OCP

الأستَاذُ والبَاحِث عبْد الوَاحد الرّاشدِي: “الدّولَة الوَطنيّة نَفسُها صَارَت مُجَرّد مُقاولَة ضِمنَ مُقاولاَت”

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فور تنمية

فِي زمَن “كُورونَا” عَادَت إلينَا بعضُ الأسئلَة الجوهريّة، التي شغلَت النهضويّين العَرَب بالأسَاس. ولعلّ أبرزَهَا ما اقترَن منهَا بمفَاهيم: الإنسَان، والإصلاح، والنّهضة، والحدَاثَة، في ارتباطَاتِهَا بالثنائيّات المفاهيميّة التي هيمنَت على الوعيِ العربيّ دهراً من الزمّن من قَبيل: الذّات والآخَر، الأصالَة والمعاصرَة، الدّين والعلم، الفرد والمجتمَع وغيرِهَا. في هذهِ المحادثَة مع الأستَاذ عبد الواحد الرّاشدِي، استَعدْنَا لصالحِنَا “أرشِيف” الإشكاليّة التي دارَت عليهَا أعمال مفكّرين كثر في السياق العربيّ الإسلاميّ، وهي إشكاليّة “التقدّم” والأطروحَات التِي انهجَسَت بهَا.
قادنَا الحَديثُ في عناصرِ هذه الإشكاليّة إلَى إلقَاء إطلاَلَة علَى مآلات الدّولة الوطنية هنا وهناك، حيث يرى الراشدي أن الأمْر وإن كان “تراجيديّاً” عندنا-إلى حدّ ما-، فإن مشتلها الغربيّ، تعرّض بدَورِه إلَى دمَار بعد أن تحوّل إلى “مقاولة” خاضعة لمتطلّبَات السّوق. وفي السياق عينه، وقفَ الأستاذ الراشدي عنْد الأعطَاب المجتمعيّة والتاريخيّة التي ماتزال تحول دون أيّ “إصلاَح” سواء تعلق بالدّين أو غيره، رادّا الأمر إلى استيلاء “الذهنيّة الحَديثيّة” (آل الحَديث) على كلّ شيء، وإمعانها في التغوّل باستعمالها لـ “استراتيجيّة الآخرة” مثلما قال الراشدي مستدعياً علي أومليل في هذا الصّدد، ليعرّجُ بنَا “التحادُث” إلَى “الوضع الإشكاليّ” لابن تيميّة في التاريخ الإسلاميّ، والتعالقات القائمَة في التاريخ عيْنه بيْن “الفقيه”، و”المحدّث”، و”الفيلسُوف”، وكيْف حسَم “المُحدّثَة” معركَة التّأريخ لصالحِهمِ، وأثَر ذلكَ علَى المسَار التاريخيّ لمجتمعاتنا.

نصّ الحوَار.

يُسعدُنا جدّا أن نستضيفَكُم أستاذ عبد الواحد الرّاشدِي فِي لقَاءَاتنَا الحوَاريّة، التِي دأبنَا عليْها منذُ بدَايَة “الحجْر الصحّي”، ونَنظُر إليْها كَمقَامٍ لاختبَار قُدرَتنَا بالأسَاس علَى ابتكَار أسئلَة معرفيّة نرَاهَا جوهريّة “اليَوم”، وتُسعِفُ علَى تَولِيد فَهم معقُول وعقلانيّ في الآن نفسِه لمَا نتعرّضُ لهُ ونَشتبكُ معهُ من قَضايَا وإشكَالاَت. كَيفَ ترَى أستَاذ الرّاشدِي وضْعَ الإنسانيّة في عصرنَا هذَا؟ هَل ثمّة حاجَة إلَى “إنسيّة جَديدَة ومغايرَة”، أم أنّهُ يَكفينَا أن نَسترجِعَ قيَم النزعَات التِي تَمحوَرَت حوْل “الإنسَان والحيَاة” لعلاَج أعطَابهِما ذاتّ الصّلَة بالعَصر ومفَاعيلِه؟

شكرا جزيلا لك
أجد صعوبة كبيرة، عندما تُطرح إشكالات نظرية عامة كالإيكولوجيا أو مابعدالحداثة أو كما هنا الإنسية، في التخلص من واقع أنني أنتمي إلى مجتمع متخلف حضاريا على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية وطبعا الثقافية. فالمجتمعات المتقدمة، هي كذلك لأنها سبق وأن تجاوزت كل المعضلات الواقعية والنظرية التي مازالت المجتمعات المتأخرة تتخبط فيها. لنأخذ مفهوم “الإنسية” الذي تفضلت به. تاريخيا، الإنسية رديفة حداثة القرن 18م، ما كان لهذا المفهوم أن يتأصل دون تجاوز “الظاهرة اللاهوتية” التي دامت قرونا في أوروبا، حيث غاب الإنسان وحضر الله. قد يقول قائل إنما الإنسية كانت موجودة قبل هذا التاريخ في التراث الإغريقي/الروماني، وأن ما فعله أقطاب التنوير لم يكن سوى عودة إلى هذا التراث! بيد أن المتمعن في الأمر سيدرك أن الأمر لم يكن عودة، بل إعادة صياغة هذا التراث الإغريقي/الروماني على أسس جديدة ما كانت لتخطر على بال أصحابه. وكل ذلك لمواجهة تراث لاهوتي قائم وجاثم على الضمائر والأجساد، لغاية التحرر منه.
وقد يقال نفس الأمر على التراث الإسلامي. وقد سبق لمحمد أركون أن درس “إنسية” القرن 4 هـ/10م وأخذ مسكويه كنموذج. لكنه أشار بوضوح إلى أن الأمر يتعلق ببوادر وبذرات لإنسية لم يكتمل نموها ولم تعط ثمارها. فما كان يفعله الكتاب حينها، مثل مسكويه والتوحيدي والجاحظ، الذين انصبوا على رصد قيم الإنسان بما هو كذلك خارج المنطق الديني؛ قد تمت مواجهته بمنطق أهل الحديث، وكان “كتاب المعارف” لابن قتيبة نموذجا لهذا النوع من الكتابة الأدبية الموسوم بما أسميه “الذهنية الحديثية”، التي انتصرت أخيرا وسادت على جميع الأصعدة، إلى الآن.
السؤال هنا لا يتعلق بأية إنسية، بل بالإنسية الحديثة L’humanisme moderne وإمكانية تجاوزها إلى “إنسية جديدة مغايرة”. لكن السؤال لا يُطرح بنفس الكيفية هنا وهناك. وهنا المعضلة !
المفارقة تكمن في أن الإنسية الحديثة التي لم تتأصل بعد في مجتمعنا، بسبب طغيان الظاهرة اللاهوتية عندنا؛ قد تم التراجع عنها عمليا في الغرب صاحب الأطروحة. لم تعد الإنسية هناك رديفا لقيم العدل والخير والسلام، بل تحولت إلى براغماتية جشعة، غايتها تحقيق مزيد من المصالح وليس سعادة الإنسان؛ وداروينية اجتماعية تسحق الضعفاء، وعلاقات دولية مبنية على القوة، والدولة الوطنية نفسها صارت مجرد مقاولة ضمن مقاولات. فيما المجتمعات المتأخرة تاريخيا مثل مجتمعنا، لم تستطع بعد تخليص نفسها، كما فعلت أوروبا القرن 18م، من تراث لا يترك مجالا لتبلور أية إنسية محتملة.
فكيف إذن في هذه الحالة يمكن الحديث عن “الإنسية” إلى ما يتجاوزها ؟
يجب التمييز هنا بين ما يقوله المنظرون، وما يجري في الواقع. لم يعد للمنظرين في الغرب تأثير على مجريات الأمور، بل المقاولات الكبرى التي رهنت “الدولة الوطنية” ضمن استراتيجياتها الخاصة. وكما لاحظ ريجي دوبري Régis Debray (في ” le code et le glaive” )، فإن الكل تخلى عن “المبدإ الجمهوري” le principe républicain الإنسي humaniste والكوني universel وليد تجربة الأنوار، لصالح الدولة الوطنية L’Etat-Nation “الخصوصية” والهوياتية، التي غايتها التوسع والاستغلال.
إن المجتمعات، في عالم اليوم، ليست مختلفة في ما بينها فقط، بل متفاوتة تاريخيا (Décalage historique). ومحض وجود هذا التفاوت دليل على أن الإنسية لم تتحقق بالكامل على المستوى الكوني. فيكون السؤال بالتالي ليس بحثا عن إنسية مغايرة أو جديدة، بل في تحقيقها.
في مجتمعنا والمجتمعات التي تشبهنا، والتي لم تتخلص بعد من تراثها الأسطوري ومن أنظمتها العتيقة، يُطرح السؤال حول إمكانية تأصيلها نظريا وتفعيلها عمليا حتى تصير هي المؤطر لكل نظر وعمل، ينطلق من الإنسان لينتهي إليه.

الظّاهر أستَاذ الرّاشدِي أنّ وَضْعِ “الإنسَان” فِي السيّاق العربيّ والإسلاميّ وضعٌ معقّد، وفِي سيَاقٍ شبيهٍ به يفرزُه ويتشكّل من خلالِه. زادَ الاصطدَام بـ “الآخَر القويّ” الوضْعَ تَعقيداً؛ لاسيّما أنّ ذلكَ لَم يَدفع أهلهُ نَحو الإصلاَح الجذريّ لنُظمِه الثقافيّة والسيّاسيَة، بَل ربّمَا كانَ ذلكَ دافعاً رئيساً لهُ ليَنكَمشَ حوْلَ نفسِهِ ويَدُور حول ذاتِه. هَل حقّاً مَا يَزالُ مَفهُوم “الإنسَان” فِي سيَاقنَا بَتولاً (عذريّا)، طالمَا أن هذَا السيّاق ما زالَ مَحكوماً بِرؤَى “قروسطيّة” (مثلمَا ألمحْت إلى ذلكَ) تَنتصِبُ مانعاً اسمنتيّاً أمَام أيّ محاولاَت فكريّة طلاَئعيّة لترجَمة الإنسَان إلَى لغَات الحدَاثَة، حيْثُ الحَديثُ عَن مفاهِيم: الفَرْد، والذّات، والشّخْص، والمُواطِن؟ وأيّها المدَاخلُ الأكثَر أهميّة لبنَاء الإنسَان تبعاً لهَذهِ الترجمَة، هل هيَ المدَاخل السيّاسيَة، أم الثقافيّة، أم الاقتصاديّة، أم أنّ لا قيَام للإنسَان المُواطِن (الفرد، الشخص، الذات) إلاّ بالنّهُوض بهَا مجْتمعَةً؟

عندما أشرتُ إلى التفاوت التاريخي، فلأني أرى أن الغرب يدفعنا دفعا إلى الانكماش على الذات بدعوى المغايرة والاختلاف، أي الإبقاء على مستوى من الثقافة توقف منذ قرون، ويريد الغرب أن يجعله سمة دائمة لنا. هذا الأمر لاحظه الكثيرون. لكن، لصالح من؟ حتما ليس لصالح الشعوب الغربية التي بدورها تعاني من جشع المقاولات الكبرى، التي دجّنت السياسيين وحولتهم إلى مجرد سماسرة، وهم المفروض فيهم حمل لواء الإنسية والدفاع عنها.
طبعا، لا يسع المتصفح للتراث الإسلامي إلا الإقرار بأن مفهوم الإنسان قد بدأ في التبلور انطلاقا من القرن 4هـ/10م مع المتكلمين والأدباء والفلاسفة، لكنه توقف حيث بدأ ! وهنا يجب الاعتراف بأنه لا يمكن لوم الظروف الخارجية كما الآن.
إننا نتكلم الآن عن مفهوم الإنسان بعد أن تبلور وصار معيارا. لكن ليس في “ديار الإسلام”، وهنا المعضلة ! الرفض كان عاما، لا ينصب على ما قاله الغرب حول الموضوع بل حتى على ما سبق أن قاله الإسلاميون خارج نطاق الدين.
ما الإنسان؟ عندما ترى التعاريف التي أعطيت للإنسان منذ عهد الإغريق إلى الفلسفة المعاصرة، ستقف على بؤرة يتفق عليها الجميع وهي أن ماهية الإنسان، جوهره، أنه حر قادر مريد واع بذاته، أي أنه كائن تاريخي وليس كائنا طبيعيا مثل باقي الكائنات. يبقى السؤال فقط في كيف يكون الإنسان إنسانا؟ هل داخل الطبيعة الإنسانية، أي مجموع الفضائل كما عند الإغريق أم خارجها كما عند نيتشه؟ ما أبعدنا هنا عن التصور اللاهوتي المسيحي في القرون الوسطى، وعن التصور الإسلامي الذي آل إلينا بعد عصر الانحطاط على يد المحدثين. الإنسان مخلوق، وجوهره العبودية لله، وكل “عقله” وفعله وإحساسه يجب أن يسير في طريق تحقيق هذه العبودية اللاهوتية التي هي الفطرة التي فُطر عليها، وكل ما سواها ليس إلا انحرافا وجب تصحيحه.
طبعا استطاع المتكلمون الأوائل، والفلاسفة من بعد تجاوز هذا التعريف إلى مجال أوسع يأخذ في الحسبان ماهية الإنسان بما هو كذلك، لا من حيث الاعتقاد الديني، وذلك حتى يستطيعوا مناظرة من هو خارج الملة الإسلامية. لكن هذه المحاولات ظلت جنينية، وتم قمعها بقوة الدولة، ليعود النظر في مفهوم الإنسان إلى ذلك المستوى البدوي الساذج الذي انطلق منه الإسلام وظل متقوقعا فيه، وغير قادر على إنتاج نظرية حول الإنسان تضاهي ما نراه من نظريات في عالم اليوم.
المطلوب إذن هو التجاوز التام لهذا المستوى من النظر القاصر، ومدارسة النظريات الحديثة حول الموضوع. إذ التجاهل لا ينتج معرفة أبدا. يُستعمل مفهوم الفرد في مقابل بنية جماعية، والشخص في مقابل المجتمع، والذات في مقابل الموضوع، والمواطن في مقابل الدولة. وكلها أوجه تحيل على مفهوم الإنسان منظورا إليه من خلال ميادين متعددة: تاريخيات، اجتماعيات، معرفيات، فلسفة، سياسة.. إلخ. فلا يجوز القول إن البدء يجب أن يبدأ من هذا قبل ذاك. إذ الأمر يتعلق بتأصيل مفهوم الإنسان أساسا، ككائن حرّ وبما هو كذلك فهو كائن تاريخي.

كَتبْتُم خلالَ الأيّام الأخيرَة تَدوينَات جَديرَة بالتأمّل السّي الراشدِي، وتتّصِل بِتمييزَات منسيّة أحياناً تتعلّق بدلالاَت الفَقيه من نَاحيَة، والمُحدّث من نَاحيَة ثانيَة. الظّاهِر ومِثلمَا ذهَب إلَى ذلك عَلي أومليل أنّ الفيلسُوف في المَغرِب أَسْلَم مقَاليدَ الإصلاَح إلى الفَقيه، والظّاهِر أنّ الفَقيه بَدَورِه اصْطَدَم بعقبَة المُحدّث، وأنّ المُحدّث هوَ المُحرّك السرّي لتَاريخِ الإسلاَم بعْدَ أن أمسَى “سُلْطَة تُرَاثيّة” مُهيمنَة أزاحَت بمعنَى من المعَانِي حتّى “سلطَة النصّ” (القرآن) نفْسِه. كيْفَ تروْن العلاقَات بيْن “الفيلسُوف” و”الفَقيه” والمحدّث” في صِلَتهَا بمسألَة الإصلاَح؟

إذا كان المقصود هو الإصلاح الديني، فلن يقوم به المحدث ولا حتى الفقيه في صورته الحالية. لأن المحدث قديما وحديثا ضد أي إصلاح كيفما كان. فالإصلاح يتطلب “عقلا”، لكن هذا الأخير محصور في “النص” عند المحدث. الواقع الاجتماعي/التاريخي نفسه يجب ألا يتجاوز منطوق النص وإلا صار بدعة وجبت محاربتها. وهنا يختلف الفقيه –في الأصل- عن المحدث. فالفقيه يحاول عبر أقيسته أن يلائم الأحكام مع النوازل المستجدة أي مع الواقع ( “جل الأحكام الشرعية مبني على العرف، وما كان مبنيا على العرف اطرد باطراده وانعكس بانعكاسه”)، وعلى العكس من ذلك تماما، يصرّ المحدث على الانطلاق من النص (الأثر) قبل الواقع (النازلة)، ويفعل كل ما في جعبته لكبح هذا الواقع حتى لا يتجاوز كثيرا منطوق النص.. عبثا.
يستعمل المحدث ما أسماه ع. أومليل “استراتيجية الآخرة”، أي أنه يحكم على أي شيء من خلال وضعه وموقعه في الآخرة، كما لو كان المحدث يستطيع أن يضع نفسه في عالم الملكوت الأعلى ويصدر أحكامه من هناك.. !
والجدير بالذكر هنا، أن الفقيه اليوم لم يعد يلجأ إلى القياس كما كان يفعل أسلافه، بل انطوى عمله تحت جبّة المحدث، حيث غاية ما يصل إليه هو تحويل اجتهادات الفقهاء الأربع إلى نصوص يتعامل معها كما يفعل المحدث. وهذا الموقف النظري هو الكابح الأكبر للمجتمع في التغيير والإبداع والتقدم.
بيد أن مسار الواقع التاريخي ليس رهنا بهذا الموقف ولا يتوقف عليه، لأن له ميكانيزمات خاصة به، تفترض فقها جديدا يتجاوز مناهج التراث جملة، ويتبنى علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، إذا ما أراد الفقيه أن يكون له صوت في المجتمع الحديث. فيما يعود المحدث إلى وظيفته الأولى: حفظ الآثار وفوق ذلك، غربلتها وتنقيحها مما شابها من خزعبلات. ألم يكن المحدثون قديما، يُسمّون “حفاظا”؟ دون ذلك، سيبقى المحدث والفقيه ومجتمعهما على هامش التاريخ، وستظل اعتقاداتهم في مستوى اعتقادات الشعوب البدائية التي تدرسها الإثنوغرافيا.

سبَق لك أستَاذ الرّاشدِي أن عُنيت بكتابَات ابن تيمية، وهوَ الذِي بَاتَ في الآونَة الأخيرَة مثَار جَدل حتّى بيْن “آل الفلسفَة”. فهل ترى فيه السّي الراشْدِي “مُحدّثَا”، أم “فقيهاً”، أم “فيلسُوفا”، أم يُمكِن أن نلتَقِي في كتَابَاتِه بشخصيّة متعدّدَة الأبعَاد حتّى ليُمكِن القَول بشأنِها –علَى غرَار ما قيلَ عَن الغزَالي- من كوْنِه “فيلسُوف بيْنَ الفلاسفَة”، و”فقيهٌ بَيْن الفقهَاء” “ومُحدّث بَيْنَ المحدّثَة”؟ وأيّ الأَبعَاد المُشكّلَة لشخصيّة ابن تيميّة امتدّت وتغلغلَت؟ وإنْ غلبَت شخصيّةُ “الفَقيه” و”المُحَدّث” شخصيّة “الفيلسُوف” فأليْس “ابن تيميّة” نفسُه بَراءٌ من ذلكَ، طالمَا أنّ اغتيَال “البُعْد الفَلْسفيّ” (لاسيّما قيّم مُراجعَاتِه للمنطِق الأرسطيّ) فِي شَخْصيِّتِه كانَ أمراً طَبيعيّاً فِي ظلّ ما سبَقَ أن ذكرْنَاهُ بشَأن طبيعَة العلاَقَة بين: “الفلسفَة”، و”الفِقْه”، و”الحَديث”؟

ليست المسألة عند ابن تيمية في تعدد اشتغالاته: منطق، فلسفة، فقه… بل في الإشكالية التي يقف عليها والموقف النظري الذي ينطلق منه. ففي زمانه (القرن 7/8هـ، 13/14م) كان الأمر قد فُرغ منه، واستقر الوضع لأصحاب الحديث. لم يجد ابن تيمية أمامه الغزالي الذي أوصى باعتماد المنطق في أصول الفقه، ولا ابن حزم الذي فعل الشيء نفسه بخصوص المنطق ولا ابن رشد ولا حتى المتكلمين على شاكلة الأوائل، بل وجد الحنابلة والمحدثين، حيث أن ابن حنبل يُعدّه كثير من أهل النظر محدثا لا فقيها، وهؤلاء كان قد خلا لهم الجو العام، فسادوا سيادة مطلقة على الفكر الإسلامي، فتحجّر… ليس ابن تيمية فيلسوفا بين الفلاسفة، ولا فقيها بين الفقهاء، كما يُدّعى؛ بل هو منظر أهل الحديث بلا منازع. لأنه يقف على الأرضية الحديثية نفسها. أي اعتماد الخبر/ الأثر/ النص قبل النظر في أي موضوع كيفما كان. وكان من الممكن أن يتحدث حتى في البيولوجيا دون أن يغير ذلك من الأمر شيئا ولا أن يجعل منه ذلك عالما بيولوجيا.
لننظر إلى موقفه من المنطق، كما دققه ع.العروي في “مفهوم العقل”. ولنتمعن في معنى عنوان كتابه “نقض المنطق” ! إن الأمر لا يتعلق بنقد معرفي critique، بل بالنقض destruction أي التقويض والهدم. كيف تسنى له ذلك؟ في مسألة يعرفها المناطقة القدامى من زمان، من اعتبار أن معرفة الكليات les universelles لا تغني عندما نريد معرفة أعيان الأشياء، وأن هذه الأخيرة لا تدرك حقا إلا بالاستقراء، وبما أن الاستقراء لايمكن أن يكون تاما شاملا، فلا حاجة لنا به ولا بالمنطق؛ إذ الخبر (الأثر/النص) يكفينا. فلو أراد الله لنا معرفة كل أعيان الأشياء لأخبرنا بذلك !! وهكذا نعود إلى النص عوض الاقتناع بما ندركه عن طريق الاستقراء وإن كان غير تام.
وفي ميدان “الألوهية”، وهو فرع من فروع الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية: الإلهيات، فنجد أمورا غاية في الغرابة. يسير ابن تيمية على خطى أهل الحديث في اعتبار “الحد للذات الإلهية”، أي أن الله جالس قاعد على عرشه، وأن له يد وعين وجسم محدود، وأنه تعالى ينزل من على عرشه إلى عبده، كما ينزل ابن تيمية من على منبر الجمعة، كما حكى ذلك عنه ابن بطوطة في رحلته إلى بلاد الشام ! أين هذا مما كان يُنظّر له المتكلمون الأوائل والفلاسفة من الكندي إلى ابن رشد؟؟ هذا التصور اللاهوتي هو ما ورثناه لحد الآن، ولا فرق بينه وبين آلهة الوثنيين والشعوب البدائية. أين الفلسفة في كل هذا وهي التي تنظر في الحدّdéfinition وفي حد الحدّ أي المفاهيم الأساسية؟
لاحاجة لنا في سرد موقع ابن تيمية في الفقه. فلا موقع له خارج أهل الحديث من الحنابلة. كل فتاويه الكثيرة مبنية على منهجية أهل الحديث، من ردّ كل النوازل إلى النص، عوض النظر إلى النوازل وقياس النص عليها. لذلك لم يخلف ابن تيمية منهجا فقهيا يعتمد أقيسة نوعية ومسطرة مضبوطة، بل صار كل من يسير على هداه قادرا على الإفتاء حتى دون أن يدري الواقع الذي يفتي فيه. إذ يكفي حفظ النص وإرجاع الواقع إليه، وإذا عاكس هذا الواقعُ النصَ، فيجب مواجهته لا فهمه. وهذا ما يفسر كثرة المفتين في زماننا هذا وكثرة المتطرفين !

معَ “كُورُونا” تأكّد من جَديد أهميّة “العلْم” و”العقلانيّة العلميّة” فِي تربيَة الشّعُوب والمجتمعَات، ولقَد سبَق للجابرِي أَن ذَكَر أنّ مَقَام العِلْم في أُوروبّا شغَلتهُ السيّاسَة في تاريخنَا الإسلاميّ، بل إنّ هويّة “العالِم” نَفسِها لَم تكُ واضحَةً، وخَضَعَت لـ “غربَال عقديّ” فِي غالِب الأحيَان، بِحيْث يُؤطّر “الشّرعُ” “شريعَة العلم”. فِي نَظرِك أسْتاذ الرّاشدِي، هَل بإمكَان الثقَافَة العلميّة أن تنشَأ وتَصيرَ قائمَة الأرْكَان، فِي ظلّ ثَقَافَة دينيّة مُهمينَة؟ ما رأيُك مثلاً في الجُهُود الكَبيرَة التي بَذَلَها مُصلحُون كِبَار من قَبيل محمّد عبده مثلاً في التّقريبِ بيْنَ “الدّين” و”العلْم”؟

تجدر الإشارة إلى أن العلم المقصود هنا هو “العلم الموضوعي” Science objective وليس علم الفقهاء والمتكلمين. يتلاعب الإسلاميون بالاشتراك في اللفظ ليوهموا الناس أن العلم هو نفسه وأن الاختلاف هو فقط في التخصص. في حين أن العلم لا يكون كذلك إلا إذا تخلص من مقدماته الدينية والفلسفية والإيديولوجية، فيفرض نفسه على الجميع مهما تكن مللهم ونحلهم، ومهما يكن الموضوع المدروس، طبيعة مجتمع أو نصّ. ولهذا السبب كانت الكتابات الكولونيالية الفرنسية تسمي “العلماء” عندنا Oulémas عوض Savants. لأن الأمر واضح: لا يمكن لمن ليس على ملة المسلمين قبول مقدمات الفقهاء والمحدثين كمقدمات عقلية ضرورية خارج النص الديني.
يخبرنا تاريخ العلم بأن إرهاصاته كانت موجودة من قديم في جلّ الحضارات. ولا حاجة هنا لذكر الاكتشافات الكبيرة للعلم في الحضارة الإسلامية وحتى في العصور الوسطى المسيحية المتأخرة، وقبل ذلك في الصين واليونان. بيد أنه كان منطويا داخل منظومات عقائدية كانت تحدّ كثيرا من انطلاقه. لم يستقل العلم ويتحول إلى معرفة قائمة الذات إلا انطلاقا من القرن 17م (بليز باسكال)، ليقف في مواجهة الدين والفلسفة معا. فبدا كثير من الاعتقادات الراسخة محل شك وارتياب، فحصل الصراع المعروف بين الدين والعلم. وهو الصراع الذي انتقل إلينا وإن كنا لا ننتج أي علم موضوعي. لأن الاعتقادات الدينية هنا وهناك تحمل حجتها في ذاتها فيما العلم يطالب دائما بحجة خارجية: تجربة مخبرية أو برهان عقلي رياضي.
إن القول بأن الدين والعلم متصالحان في الإسلام مجرد وهم يدغدغ المشاعر. لو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى هرطقات “الإعجاز العلمي في القرآن”، ولا إلى كل محاولات ليّ أعناق النصوص الدينية لتستقيم مع استنتاجات العلوم. فمجرد التوفيق بين الدين والعلم دليل على عدم توافقهما.
هناك نكتة علمية تاريخية، أشار إليها الجابري مرة، تتعلق بانتقال الرشدية إلى العالم اللاتيني في القرن 12م. من المعروف بأن ابن رشد قال بوجود حقيقة واحدة نتوصل إليها إما عن طريق الشرع أو عن طريق الفلسفة (فصل المقال). لكن اللاتين فهموها على أساس أن المقصود هو وجود حقيقتين: واحدة إيمانية دينية والثانية عقلية فلسفية (نظرية الحقيقتين). بيد أن هذا “الخطأ” في الفهم كانت له نتائج غاية في الأهمية. إذ قالوا إن كلا الحقيقتين صائبة وإن تعارضتا، إذ الأولى نتوصل إليها بالإيمان والإيمان يكفيها؛ والثانية نتوصل إليها بالعقل وهو مادة الجدل والمثابرة. فانفتح الباب في ما بعد لنشوء المعرفة العلمية التي نعرفها اليوم والتي صدمت العقل الإسلامي الذي ظل متمسكا بالحقيقة الواحدة المطلقة المضمنة في النصوص، والأدهى أنها نصوص حديثية.
لاحاجة للتوفيق بين الدين والعلم في هذا المنظور. فلا الدين بقادر على التخلص من مقدماته الأساسية ولا العلم ينتظر ذلك أو يلتفت إليه ولا أحد يستطيع إيقاف تقدمه المطّرد. فحتى النصوص الدينية خاضعة للدراسة العلمية الموضوعية خارج منطوق الدين.
ليس علينا أن نخترع العجلة من جديد. لقد سبقتنا أمم أخرى في معالجة هذه الإشكالات النظرية ووجدت حلّها في مواكبة العلم الحديث بكل ما له وما عليه، لأن نتائجه ضرورية لحياة المجتمع مهما تعارضت مع الاعتقادات السائدة. هذه الضرورة لا يُؤمّنها عندنا “علم” الفقهاء والمحدثين.

بوِدّي أن أختِم معَك السّي الراشدي، بمسألَة لطَالَما اعتقدتُها جوهريّة فِي أيّ نظَر في مسَائل الإصلاَح، والنهضَة، والحداثَة، وهيَ مسألَة التربيَة بمعنَاهَا العام. يَكفِي أن نتأمّل جيّدا رمزيّة حضورِهَا وهيمنَتِهَا علَى أفُق وواقِع “الإيديُولوجيّات الدّينيّة” (الإخوان المسلمُون، العدل والإحسَان مثلاً)، بوصفهَا المشْتَل الذِي يتعهّد الزرْعَ المُراد حصَادُه في النّهايَة. بالنّسبَة لكُم ألاَ تَعتقدُون أنّ من بيْن الأمُور التِي غابَت عن جَدول أعمَال الحداثَة العربيّة والمغربيّة هيَ العنَايَة بمسألَة التربيّة، بوصفهَا عمَاد أيّ مَشروع فكريّ نهضويّ؟ وألاَ تعتقِد أنّ “الدّولَة” –نظَام الحُكم تَحديداً- وفِي سيَاق اسْتراتيجيّاتهَا للاستفَادَة من الصّرَاع بيْن فرقَتَي “الإسلاميّين” و”الحداثيّين” تَزيدُ سيَاسَاتُها التربويّة المتردّدَة بيْن “الأصالَة” و”المعَاصرَة” فِي تَقويَة شَوكَة الفرقَة الأولَى؟ لنَنتَبِه أنّهَا (فرقَة الإسلاميّين) تتَوفَر علَى أوعيَة تربويّة متفشّيَة في المجتمعَ عبر قنوات عديدَة، تَمتحُ مشروعيّتَها من تقدّمهَا إلى هذا المجتمع وأعضائِه بوصفهَا “حارسَا” للقيَم (التي تراها سامية) ومُدافعاً شَرساً عنْهَا ضدّ مَا تعتبرُهُ مسّاً يَطَالُها، حتّى، وإنْ كانَت الجهَات الرسميّة نفسُهَا وراءَه، (مهرجانات، قنوات، سياسَة ترفيه وتتفيه عامة)، فَيُظهرُها “الدّفاع ذاك” في مظهَر بُطُوليّ نوعاً ما، ويُربحُها نقاطاً ومواقع متجذرة في المُجتمع (وَيكْفي أن تأمّل بعْض الأحدَاث الأخيرَة، التي كانَت منصّات التوَاصل الاجتماعيّ مسرحاً لهَا، لنُدركَ أنّ ثمّة “ذهنيّة عُدوانيّة” سَتكُون “حيطاناً اسمنتيّة” أمامَ أي طموحَات نهضويّة مستقبلاً)؟ كيْف تنظرُ السّي الراشدِي إلَى الأمر؟

سأشير إلى أمر قد يبدو بعيدا شيئا ما عن الموضوع. روى ع.العروي أنه أشار على المهدي بنبركة بضرورة التكوين الثقافي لتوضيح المفاهيم بما يسمح بضبط الواقع واستشراف المستقبل. وفي السبعينيات كان عمر بن جلون قد طالب بأن يكون للاتحاد الاشتراكي هيكل أو مدرسة لتكوين الأطر الحزبية القادرة على مباشرة تدبير الشأن العام مستقبلا. وفي كلتا الحالتين تمّ إهمال الموضوع. في الحالة الأولى بدعوى أن الوقت لم يحن بعد، وفي الثانية ذهب المطلب أدراج الرياح. ليس بسبب التهاون كما قد يتبادر إلى الذهن، بل بسبب أعمق: عدم إعطاء مسألة التربية والتثقيف أهميتها القصوى في مجتمع شبه أمي غارق في التقليد. واستبدال التربية بالالتزام الحزبي الذي يؤول في النهاية إلى الاصطفاف العشائري كما يوحي بذلك النظام القبلي العتيق.
هل انتهى هذا الأمر؟ لا، مازال الوضع على ما هو عليه إن لم يكن ازداد سوءا بسبب تشتت اليسار.
التربية في مجتمعنا المتخلف تعني الانضباط، أي السير على هدى الجماعة: أسرة، عشيرة، نقابة، حزب..إلخ. في هذا السياق، كل من هو منضبط لا يحتاج إلى تربية. والعجيب أننا نلاحظ أن الجميع يشترك في هذا الموقف سواء كان حداثيا أو إسلاميا. وسرّ نجاح الإسلاميين في هذا الأمر لا يعود إلى تعدد قنواتهم الاجتماعية فحسب، بل إلى استثمارهم لهذه الذهنية العتيقة المتحكمة في العقول والأجساد. وضعية وجدوها جاهزة منذ قرون فاستغلوها بسهولة، وليس من مصلحتهم تغييرها. وطبعا هذه الوضعية هي تجسيد لتخلفنا الدائم.
المشكلة عند الحداثيين أعوص. فرغم تعدد الدراسات الحديثة حول أهمية التربية والتكوين الثقافي، مازال الحداثيون، واليسار ضمنهم، يمانعون في أخذها مأخذ الجد، ويتعاملون معها مناسباتيا، عوض وضعها كاستراتيجيا ذات أولوية قصوى. والمشكلة تكمن في أن عليهم مواجهة ثلاثة واجهات في الآن نفسه: الأيديولوجيا الدينية عند الإسلاميين، وإيديولوجيا الدولة المخزنية العتيقة، والوضع الثقافي التقليدي في المجتمع.
كيف لا نفهم الآن عجز اليسار عن الوحدة؟ ألا يبدو أن الأمر يؤول في النهاية إلى الوضع الثقافي، أي إلى التربية بمعناها العام؟ كيف يمكن الاضطلاع بالتغيير إذا كانت الوسائل الذهنية عتيقة؟ التربية اليوم تعني تفجير طاقات الإنسان الإبداعية، والتفتح العقلي بطرح الأسئلة الأساسية دائما، وممارسة النقد بمساءلة كل البديهيات.. فهل الأحزاب اليسارية عندنا قادرة على هذا؟
هناك أمل.. لكنه في الظروف الراهنة، يستطيع أن يتحول بسرعة إلى..سراب !

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.