الأستَاذُ والبَاحِث عبْد الوَاحد الرّاشدِي: “الدّولَة الوَطنيّة نَفسُها صَارَت مُجَرّد مُقاولَة ضِمنَ مُقاولاَت”
فور تنمية
فِي زمَن “كُورونَا” عَادَت إلينَا بعضُ الأسئلَة الجوهريّة، التي شغلَت النهضويّين العَرَب بالأسَاس. ولعلّ أبرزَهَا ما اقترَن منهَا بمفَاهيم: الإنسَان، والإصلاح، والنّهضة، والحدَاثَة، في ارتباطَاتِهَا بالثنائيّات المفاهيميّة التي هيمنَت على الوعيِ العربيّ دهراً من الزمّن من قَبيل: الذّات والآخَر، الأصالَة والمعاصرَة، الدّين والعلم، الفرد والمجتمَع وغيرِهَا. في هذهِ المحادثَة مع الأستَاذ عبد الواحد الرّاشدِي، استَعدْنَا لصالحِنَا “أرشِيف” الإشكاليّة التي دارَت عليهَا أعمال مفكّرين كثر في السياق العربيّ الإسلاميّ، وهي إشكاليّة “التقدّم” والأطروحَات التِي انهجَسَت بهَا.
قادنَا الحَديثُ في عناصرِ هذه الإشكاليّة إلَى إلقَاء إطلاَلَة علَى مآلات الدّولة الوطنية هنا وهناك، حيث يرى الراشدي أن الأمْر وإن كان “تراجيديّاً” عندنا-إلى حدّ ما-، فإن مشتلها الغربيّ، تعرّض بدَورِه إلَى دمَار بعد أن تحوّل إلى “مقاولة” خاضعة لمتطلّبَات السّوق. وفي السياق عينه، وقفَ الأستاذ الراشدي عنْد الأعطَاب المجتمعيّة والتاريخيّة التي ماتزال تحول دون أيّ “إصلاَح” سواء تعلق بالدّين أو غيره، رادّا الأمر إلى استيلاء “الذهنيّة الحَديثيّة” (آل الحَديث) على كلّ شيء، وإمعانها في التغوّل باستعمالها لـ “استراتيجيّة الآخرة” مثلما قال الراشدي مستدعياً علي أومليل في هذا الصّدد، ليعرّجُ بنَا “التحادُث” إلَى “الوضع الإشكاليّ” لابن تيميّة في التاريخ الإسلاميّ، والتعالقات القائمَة في التاريخ عيْنه بيْن “الفقيه”، و”المحدّث”، و”الفيلسُوف”، وكيْف حسَم “المُحدّثَة” معركَة التّأريخ لصالحِهمِ، وأثَر ذلكَ علَى المسَار التاريخيّ لمجتمعاتنا.
نصّ الحوَار.
يُسعدُنا جدّا أن نستضيفَكُم أستاذ عبد الواحد الرّاشدِي فِي لقَاءَاتنَا الحوَاريّة، التِي دأبنَا عليْها منذُ بدَايَة “الحجْر الصحّي”، ونَنظُر إليْها كَمقَامٍ لاختبَار قُدرَتنَا بالأسَاس علَى ابتكَار أسئلَة معرفيّة نرَاهَا جوهريّة “اليَوم”، وتُسعِفُ علَى تَولِيد فَهم معقُول وعقلانيّ في الآن نفسِه لمَا نتعرّضُ لهُ ونَشتبكُ معهُ من قَضايَا وإشكَالاَت. كَيفَ ترَى أستَاذ الرّاشدِي وضْعَ الإنسانيّة في عصرنَا هذَا؟ هَل ثمّة حاجَة إلَى “إنسيّة جَديدَة ومغايرَة”، أم أنّهُ يَكفينَا أن نَسترجِعَ قيَم النزعَات التِي تَمحوَرَت حوْل “الإنسَان والحيَاة” لعلاَج أعطَابهِما ذاتّ الصّلَة بالعَصر ومفَاعيلِه؟
شكرا جزيلا لك
أجد صعوبة كبيرة، عندما تُطرح إشكالات نظرية عامة كالإيكولوجيا أو مابعدالحداثة أو كما هنا الإنسية، في التخلص من واقع أنني أنتمي إلى مجتمع متخلف حضاريا على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية وطبعا الثقافية. فالمجتمعات المتقدمة، هي كذلك لأنها سبق وأن تجاوزت كل المعضلات الواقعية والنظرية التي مازالت المجتمعات المتأخرة تتخبط فيها. لنأخذ مفهوم “الإنسية” الذي تفضلت به. تاريخيا، الإنسية رديفة حداثة القرن 18م، ما كان لهذا المفهوم أن يتأصل دون تجاوز “الظاهرة اللاهوتية” التي دامت قرونا في أوروبا، حيث غاب الإنسان وحضر الله. قد يقول قائل إنما الإنسية كانت موجودة قبل هذا التاريخ في التراث الإغريقي/الروماني، وأن ما فعله أقطاب التنوير لم يكن سوى عودة إلى هذا التراث! بيد أن المتمعن في الأمر سيدرك أن الأمر لم يكن عودة، بل إعادة صياغة هذا التراث الإغريقي/الروماني على أسس جديدة ما كانت لتخطر على بال أصحابه. وكل ذلك لمواجهة تراث لاهوتي قائم وجاثم على الضمائر والأجساد، لغاية التحرر منه.
وقد يقال نفس الأمر على التراث الإسلامي. وقد سبق لمحمد أركون أن درس “إنسية” القرن 4 هـ/10م وأخذ مسكويه كنموذج. لكنه أشار بوضوح إلى أن الأمر يتعلق ببوادر وبذرات لإنسية لم يكتمل نموها ولم تعط ثمارها. فما كان يفعله الكتاب حينها، مثل مسكويه والتوحيدي والجاحظ، الذين انصبوا على رصد قيم الإنسان بما هو كذلك خارج المنطق الديني؛ قد تمت مواجهته بمنطق أهل الحديث، وكان “كتاب المعارف” لابن قتيبة نموذجا لهذا النوع من الكتابة الأدبية الموسوم بما أسميه “الذهنية الحديثية”، التي انتصرت أخيرا وسادت على جميع الأصعدة، إلى الآن.
السؤال هنا لا يتعلق بأية إنسية، بل بالإنسية الحديثة L’humanisme moderne وإمكانية تجاوزها إلى “إنسية جديدة مغايرة”. لكن السؤال لا يُطرح بنفس الكيفية هنا وهناك. وهنا المعضلة !
المفارقة تكمن في أن الإنسية الحديثة التي لم تتأصل بعد في مجتمعنا، بسبب طغيان الظاهرة اللاهوتية عندنا؛ قد تم التراجع عنها عمليا في الغرب صاحب الأطروحة. لم تعد الإنسية هناك رديفا لقيم العدل والخير والسلام، بل تحولت إلى براغماتية جشعة، غايتها تحقيق مزيد من المصالح وليس سعادة الإنسان؛ وداروينية اجتماعية تسحق الضعفاء، وعلاقات دولية مبنية على القوة، والدولة الوطنية نفسها صارت مجرد مقاولة ضمن مقاولات. فيما المجتمعات المتأخرة تاريخيا مثل مجتمعنا، لم تستطع بعد تخليص نفسها، كما فعلت أوروبا القرن 18م، من تراث لا يترك مجالا لتبلور أية إنسية محتملة.
فكيف إذن في هذه الحالة يمكن الحديث عن “الإنسية” إلى ما يتجاوزها ؟
يجب التمييز هنا بين ما يقوله المنظرون، وما يجري في الواقع. لم يعد للمنظرين في الغرب تأثير على مجريات الأمور، بل المقاولات الكبرى التي رهنت “الدولة الوطنية” ضمن استراتيجياتها الخاصة. وكما لاحظ ريجي دوبري Régis Debray (في ” le code et le glaive” )، فإن الكل تخلى عن “المبدإ الجمهوري” le principe républicain الإنسي humaniste والكوني universel وليد تجربة الأنوار، لصالح الدولة الوطنية L’Etat-Nation “الخصوصية” والهوياتية، التي غايتها التوسع والاستغلال.
إن المجتمعات، في عالم اليوم، ليست مختلفة في ما بينها فقط، بل متفاوتة تاريخيا (Décalage historique). ومحض وجود هذا التفاوت دليل على أن الإنسية لم تتحقق بالكامل على المستوى الكوني. فيكون السؤال بالتالي ليس بحثا عن إنسية مغايرة أو جديدة، بل في تحقيقها.
في مجتمعنا والمجتمعات التي تشبهنا، والتي لم تتخلص بعد من تراثها الأسطوري ومن أنظمتها العتيقة، يُطرح السؤال حول إمكانية تأصيلها نظريا وتفعيلها عمليا حتى تصير هي المؤطر لكل نظر وعمل، ينطلق من الإنسان لينتهي إليه.
الظّاهر أستَاذ الرّاشدِي أنّ وَضْعِ “الإنسَان” فِي السيّاق العربيّ والإسلاميّ وضعٌ معقّد، وفِي سيَاقٍ شبيهٍ به يفرزُه ويتشكّل من خلالِه. زادَ الاصطدَام بـ “الآخَر القويّ” الوضْعَ تَعقيداً؛ لاسيّما أنّ ذلكَ لَم يَدفع أهلهُ نَحو الإصلاَح الجذريّ لنُظمِه الثقافيّة والسيّاسيَة، بَل ربّمَا كانَ ذلكَ دافعاً رئيساً لهُ ليَنكَمشَ حوْلَ نفسِهِ ويَدُور حول ذاتِه. هَل حقّاً مَا يَزالُ مَفهُوم “الإنسَان” فِي سيَاقنَا بَتولاً (عذريّا)، طالمَا أن هذَا السيّاق ما زالَ مَحكوماً بِرؤَى “قروسطيّة” (مثلمَا ألمحْت إلى ذلكَ) تَنتصِبُ مانعاً اسمنتيّاً أمَام أيّ محاولاَت فكريّة طلاَئعيّة لترجَمة الإنسَان إلَى لغَات الحدَاثَة، حيْثُ الحَديثُ عَن مفاهِيم: الفَرْد، والذّات، والشّخْص، والمُواطِن؟ وأيّها المدَاخلُ الأكثَر أهميّة لبنَاء الإنسَان تبعاً لهَذهِ الترجمَة، هل هيَ المدَاخل السيّاسيَة، أم الثقافيّة، أم الاقتصاديّة، أم أنّ لا قيَام للإنسَان المُواطِن (الفرد، الشخص، الذات) إلاّ بالنّهُوض بهَا مجْتمعَةً؟