احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
لفور تنمية : مصطفى لغتيري
على بعد أمتار من التلفاز مخمد الأنفاس من مدة طويلة، منذ أن اتخذت قرارا بعدم تشغيله، كانت المرأة تغزل وحدتها على مهل، تنتظر بصبر أيوب أن يأتي الضيف القادم من أقصى الأرض محملا بعبق الغائب وأخباره، لعلها تعيد للذهن ذكرى فقدت ألوانها تدريحيا بفعل البلى، وما زالت مصرة على أن تنأى تدريجيا فلا تبدو منها غير ملامح باهتة كعلامات شباك الصيد، يتطلع إليها الصياد من البر فتنعش الأمل في نفسه للحظات، لكنها ما تلبث حركات المياه المضطربة أن تخفيها عن عينيها، فيخفي معها وجه الأمل، الذي كان قبل قليل يطل على استحياء بوجهه المرتبك..
رفعت المرأة رأسها نحو شاشة الحاسوب الجاثم بالقرب منها كحيوان أليف،لاحظت أنها تلقت رسالة، بلهفة فتحتها فقرأت:
– صباح الخير أيتها المرأة الطيبة. ابتسمت برقة، ثم ما فتئت أن انغمست في حيرة ترقبها من جديد..
فكرت أن ترد على التحية لكنها لمست ثقلا في يدها، فأجلت الرد إلى حين.. دق جرس الباب، حاولت كرد فعل طبيعي تلبية النداء والقيام من مكانها من أجل فتح الباب.. بيد أنها لم تستطع مغادرة مكانها، لقد داهما ثقل في أطرافها فلم تقو على تحريكها، لكن ما لبثت أن سمعت المفتاح يدار في القفل، انفتح الباب فظهر ابنها حاملا كتابا، توجه نحوها مبتهجا، طبع قبلة على جبينها، ثم اتخذ مقعدا له بالقرب منها، فسألته:
-هل من خبر جديد؟ ارتسمت على ملامحه سيماء الحزن ثم رد عليها قائلا:
-انسي يا أمي.. فالانتظار يضنيك.. نفس الوعد بالحضور تكرر بدون فائدة.
أفرجت المرأة عن زفرة حرى، مدارية دمعة ترقرقت في عينيها، لم تسمح لها بالظهور..لاحظ الفتى الحزن الذي طفق ينهش دواخل أمه كثعبان جائع، فحاول التخفيف عنها قائلا: – اليوم حفظت موشحا جديدا.. أحب أن تسمعيه. قاومت المرأة حزنها ثم قالت:
– تفضل يا فرحتي.. كلي آذان صاغية.
حمل الفتى العود، وبلطف حضنه كإنسان عزيزيخشى عليه الضرر، ثم ما لبثت فراشات مزرشكة أن حلقت في أجواء البيت ترصدتها الأم بعينيها الكليلتين، وحين ارتفع صوت غناء الفتى حركت الفراشات أجنحتها بقوة فخلفت في البيت نسائم، داعبت بلطف ملامح الأم الحزينة فكنست تدريجيا تعابير القلق من صفحة وجهها، واستلقت مكانها إلى حين بتلات فرح وليد.
تطلعت المرأة إلى شاشة الحاسوب ثم ردت:
– صباح الخير أيها الرجل الطيب.. أعتذر عن التأخير في الرد. ثم تماهت مع الذكري، وكأن أحداثها حية تعيشها اللحظة.. رأت نفسها تركض في مكان فسيح لا نهاية له، هكذا كانت تعتقد وهي شابة بأن أي مكان يحتويها فهو لا نهائي، ويمكن أن تقضي فيه العم ركله، دون حاجة لغيره، وكان هو يرقبها من بعيد، يتلصص عليها من طرف خفي، فيما هي كانت مدركة لعبته الصغيرة هاته، فجميع صويحباتها كن يعرفن حقيقته، وما إن يظهر إلى العلن حتى يتغامزن فيما بينهن ويتضاحكن بأصوات غير مسموعة، ثم يتفقن بشكل عفوي ودون كلمات بأن يتظاهرن بأنهن لم ينتبهن إليه، لكنهن جميعا وبالتوالي يسترقن إليه النظر محاولات تكوين فكرة عنه، ثم ما يلبثن أن يحاصرنها بتعاليقهن الطريفة، فتحمر لها خجلا، كن يحببن أن يقلن لها:
-ها فارسك قد حضر، لكنه للأسف بدون فرس.
يحرضنها على أن تسترق نظرة إليه، لكنها تخجل من فعل ذلك، فلا تملك حينذاك سوى أن تركض هاربة من هذا الوضع الحرج الذي وجدت نفسها محاصرة فيه.. تتبعها صويحباتها مبتهجات، فيما يحاول الفارس أن يتخذ له مكان أفضل بعد أن غيرت وصويحباتها المكان.
ظل الفارس على ديدنه مدة طويلة حتى كادت تيأس منه، بينما كانت هي تنتظر على أحر من الجمر أن يركب صهوة جرأته ويحدثها بكلمات مهما كانت بسيطة..
بينها وبين نفسها فكرت أن المانع من أن يتقدم نحوها ويكلمها ليس سوى هذا اللفيف من الصديقات اللواتي لا يفارقنها، فاختارت أن تتسلل يوما إلى المكان وحيدة، لعل ذلك يكسر جدار التردد الذي يمنعه من الاقتراب منها، فلم تتوان في تنفيذ فكرتها، قصدت الحديقة العمومية، التي يعرف أنها تتردد عليها باستمرار، وهناك اختارت مقعدا وجلست تنتظر بصمت وثبات، ولم يمض بعد من وقت حتى ظهر الفارس، يحمل شيئا غريبا لم تنتبه إليه سابقا..
بخطوات مرتبكة تقدم نحو المكان الذي يحتضنها، ثم ما لبث أن اختار مكانا غير بعيد منها وجلس.. بعد لحظات شرع يعالج ذلك الشيء الذي يمسكه، بحرص أخرجه من غشائه، فإذا به آلة موسيقية لم تر مثلها إلا على شاشة التلفاز..
أصابها ذلك بالحيرة، في نفسها تساءلت” ترى أنسي الفارس فرسه وامتطى صهوة آلته الموسيقية؟” وقبل أن تستفيق من شرودها كانت أنغام الموسيقى قد انفكت من قيدها وزحفت نحوها ببطء، ثم ما لبثت أن تقافزت كجراد جائع، لتكتسح المكان بأكمله ثم ما لبثت أن حلقت كسرب من السنونو المهاجرة.
طوقتها تلك الألحان من كل جانب ولم تنفلت منها إلا وهي في أحضان فارسها الهمام، فكانت ثمرتها هذا الفتى القاعد أمامها يرسم الفراشات من حولها بإيقاعاته الجميلة.
تطلعت المرأة من جديد إلى شاشة الحاسوب، تنتظر شيئا مجهولا، لا تدري طبيعته، خمت أنه قد يظهر في أي لحظة، فيما حفيف الفراشات ما يزال متواصلا، والذكرى تقطع مسافات ضوئية لتحط في أحضان تلك اللحظة المرتبكة، التي كانت تودع فيها فارسها بعد أن قرر السفر بعيدا بحثا عن لقمة العيش، اكتسحها لحظتها شعور غريب، أحست وكأنها تراه لآخر مرة في حياتها، رغم كلماته المطمئنة، وحين اختفى من أمام بصرها ليستقل الطائرة، داهمها إحساس بفراغ مقيت، اكتسحها من حيث لا تدري وطوح بها إلى عوالم لا تخطر للمرء على بال.
ما إن توقف الفتى عن ترانيمه الموسيقية حتى استفاقت من شرودها، محضت ابنها بابتسامة جذلى، ثم قالت له: – لا تغب عني أبدا مهما يكن السبب. عانقها الفتى، قبل جبينها، ثم قال: – أبدا لا أستطيع ذلك يا أماه.