوشَنين بحُكْم طَبقَتهِم. الاخشْوشَان عند البعْض وفيهِم كُفْر بوَاح، ليْس لهُم منه (الاخْشِوْشَان) سوَى تَرَف “الخشونَة”؛ فالأصْل في الإيمَان عنْدهُم إظهَار النعمَة على عبَاد اللّه…

   نزَل عليْه تعليقُهَا بارداً: شتّان بيْن أيخمَان ذاك العصْر، وآيخمانَات أيّامنَا ببيضِ وُعُودهَا وسُود أعلامهَا. سيّدَة المقَام كتَبَتْ فَخاطَبْتَها: ليْس أيخمَان العصْر كمَا سلفُه غَبياً -ولا هو ُمبرمجاً علَى الغبَاء- لكنّه “لا هويّة (وجْه)” له، طالمَا أمْكَن لهُ أن يكُون أيّ شيْء: أباً أو زوجاً مثاليّاً، صديقاً رائعاً، موظّفاً مُجتهداً وناجحاً، جلاّداً لا يرْحَم. هنَا بيْت القصيد، إنّه “أيّ شيء  Anything” : وحْشٌ وإنسَان، سيّد وخادمٌ، متمرّد ومُطيع. إنّه ليس “أيّ شيء”، إلاّ لأنّه “لا شيْء nothing”. لقَد كفّ أيخمَان عن الانتمَاء إلَى العالَم الإنسانيّ حينَ لَم يجرُؤ أن يكُون “شيئاً بعينِه”…

 (ربّما، يكُونُ لهُ ما يَلِيه…)

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.