احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
لفور تنمية : ذ خالد جبور .
في ما يلي محاضرة ألقاها نيكو هيرت باللغة الفرنسية قمت بترجمتها لعل القارىء يجد فيها ما يفيده. تصرفت في بعض مقاطع المداخلة وفقا لما يقتضيه نقلها كتابة وبلغة غير لغة صاحبها.
نيكو هيرت من مواليد سنة 1954 في اللوكسمبورغ، أستاذ وكاتب بلجيكي، مبرّز في الفيزياء، يدرس الرياضيات والفيزياء، مناضل نقابي ومسؤول عن قطاع الدراسات في إطار الجمعية البلجيكية ” نداء من أجل مدرسة ديمقراطية” Appel pour une École Démocratique له العديد من المقالات والمؤلفات والمحاضرات حول المدرسة والأنظمة التربوية الأوروبية. من أبرز مؤلفاته: L’école prostituée Les Nouveaux Maîtres d’Écoles نيكو هيرت المدرسة الخاضعة للسوق (ج1) تتجه الدول الأوربية خصوصا، والدول الاقتصادية بشكل عام إلى إعادة هيكلة جذرية للأنظمة التربوية:
– فتح الباب أمام أسواق جديدة التعليمُ فيها بضاعة؛
– تحفيز المنافسة بين المدارس ( وبين من يرتاد المدارس)؛
– خوصصة جزئية أو كلية للأنظمة التعليمية؛
– استبدال المعارف بالكفايات؛ – وضع المؤسسات التعليمية بمتعلمّيها ومدرّسيها تحت ضغط مستمر ناتج عن سلسة تقويمات متواصلة؛
– حضور لافت لتكنولجيا الإتصال والتواصل التي تغزوا مساحات أوسع؛
– ترسيم اللغة الانجليزية كلغة ثانية لكل مواطني العالم؛ – تمتين الروابط بين أنظمة التربية والتعليم وعالم المقاولة.
كل هذه التحولات جلية نعيش آثارها بشكل ملموس، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ؟ ننظر تجاه الدولة ونعتقد أن الجواب فيها وعندها. نتجاوزها فنشير بأصابع الاتهام إلى مسؤولين آخرين، كمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE… في الحقيقة كل الأجوبة التي نجدها صحيحة نسبيا، إذ أنه لمن البديهي أن الدولة مسؤولة عمّا يقع في قطاع التربية والتعليم، بالإضافة إلى ذلك، واهمٌ من لا يزال يشك أن OCDE لا تُملي توصياتها و لا تفرض شروطها على كل القائمين على قطاع التعليم والتربية في الدول الأعضاء للمنظمة.
لكن وفي ما وراء المنظمات و الأشخاص، فإن السبب الحقيقي، بالنسبة لي، يتجاوز الحكومات والمنظمات: يجب أن نبحث عنه في نظام اقتصادي له اسم محدّد: الرأسمالية.
سأحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على منطق العلاقة بين تطور المحيط الاقتصادي، وطموحات المستثمرين فيه، مع التغيرات التي يشهدها عالم التعليم والتربية. ولكي نفهم ما يقع، ونزيل الغشاوة عن تفاصيله، لابد من أن نعود لما وقع لفهم المنطق المتحكّم به. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عرفت الأنظمة التعليمية نموا كبيرا نجم عن تنزيل مبدأ جمهرة التعليم Massification de l’enseignement. هذا المبدأ أملته الشروط الموضوعية في هذه الفترة: مخلفات الحرب من دمار وضرورة إعادة البناء، بالاضافة إلى طبيعة علاقات القوة، التي كانت تميل أكثر إلى صف المنظمات العمالية، التي كان لها حضورا كبيرا في حركات المقاومة والتحرير.
أضف إلى ذلك التقدمُ الذي شهدته الصناعات التكنولوجية، والذي سيُحدث تحوّلات اقتصادية ضخمة: تطور الصناعات النووية، كهربة السكك الحديدية، تقوية البنية التحتية من موانئ، وطرق، ومطارات… باختصار، نحن في سياق تطور تقني وصناعي يفرض استثمارات جد ضخمة و بعيدة المدى، ونمو ملفت جعل رجال الاقتصاد يعتقدون أنه نمو دائم، مُحصّن من التغيرات. كان الاعتقاد سائدا بأن الرأسمالية دخلت مرحلة ازدهار لانهاية لها، إلا أن الواقع أثبت العكس لأن هذا النمو لم يكن سوى حادث عرضي في تاريخ الرأسمالية.
فما هي نتائج هذا النمو المؤقت؟ من جهة، انتعاش ميزانيات الدول، ومن جهة أخرى، تزايد الطلب على اليد العاملة المُؤهَّلة نتيجة تطور القطاعات التي أصبح العمل فيها يقتضي تكوينا أرفع. وبما أن ميزانيات الدول كانت في نمو مستمر في هذه الفترة، فقد غدى طبيعيا، لدى كل المكونات: تنظيمات عمالية ومنظمات الباطرونا على حد ّ سواء، أنه لابد من جمهرة ( تعميم ) التعليم، تعليم ممركز تضمنه الدولة وتُموّله.
امتدت هذه المرحلة من السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلى نهاية السبعينات، حيث دخلت الرأسمالية طورا جديدا: عصر الأزمات. بدأ بما يُسمى ب ” صدمة النفط ” Choc pétrolier 1973- 1979. في هذه الفترة، ويا عجباه! قال رجال الاقتصاد مجددا بأنها ليست سوى أزمة عابرة، سحابة صيف سوف تنجلي، ونعود بعدها إلى النمو ومراكمة الأرباح.
لكن واقع الحال أكد، مرة أخرى، أن رجال الاقتصاد كانوا واهمين عندما استبشروا خيرا في ما بعد الأزمة. فبحلول الثمانينات تبيّن أن العديد من الدول خرجت من الازمة بجراح عميقة تجلت آثارها في النقص المالي المُزمن: بلجيكا، فرنسا، ألمانيا وبعض دول الشمال.
فما العمل إذن؟ كيف سنواجه هذه المعضلة؟ الجواب جاهز عند رجال الاقتصاد: ستتخلى الدولة عن القطاعات التي ” تستنزف” ميزانيتها ( صحة، تعليم، نقل…)، ستبيع وتُخوصص ما كانت تحتكره … وهَلُمّ حلولا لم تُجدي نفعا: أزمات لاحقة عصفت كادت تقتلع الرأسمالية من جذورها. فيصدح أهل الاقتصاد: ليس هناك أي أزمة، هناك فقط مشاكل سيتم التعامل معها وستعود الأمور إلى سابق أحوالها، فالتكنولوجيا الحديثة إذا ما اندمجت في مشروع العولمة الاقتصادية ستضع حدا لكل هذه المشاكل. للإشارة، ففي سنة 2000 انهار اقتصاد التكنولوجيا bulle technologique ، فلم يبقى أمام أهل الاقتصاد إلا اللبرلة المطلقة للأسواق المالية Libéralisation des marchés financiers.
سنة 2007 شهد هذا القطاع بدوره أزمة خانقة … منذ الثمانينات دخلت الرأسمالية طورا هي فيه لا تخرج من أزمة إلا لتدخل أخرى، فترات طويلة من التذبذب واللايقين جعلت قادة الدول يتبنون خطابا جديدا كل الجدة حول المدرسة وأدوارها وطرق اشتغالها…