المغرب زمان الرحالات الفرنسيات الرحامنة نموذج من خلال كتاب: « … على طول امتداد المسالك المُغربية.. الجزء السابع:
فور تنمية: ترجمة ذ محمد بوخار
في الطريق إلى سيدي بوعثمان، ﻻطير يطير، وﻻ نبات ينمو، وﻻ مسافرين يعبرون السبيل…
23 مارس 1910
لم يكد ضوء الصبح يتسلل عبر خيوط قماش الخيمة، حتى قام أحد أهل البلد يؤذن للصلاة بأعلى ما أمكنه من جهد. راقني صوته الرخيم لكن حدته أذهبت عني النوم . أقبل السي محمد ليلقي علينا تحية الصباح، كان مرفوقا بخدوج التي أمسكتني من يدي، وتوجهت بي إلى «الحوش» حيث توجد النوايل، وحيث تحلقت حولي النساء يودعنني، ويطلبن مني أن أعود عبر سيدي البهيليل، لأزورهن مرة أخرى عند عودتي من مراكش. بعدها رجعت إلى المخيم في انتظار ساعة استئناف السفر. جلست أتأمل شاة كانت قد وضعت مولودها في تلك الليلة، كان الحمل ملتصقا بأمه ليأخذ بجانبها قسطا من دفء الشمس، وكان هناك كلب يحاول اﻻقتراب منه، لكن الشاة وبانحناءة من رأسها، كانت تتصدى له بالنطح، فيتراجع مدبرا خائفا.
عند الساعة السابعة والنصف غادرنا المكان، وكانت خدوج في منتهى اليأس؛ كانت تبكي، وكانت دموعها تبلل خديها ووجهها، فوعدتها بأنني سأعود لأراها. ومن أجل تخفيف حزنها حملها أبوها بين ذراعيه عله يهدئ من روعها. جلس الجميع ينظرون إلينا ونحن ننصرف، يرافقنا السي محمد أخ الشيخ في رحلتنا إلى مراكش، وبعض الصبية يتبعوننا مهرولين يلتمسون منا بعض النقود.
كانت السماء صافية، وحرارة الجو قد بدأت في الارتفاع، رغم أن برودة الليلة الماضية كانت متدنية وصلت حتى حدود الصفر . كانت حقول الشعير كالعادة جافة بفعل نذرة اﻷمطار. وكانت صخور ڴارة « وزرن » المسطحة تنتصب على يميننا، ونحن نسير في منطقة رملية من السهوب الجافة. أما في الجهة المقابلة لنا، فقد كانت ملامح اﻷطلس تخترق غبش الصباح، وتنجلي أمامنا بوضوح شيئا فشيئا . بعد أمد قصير أصبحت الطريق كثيرة الأحجار والحصى، بحيث كانت بعضها تدخل بين سنابك البغال وحوافرها. وعلى يميننا كانت تبرز هناك « نزالة » محاطة بالصبار، كما كان هناك قطيع من الغنم يبحث عن قليل من المرعى في أرض منبسطة حصباء، ينتشر فيها حجر صغير أبيض محمر يشبه الرخام. على يميننا يوجد دوار« أوﻻد نايل الشياظمة». كان أهل هذا الدوار يرتدون ثيابا زاهية اﻷلوان، ينهمكون في غسل ملا بسهم بضربها بأرجلهم وصب كثير من الماء عليها بين الفينة واﻷخرى، ويرددون في نفس الوقت أهزوجة تبث الشكوى بإيقاع رتيب. كانت جلاليبهم تجف تحت أشعة الشمس، وكانت الظفائر المتدلية من جوانب رؤوسهم تجعلهم يظهرون في شكل مخيف.
إنها الساعة التاسعة صباحا، الشمس حارة ،وحقول الحرث أكثر انتشارا في هذا البلد، بين الفينة واﻷخرى كانت المزاريب الجافة التي تحول عادة مياه اﻷمطار نحو الحقول تقطع الطريق. على اليمين «ابن جرير» وقطعان كثيرة من الغنم والماعز تتثير في وجوهنا كثيرا من الغبار وهي في طريقها نحو السوق . في الساعة الحادية عشرة كنا بمحاذاة « دوار الرڴيڴ »، بدأنا نقطع سهلا جافا، لاح لنا فيه عن بعد جملان يحملان الحطب، تخالهما ﻷول وهلة شجيرتين تمشيان الهوينى. من بعيد كانت ” نزالة العظم ” تبدو صغيرة كنقطة سوداء، وصلنا إليها عند الزوال، وتوقفنا لتناول وجبة الغذاء تحت الشجرة الوحيدة التي صادفناها خلال كل هذا الصباح، والتي لم تكن سوى سدرة قليلة اﻷوراق، كانت مصدر بهجة لنا بالرغم من شح ظلها. جاء بعض اﻷطفال والنساء يركضون نحونا يعرضون علينا البيض واللبن المنزوع الدسم في قلال صغيرة، لم أستطع أن أشرب منه شيئا لما علق به من أوساخ وشعر الدواب، أما جاك واﻵخرون فقد شربوا منه ما استطاعوا دون أن يهمهم ذلك. كانت النساء يلبسن « الخنت » وهو ثوب أزرق مربوط عند الكتفين بصفيحة معدنية، ويتمنطقن بحبل يشد وسطهن، ويغطين رؤوسهن بمنديل؛ كن يظفرن مع شعرهن خيوطا سوداء من الصوف تتدلى مع ظفائرهن، كما كن يزينن وجوههن بالوشم، فكن يظهرن على هيأة نساء البدو في جنوب الجزائر.
يمتد أمام أعيننا الآن سراب عجيب، يبدو كبحيرة زرقاء تحيط بها بعض الشجيرات، وحيثما وليت وجهك كان ذلك يوهمك بوجود برك عديدة تمتد الواحدة منها خمسين أو ستين مترا. كان الهواء حولنا حارا كأنه يغلي، فلم يجد السي محمد بدا في الجلوس تحت ظل جواده. عند الواحدة والربع حملنا أمتعتنا على الدواب واستأنفنا المسير. لم يعد لدينا ماء منذ هذا الصباح، ولن نحصل عليه إﻻ عند وصولنا إلى المحطة المقبلة خلال هذا المساء. كان السراب كمن يسخر منا، إذ كان يمنينا بالماء، و كلما دنونا منه كان يبتعد عنا، وكان هذا السراب وأعمدة الغبار التي يصعدها الهواء الحار واﻷرض العارية التي تمتد أمامنا توحي لنا بأننا في صحراء من اﻷرض مقفرة.
كان المكان الذي يحيط بنا يبعث اليأس والسأم؛ ﻻطير يطير، وﻻ نبات ينمو، وﻻ مارة يعبرون! لقد أخذ التعب من الرجال ومن الدواب كل مأخذ، وبدأ اﻻرتخاء والنوم يغالب أجسادهم. كان يترائى لنا أن رؤوس “الجبيلات ” تبتعد كلما اقتربنا منها، وأخيرا عند الساعة الخامسة مساء وصلنا «نزالة سيدي بوعثمان » وهي عبارة عن مجموعة من ” النوايل “، أقمنا خيامنا، ووجهنا مداخلها نحو ” الدوار “. تجمع بعض السكان أمامنا جالسين في صمت. بدأ الليل يزحف، وراحت قطعان اﻷغنام إلى حواظرها تثغو، وطلع البدر بهيا يكسو بضيائه قمم التلال فتبدو مهيبة في شموخ، و يظهر ” الدوار ” من تحتها متواضعا في سكون. وبات اثنان من رجال الحراسة مستندين إلى خيامنا، ملتفين في برنسيهما، وقضيا الليل كله وهما يثرثران بدون انقطاع…
يتبع
شكرا لك استاذي على هذه المساهمة الغنية التي تصور لنا بعض الجوانب من تاريخ المنطقة قبل عهد الحماية من خلال رؤية الأجنبي. ننتظر المزيد من هذا العمل الممتع