السرد بين جدلية الاستباق والاسترجاع رواية الأطلسي التائه أنموذجا لمصطفى لغتيري
لفور تنمية : عبد الهادي صديقي طالب باحث
نسعى من خلال هذه الورقة البحثية إلى بيان جمالية تقنيتي الاسترجاع والاستباق في العمل السردي، وتحديدا في الخطاب الروائي من خلال رواية الأطلسي التائه للروائي والناقد المغربي مصطفى لغتيري. إن القارئ لرواية الأطلسي التائه يدرك من خلال صفحاتها أن السارد يحكي عن أحد شيوخ الصوفية، في زمن سيادة دولتي المرابطين والموحدين، ويكنى هذا الشيخ ب “أبي يعزى” والذي اشتهر فيما بعد ب “مولاي بوعزة”، حيث عاش هذا الأخير في القرن السادس الهجري الموافق للثاني عشر الميلادي، أي آنذاك كانت الدولة المرابطة على مشارف الزوال وبروز دولة جديدة هي دولة الموحدين. ولقد اعتمد السارد في حكيه لحياة هذا الشيخ على حزمة من العناصر التي أسهمت وبشكل كبير في بناء الأحداث وساعدته على تصويرها وفق قالب فني جميل نحو الشخصيات والأمكنة والتعدد في الأزمنة وغيرها. ولعل القيمة الجمالية لرواية الأطلسي التائه تتمثل في تكسير النمط التقليدي للسرد، أي أن السارد لم يتخذ في الحكي النمط الطولي في سرد الأحداث والذي يكون من خلال توالي الأحداث؛ أي حدث يكون سبب الحدث الذي يليه وهكذا، وإنما قام بتنويع السرد وذلك بالاعتماد على المفارقات الزمنية والتي تتكون من عنصرين أساسيين؛ هما تقنية الاسترجاع؛ أي العودة للوراء، وكذا تقنية الاستباق التي تنقل من الحاضر نحو المستقبل وذلك من خلال تقديم إعلانات أو تمهيدات لأحداث قد تحدث مستقبلا. وسنقف هنا عند تقنيتي الاستباق والاسترجاع، وكما يعبر عنهما بالمفارقات الزمنية وهي “دراسة الترتيب الزمني لحكاية ما مقارنة نظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخطاب السردي، بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة.”
ونرى إلى أي حد قامتا بإضفاء طابع جمالي على متن رواية الأطلسي التائه لمصطفى لغتيري.
1- تقنية الاسترجاع: يقوم الاسترجاع بعملية الرجوع إلى الخلف والتطرق إلى أحداث مرت ووقعت في الماضي، ويعد من بين أهم التقنيات الزمنية في الخطاب الروائي، بوصفه أداة سردية لها تسميات في النقد العربي منها علي سبيل الذكر لا الحصر: الاسترجاع، الارتجاع، الإرجاع…، ولقد عرفه الدكتور محمد بوعزة بقوله “الاسترجاع يروي للقارئ فيما بعد، ما قد وقع من قبل” ولقد وظف السارد هذه التقنية في الرواية رغبة منه في ضبط مسير السرد، ويتمثل ذلك من خلال عودته لأحداث قد مضت و مر عليها زمن طويل، وسنميز هنا بين كل من الاسترجاع الداخلي والخارجي والمزجي من خلال رواية الأطلسي التائه. الإسترجاع الداخلي: وهو الذي يسترجع لنا من خلاله السارد أحداثا وقعت في زمن الرواية، ويمكن الاستدلال على هذا من خلال الرواية بالمثال التالي: “استرجعت حياتي بتفاصيلها” ، فهنا تذكر الراوي لفترات من حياته وتذكره ما كان يميزها، والمؤشر الدال على الاسترجاع هو ‘استرجعت” وفي قول السارد أيضا “تذكرت كلمات إبراهيم عن السياسة وأحابيلها وحبالها المتينة التي ما إن تحكم قبضتها على أحد…” هنا تذكر الراوي نصائح صديقه إبراهيم ونصحه له بالابتعاد عن السياسة كي لا يصبح أسيرها إلى الأبد، والمؤشر الدال على الاسترجاع هو “تذكرت”. الإسترجاع االخارجي: ويوظف هذا النوع في الرواية ويتطرق لثلة من الأحداث قبل بداية الحكاية الأولى. ولقد ورد هذا النوع في رواية “الأطلسي التائه”، ونأتي بالأمثلة التالية: “حين كنت أتأمل الخروف الذي أضحى يلازمني، كنت لا أشك في جسده روح صبية طيبة…وكنت أتدبر نفسي فأعتقد جازما بأن روح حيوان مسالم تسكنني” .
فهنا يعطي الراوي معلومات حول الخروف الذي كان بجانبه دائما، وتذكره لصفاته وما كان يمتاز به، والكلمة الدالة على الاسترجاع هي “كنت”.
الاسترجاع المزجي: ويكون هذا من خلال اجتماع الاسترجاع الداخلي والخارجي، أي أن هذا الاسترجاع يبدأ قبل بداية الرواية ويبقى مستمرا حتى يصبح داخلها وجزء منها، ولقد حضر في الرواية هو الآخر ويمكن أن نستحضر الأمثلة التالية: “كنت مضطرب النفس حزينها، فانعكس ذلك على نومي” وفي قول السارد أيضا “حزنت بالخصوص قبر الزهراء، الذي عرفت أنني سأشتاق إليه كثيرا، وربما لن أظفر برؤيته لاحقا” .
فمن خلال هذا المثال الأخير يتبين لنا اشتياق الراوي للآلة فاطمة الزهراء، حيث ربط الزمن الماضي بالحاضر وكيف كانت الزهراء في قلب أبو يعزى وما زالت منذ سماعه بها وعنها من صديقه إبراهيم. نلاحظ من خلال هذا أن السارد اعتمد تقنية الاسترجاع من أجل تذكر والإتيان بأحداث مضت، ولقد اعتمد في هذا على التنوع في الاسترجاعات بين الخارجي والداخلي والمزجي. وهذا إن دل على شيء فإنما على فإنما على تمكن السارد من هذه التقنية والتي أضفت على الرواية طابعا فنيا وجماليا. ونجد إلى جانب هذه التقنية أيضا تقنية الاستباق التي أسهمت بدورها في تكسير نسق السرد وإعطاء لمحة جمالية على المتن الروائي.
2-تقنية الاستباق: يشكل الاستباق تقنية زمنية إلى جانب الاسترجاع، ويقوم السارد بواسطتها على تكسير نسق وخطية زمن السرد، والاستباق هو أن يأتي السارد بأحداث تكون ممهدة لأحداث قد تحدث بالمستقبل، يقول الدكتور محمد بوعزة “والاستباق هو عندما يعلن السرد مسبقا عما سيحدث قبل حدوثه” وتقسم تقنية الاستباق إلى نوعين هما الاستباق التمهيدي والاستباق الإعلاني. ونجد السارد اعتمد على هذه التقنية في الرواية بغية كسر رتابة السرد ومن أجل أيضا إضفاء الجمالية على المتن الروائي، كما نجده أيضا درج الاستباق بنوعيه التمهيدي والإعلاني وهو ما سنمثله على الشكل الآتي: الاستباق التمهيدي: أي بمعنى يمهد لأحداث لاحقة ستأتي فيما بعد وذلك يكون عن طريق التوقع والاحتمال، ولقد وظف السارد مصطفى لغتيري هذا النوع من الاستباق، ونورد منه على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي: “كان الجمع الذي حضرت أطواره في البيت الكبير إيذانا بتغيرات عميقة ستحدث في حياتي” ، وفي قول السارد: “لقد كلفتني الجماعة بمهمة سرية سأسعى جاهدا للقيام بها” . بالتالي فمن خلال هذه الأمثلة نلاحظ أنها تتنبأ بمجيء أحداث في المستقبل، وإضافة إلى هذه الأمثلة يمكن القول بأن بداية كل فصل تعتبر في حد ذاتها تمهيد للأحداث التي ستأتي لاحقة. الاستباق الإعلاني: هو الذي يعلن عن أخبار وأحداث ستكون في المستقبل، ودرجة توقعها تكون بنسبة عالية عكس الاستباق التمهيدي الذي ينبئ فقط. والاستباق الإعلاني يعلن عما سيأتي بعبارة تؤكد مجيء ما أعلن عنه، ولقد وظف الاستباق الإعلاني هو الآخر في رواية الأطلسي التائه، ويمكن أن نمثل له بالآتي: “هاهو ساعد جديد يضاف إلى ساعدي الذي مافتئ الوهن يتسرب إليه… وحتما سيساعدني على صروف الزمان التي تزداد يوما بعد يوم شدة وقسوة” يتبين لنا بأن هذا المثال قد تحقق من خلال الرواية، حيث أصبح أبو يعزى عاملا يرعى الغنم ويكون نصيبه كمية من القمح يعطى إياها من الشريف الشرقاوي. وفي قول السارد أيضا “وأقسم بأنه سيتخلص مني في أقرب وقت ممكن” ، بالتالي هنا في هذا المثال ورد القسم، وهو دليل قطعي على حدوث شيء في المستقبل القريب، إذن يمكن القول هنا أنه استباق إعلاني. سعينا من خلال هذه الورقة البحثية إلى بيان أهمية المفارقات الزمنية في السرد، خاصة في الخطاب الروائي، ولقد وقفنا على تقنية الاسترجاع بأنواعه وكذا على الاستباق بأنواعه هو الآخر من خلال رواية الأطلسي التائه لمصطفى لغتيري، وتتبعنا كل واحد على حدة، فوجدنا السارد أتقن توظيف هتين التقنيتين ومثلهما أحسن تمثيل في روايته. حيث أن كل من الاستباق والاسترجاع قاما بدور مهم من داخل الرواية، وذلك من خلال خرق نظام سير زمن السرد من داخل الرواية وهذا يتأكد من خلال استباق أحداث على أخرى، وكذا الرجوع لأحداث قد مضت والحكي فيها. بالتالي إن المفارقة الزمنة قامت بدور فعال من داخل رواية الأطلسي التائه.
المراجع المعتمدة: – جيرار جنيت، 1997، خطاب الحكاية بحث في المنهج، ترجمة محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلى، الطبعة الثانية، الهيئة العامة للمطابع الأميرية. – ذ. محمد بوعزة، 2010، تحليل النص السردي (تقنيات ومفاهيم)، الطبعة الأولى، دار الأمان، الرباط، المغرب. – مصطفى لغتيري،2015 رواية الأطلسي التائه، الطبعة الأولى، دار الآداب للنشر والتوزيع، لبنان.