اختبار كورونا للإنسانية والجواب الإسلامي
بقلم/ إبراهيم هلال
تخيل أن تستيقظ يومًا ما فتجد أن الدين قد انسحب من العالم، أُغلقت المساجد والكنائس، مُنعت الصلوات، مُنع الحج، وأغلقت الكعبة والمزارات المقدسة، باختصار حدث كل ما حلم به الملحدون واللادينيون والعلمانيون.
ليلتفت الجميع إلى العلم وحده، ليظنوا أنه عارض ممطرنا، العلم الذي يهدئ الخوف والقلق، ويخفف الآلام، ويمسح دمعات الثكالى الخائفين، ويطعم الجوعى، ويرحم المساكين، ويساعد الضعيف.
إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا، فبعدما انتشر الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19 المعروف بكورونا المستجد في إيطاليا، بعدما تصاعد عدد المصابين بالوباء في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة العظمى في عصرنا الحديث.. سبّب الوباء حالة شلل كلية.
المستشفيات والعيادات أصبحت مكتظة بالمرضى والجثث وأصبح الأطباء أمام معضلة صحية وأخلاقية صعبة.
فعندما تزداد أعداد المصابين، من هم الأولى بالعلاج واستخدام أجهزة التنفس الصناعي وأسرة العناية المركزة المحدودة، كبار السن والمرضى المصابين بأمراض مزمنة كالسرطان والقلب وأمراض الجهاز التنفسي، أم الشباب والرجال الأصغر سنًا؟
سؤال صعب ومعضلة أخلاقية حقيقية، واختيارات مرعبة، وعلى الأطباء أن يقرروا سريعًا أمام أعداد هائلة من المصابين!
من ستنقذه أجهزة التنفس الصناعي؟ ومن سيُترك للفيروس لينهش رئتيه؟ والإجابة جاءت أشد رعبًا من الوباء. [1]
قرر الأطباء في إيطاليا ترك الأشخاص الأكبر سنًا للموت [2] مولين العناية للأشخاص ذوي الفرصة الأكبر للنجاة.
بينما في الولايات المتحدة الأمريكية، قررت المستشفيات رفض علاج الأشخاص الأكبر سنًا وذوي الاحتياجات الخاصة ومصابي متلازمة داون والمصابين بالخرف [3]، لتتركهم يموتون، موفرة العناية الصحية للأشخاص الأكثر مكانة إجتماعية، والأكثر شبابًا.
معضلة أعادت أهمية الدين والأخلاق إلى الواجهة مرة أخرى بعدما فاقت أهمية العلم في عصرنا الحالي أهمية الدين والفلسفة.
فهل حقًا العالم لم يعد في حاجةٍ إلى الدين والأخلاق؟ وما أثر اختفائهما في تاريخ أوروبا الحديث مقابل الصعود المدوي للعلم؟ هذا ما سنحاول الاقتراب منه.
1- انتصار العقل وهزيمة الإنسان..
في صباح عيد القديسين يوم الأول من نوفمبر عام 1755، وتحديدًا في الساعة التاسعة، ضرب مدينة لشبونة البرتغالية زلزالًا مدمرًا، سبّب شقًا في قلب المدينة ووصل مداه إلى فنلندا وسويسرا وشمال أفريقيا، قُدرت ضحاياه بمائة ألف قتيل في البرتغال فقط وهرع الناجون إلى المواني.
لكن بعد عشرة دقائق، ضربت المدينة موجة مد بحري عاتية يُقدر ارتفاعها ب 20 مترًا، أكلت شواطئ المدينة وأغرقت عددًا مهولًا من الناس يُقدر بعشرة آلاف شخص ثم اشتعلت الحرائق التي استمرت لخمسة أيام.
بعد هذه الكارثة، بدأ الفلاسفة ورجال الدين بالتفكير في سبب حدوث الزلزال بهذا الشكل المدمر: كان التفسير الشائع هو (التفسير الديني).
لكن لشبونة كانت أكثر المدن ورعًا وأكثر مدن أوروبا امتلائًا برجال الدين!
فكان الرد هو أن الزلزال كان عقابًا بسبب نفاق رجال الدين ومحاكم التفتيش التي قتلت وعذبت مئات الأبرياء.
وبعد سنة من الجدال كتب فولتير قصيدته الشهيرة (قصيدة حول فاجعة لشبون) يفند فيها كل ذلك الجدل قائلًا:
“اهرعوا لتتأملوا: هذه الأطلال الرهيبة،
والأنقاض والخرق والرماد الحزين،
وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم..
هل ستقولون، عند رؤية هذا الركام من الضحايا:
[إن الله ينتقم ، وأن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم]؟
أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال..
الملتصقة أفواههم بالأثداء المسحوقة والدامية لأمهاتهم؟
هل بلشبونة، التي لم يبق لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟
لشبونة منكوبة، وفي باريس تقام حفلات الرقص.”
وردًا على قصيدة فولتير التي يسخر فيها من التفكير الديني، كتب جان جاك روسو رسالته بعنوان: (رسالة حول العناية الإلهية) يقول فيها أن الزلزل ليس عقابًا من الله، ولكنه حدث بسبب أخطاء البشر، فلولا تكدس الناس في بنايات متجاورة وأماكن ضيقة وسوء توزيع البيوت في المدينة ما كان للزلزال أن يحدث كل ذلك الدمار.
ظهر جان جاك روسو، كمفكر رجعي يحتفي بالحكمة القديمة لكل ماهو (طبيعي) لكن للمفارقة كان روسو يعزف أكثر النغمات حداثة!
فحوّل إيقاع روسو دفة التفكير في الكوارث الطبيعية بالفكر الغربي من الانتقام الإلهي وسببية الخطايا إلى عشوائية الطبيعة وأخطاء البشر. فالإنسان وحده هو المسؤول عن أشرار الطبيعة والعقل البشري هو الوحيد القادر على إنقاذ البشرية.
ومن هنا، بدأ الفلاسفة بأوروبا يعملون على تضخيم قدرة العقل وإمداده بكل وسائل القوة التي تمكنه من السيطرة على الطبيعة، معتقدين بأن أيدي البشر ستمتد لتطول كل شيء وتسيطر عليه. وكلما امتدت أيدي البشر تضاءلت الشرور الباقية التي لا تطالها أيديهم، بل ستنعدم تلك الشرور بمرور الوقت الكافي وتوفر العزم.
لكن بعد قرنين تقريبًا حدث ما لم يتوقع رواد الحداثة حيث وقعت الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية وفي قلبها الإبادة النازية التي زلزلت أوروبا ثم القنابل النووية التي زلزلت العالم.
مما جعل سوزان نايمان صاحبة كتاب (الشر في الفكر الحديث) تكتب قائلة:
“إذا كانت لشبونة تمثل لحظة الاعتراف بانعدام الأمل في إثبات خيرية الله وعدالته في ظل وجود الشر، فإن أوشفيتس تمثل لحظة الاعتراف بأن كل إطار معرفي جديد ليس أفضل من غيره”.
وصلت الحضارة أوجها وبلغت التكنولوجيا ذروتها لكن التهديدات والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية لم تختف، لم تتحقق نبوءة فلاسفة الحداثة الذين قالوا بأن ما عجزت الصلوات عن تحقيقه سوف يحققه العلم المسلح بأدوات التقنية الموجهة نحو الطبيعة غير العقلانية العمياء.
والأدهى أنه بعدما تخلت أوروبا عن الإله، وعن الأديان وعن الأخلاق، وما أن راكم العلم المهارات والأدوات وتقدمت التكنولوجيا الحديثة حتى ساء الأمر أكثر فأكثر. كان التطور في الاتجاه العكسي وبدلًا من انتشار السلوك العقلاني المهتدي بالعقل انحطت تبعاته إلى دركات اللاعقلانية، وأضحى قدر الفساد الأخلاقي مشابهًا للكوارث الطبيعية نفسها، عشوائيًّا لا يمكن التنبؤ به، ولا يمكن منعه، ولا فهمه، ولا إخضاعه للعقل.
يشرح باومان هذا الأمر قائلًا: “إن إعادة تشكيل الكوارث الاجتماعية/الأخلاقية على صورة الكوارث الطبيعية كانت -وللمفارقة- نتاجًا غير مقصود -لكنه حتمي- للصراع الحديث من أجل أن يصبح العالم واضحًا وقابلًا للتنبؤ ومنتظمًا ومستمرًا وقابلًا للإدارة”.
وهذا الفساد وتلك الكوارث الأخلاقية/الاجتماعية، يرى باومان أنهما نتيجة قاعدتين اتبعتهما الحضارة الغربية الحديثة؛ الأولى هي الاتجاه نحو تحييد الفعل الاجتماعي وإخراجه من دائرة القانون الأخلاقي عبر التهوين من أهمية المعايير الأخلاقية، بتجريد النفس البشرية من حسها الأخلاقي ونزع منها وازعها القيمي. والقاعدة الثانية تجريد النفس البشرية من المسؤولية الأخلاقية عن تبعات أفعالها عبر قياس كل شيء على معيار المنفعة المادية الآتية من ورائه فقط.
إلا أن هناك سببًا مركزيًا آخر سبّب هذا الانحدار القيمي والفساد الأخلاقي!
2- تضخيم العقل وتأليه العلم.. انفصال العلم عن الأخلاق..
في عرضه للفرق بين العالم المادي والعالم الروحي، تكلم الفيلسوف الشهير علي عزت بيجوفيتش متسائلًا: “هل يمكن أن نصل إلى تفرقة علمية دقيقة بين الفن الراقي وبين الفن الهابط أو بين الجميل والقبيح؟”
هل العقل والعلم يستطيعان التفريق بين الصح والخطأ الأخلاقي، استشهد بيجوفيتش بإجابة الفيلسوف ديفيد هيوم على سؤال: “ما علاقة العقل بالقرارات الأخلاقية؟” حيث يقول هيوم: “الجريمة بالنسبة لعقولنا ليست أكثر من عدد من الدوافع والأفكار أو الأفعال، ويمكن أن نبحث هذه العلاقة ونفسر أصل هذا الفعل وطريقة أدائه فقط، في اللحظة التي ندع عواطفنا تتحدث يظهر الاستهجان وإذا بنا نصف العمل بأنه شر أخلاقي”.
فلا يمكن البرهنة على الأخلاق عقليًا، ولا يمكن تفسيرها بالعلم، بل إن الأخلاق تُوقِف شره العلم المستمر لانتهاك الطبيعة وانتهاك الحدود باسم التجريب والتقدم العلمي. الطبيبان الفرنسيان تحدثا عن التجارب السريرية التي ستقوم بها فرنسا في أفريقيا، ويفسرها العلم ويشجعها، لكن الأخلاق تستهجنها وترفضها.
ورفض علاج كبار السن وأصحاب متلازمة داون وذوي الاحتياجات الخاصة من فيروس كورونا ليس عملًا أخلاقيًا، بل فعل يستند على التفكير العلمي ومنطق العقل والمنفعة المادية، والمنفعة المادية لا تتفق دائمًا مع الأخلاق.
يشرح الفيلسوف أفلاطون هذا الأمر في محاورة (فيدون) قائلًا: “الإنسان الأخلاقي على الوجه الصحيح يتملكه شوق واحد: أن ينأى بنفسه عن المادي وأن يلتصق بما هو روحي.. والمعرفة الحقيقية لا تأتي إلا بعد الموت وهذا هو السبب في أن رجل الأخلاق لا يهاب الموت، فلكي تحيا حياة حقيقية يعني أن تستعد دائمًا للموت، إن الشر هو القوة التي تحكم هذا العالم، والأخلاق إمكانية روحية للإنسان لا يمكن إقامتها على العقل”.
وينتهي بيجوفيتش في أطروحته في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” أن التقدم العلمي مهما كان بارزًا وواضحًا، لا يمكنه أن يجعل الأخلاق والدين غير ضروريين. فالعلم لا يعلم الناس كيف يحيون وكيف يحبون وكيف يرحمون بعضهم بعضًا، ولا من شأنه أن يقدم لنا معايير قيمية. لأن القيم التي تسمو بالحياة الحيوانية أو المادية إلى الحياة الإنسانية تبقى مجهولة وغير مفهومة بدون الدين، فالدين مدخل إلى عالم آخر متفوق على العالم المادي والأخلاق هي معناه.
3- أحكام الشريعة والمبادئ الأخلاقية وإعادة التفكير في الكارثة..
لنعود مرة أخرى للسؤال الذي شكل معضلة أخلاقية على أطباء العالم في ظل انتشار وباء كورونا المستجد.. لكنه موجه لأنفسنا هذه المرة!
من الأولى بالعلاج في ظل موارد طبية محدودة، كبار السن ومرضى الأمراض المستعصية، أم الشباب واليافعين؟
لكن قبل عرض هذا السؤال على المنظور الإسلامي القيمي والأخلاقي، علينا أن نفكر في طريقة تفكيرنا في الإجابة.
تدور النقاشات في الغرب الأوروبي والأمريكي ، حول معيارين لتحديد الإجابة..
الأول هو تشخيص الحالة ودرجة حاجتها للعلاج وهو معيار يتفق مع فلسفة الواجب سواء واجب أخلاقي أو مهني علمي.
والثاني هو تقدير نسبة الشفاء المرجو ومن ثم تحديد إذا كانت العناية الطبية لها جدوى أم لا، وهو معيار يستند على التفكير في مآلات الأفعال حسب الفلسفة المادية النفعية، وهذا ما يرفضه المنظور الإسلامي.
يفرق التصور الإسلامي الأخلاقي بين مفهوم (التداوي) ومفهوم (الاستحياء) أي إنقاذ حياة الناس، وبالتالي يستبعد المنظور الفقهي الإسلامي أولًا نظرة المنفعة المادية فلا يضع فرقًا بين مسن وشاب وسقيم وصحيح، بل كلهم أرواح بشرية متساوية في القيمة وتطلب نفس القدر من العناية والتداوي.
لكن ماذا يفعل الأطباء لو كانت الموارد الطبية محدودة؟
يلجأ هنا الفقه الإسلامي إلى مفهوم (الاستحياء) حيث يكون إنقاذ حياة الإنسان مقدم على النظر إلى صفتهم.
فمن أشرف على الموت يستحق تقديم علاجه على من لايزال في مراحل المرض المبكرة، والمعيار هو درجة الحاجة فالمريض المصاب بأمراض أخرى يستحق التقديم والإنقاذ ما لم يكن ميؤوسًا من شفائه. فهذه هي صفة الدين، صفة إرشادية أخلاقية وليست تعليمية علمية.
وهذا ما يشرحه إسماعيل مظهر في مقدمة ترجمته لكتاب (بين العلم والدين تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى) فالعلم صفة عقلية في الإنسان، فضله الله بها على سائر مخلوقاته، منذ علم الله آدم الأسماء كلها، لكنه يختلف عن الدين، الصفة التي تُستمد مما هو فوق العقلية البشرية لتسد فراغًا جوانيًا وشعوريًا لا يستطيع العلم شغله.
فإذا وازن الإنسان بين ما ينعم به في هذه الحياة من سعادة وبين ما ينزل به من ملمات فادحات، فسترجح كفة آلامه، بما يفوق عقله عن تخيله، فالطبيعة التي تحيط بالإنسان، تمتلئ بجراثيم قاتلة ووحوش ضارية وتقلبات الطقس وتأثيرات المناخ وقوانين الطبيعة.
وإذا تأمل الإنسان كل ذلك بعقل محض وعلمية صارمة، سيجد نفسه انسانًا ضعيفًا هشًا هالكًا لا محالة، فالحياة كلها عبث في عبث، وسيصبح وحي العقل هو مفارقة تلك الحياة التي لا فائدة منها.
لا يستطيع الإنسان أن يحيا دون إيمان يتجاوز العقل وروح تتجاوز العلم المادي، وقيم وأخلاق ترشد الإنسان كي يكون إنسانًا، لا حيوانًا يلهث وراء منفعته المادية بلا غاية.
وبجانب ذلك لم يعارض الدين في جوهره العلم، بل حث الإنسان على العلم والتعلم. هل سمعت يومًا عن عالم أراد أن يكتشف دواءً ومنعته تعاليم الطهارة، هل سمعت عن عالم توقف بحثه العلمي بسبب شعائر الصلاة والصوم؟
تقف الإنسانية اليوم في اختبار لإنسانيتها، ابتلاء لأخلاقها ورحمة الناس ببعضهم بعضًا، ربما ينقذنا العلم من ذلك الوباء رغم أن لقاح الفيروسات من نفس عائلة كورونا كسارس وميرس لم يُكتشف بعد.
لكن إلى أن ينقذنا العلم باللقاح، من سينقذ أخلاقنا وإنسانيتنا؟!
إبراهيم هلال هو إعلامي مصري، من مؤسسي قناة الجزيرة، كما أسس قناة الجزيرة الإنجليزية، كان يتولى إدارة قطاع الأخبار بقناة الجزيرة، كما كان من المشرفين على تأسيس قناة الجزيرة البوسنة وقد ثم اختياره في منتدى دافوس، عضوا في مؤتمر قادة العالم دون سن الـ40، كما أنه عضو بمركز القاهرة للدراسات الإستراتيجية الذي أسسه الإعلامي المصري أحمد المسلماني,