احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
لفور تنمية الناقد : لخليف ابراهيم
أول ما يفرض عليك نفسه في هذه الرواية صورة الغلاف. انها عبارة عن مشهد لنوارس تحلق فوق موج بحر صاخب. صورة تحمل تضاد بين هدوء العصافير، التي بسطت أجنحتها والرياح تداعبها بنعومة، فيما يرتفع هدير أمواج تكشر عن أنيابها.
لا أدري هل الصورة اختيرت لهذا الغرض؟ لكن المشهد يؤسس للنسق الذي سارت عليه الرواية.
في هذه الرواية نستشف نفسا أدبيا جميلا. “أحلام النوارس”. أحلام ليست كالأحلام. جميلة صيغت بحبكة سردية ناعمة يربطها خيط رفيع نسج بحكي أقرب إلى الشاعرية. يبدأ الكاتب روايته بالمثطع التالي” دعيني أشتهيك بالشكل الذي يجعلني أتخلص من كآبتي،…. أرتشف القطرات السابحة في المدى المتمدد أبدا كنهاية لا تحقق إلا وهما، في خضم أحلام تكبر رويدا رويدا حتى تتاخم حدود الحقيقة، ثم ما تلبث أن تنكص في صمت، تتقاذفها خيبات الزمن، فتتهاوى بثقل صخرة “سيزيف”.. تتقوقع في سويداء القلب حبة سوداء، ما لبثت أن تتمدد في رحابه وتنفث سمومها في أرجاء الجسد الواهن، فلا تزيده إلا وهنا، وتنبت في مشاتله ارتعاشات، سرعان مال تتبرعم في أفنانها أزهار الألم، تلك التي يعبق شذاها في كل الخلايا المتعبة. “
بهذه البداية يريد من الوهلة الأولى أن يضع القارئ في الصورة والإيقاع اللذين ستنحو نحوهما الرواية. يريد أن يشد انتباهه الى أن الخطاب سيكون على وقع مناجاة أو شكوى من رجل لامرأة٬ يوجه لها كلامه من خلال صورة لها بين أصابعه. يحادثها حول ما كان يموره تجاهها من مشاعر وأحاسيس جياشة تارة وما تقابله به من صد ورد تارة أخرى. يشتكي أحاسيسه التي تتأرجح بين المد والجزر، أحيانا فياضة تتدفق شوقا وولعا، واحيانا أخرى خائبة تمزق أحشاءه حزنا وألما. لكنه لا ييأس، تعطيه جرعة إضافية للتوكيد على التشبث بعنفوان المرأة وإعادة الكرة تلو الأخرى كعربون على إقدامه وتشبته بها رغم ما لقيه منها من نفور حد الازدراء. بقيت عالقة بذهنه الأيام التي أمضياها حين اشتبكت القلوب وجمعهما حب جارف امتزجت فيه روحهما.
لجأ الكاتب الى الزج بشخص متشرد كشخصية ثانوية في سياق الحكي. حيث يقول:” أنت التي الآن بين أصابعي صورتك.. أخاطبها بكلمات يتردد صداها في غرفة قصية، تربض في آخر طبقة من هذه العمارة.. تشرف على أرض فارغة، موحشة، لا يرتادها إلا المتفردون أولئك الذين فقدوا الرغبة في أن يربطوا أية صلة من أي نوع مع العالم”. منذ البداية يصف المكان الذي يتواجد فيه احمد، بطل الرواية، بالمكان العالي، المرتفع البعيد عن الأرض، ربما أيضا عن الحياة العادية للناس الذين يمشون فوق أديمها بكل أريحية. هذا المكان يطل على أرض خلاء، مقفرة، لا يلجها الا الهامشيون والمتشردون. انه يعيش في عالم مزدوج. عالم واقعي، مرئي يلامس أشياءه بواقعية حذرة، يتلمس الخطو بتؤدة للقبض على بعض أشلاء الحب الجامح الذي أعلنه منذ البداية، والذي تبعثر مع تسلسل الأحداث. يحاول عبثا ترميمها ولو بعض منها، ليتأكد ويطمئن ولو مؤقتا على صدقية مسعاه. يكاد يصل إلى مبتغاه فتأتي ريح لا يعرف لها مصدرا لتشثتها من جديد و تحطم آماله معها. فتهتز نفسيته في بحر من الآلام. ويعيش عالما موازيا من خلال المتشرد الذي يرقبه من أعلى النافذة. النافذة التي من خلالها يحاول سبر أغوار الذات الانسانية وتقلباتها المزاجية، وكيف تحاكي آلامها وتستشرف كذلك آمال منفلتة تلقي بوميض خادع لا يلبث أن يخبو.
بطل الرواية أحمد، شاب في مقتبل العمر. يهيم في حب امرأة تحمل اسم نجوى، وكأني بالكاتب يؤكد ما ينوس بخاطر أحمد. كان حلمه أن ينخرط معها في مشروع زواج، لكن الظروف سارت عكس ذلك. كان يصبو لتحقيق حلمين واحد كبير والآخر صغير في نفس الٱن. الحلم الكبير يروم مساءلة المجتمع حيال الوضع الرديء الذي يعيشه أفراده والذود عن حقوقهم والثاني يخص علاقته مع حبيبته يتغيا تتويجه برباط الزواج. لم يكتب له النجاح في منهما. يذكر حبيبته بالذي جرى له عندما تلقفه ثلاثة أشخاص آتوه في ليلة مطرة ينقلونه من غرفته الدافئة إلى مكان لا يعرف وجهته، معصب العينين. عاش خلاله فترة استنطاق أليمة للبوح بالأسرار. كال له هؤلاء الأشخاص كل أنواع الضرب والتنكيل وتوالت الضربات. تصوب أحيانا نحو المناطق الحساسة فيزيده ذلك إيلاما. من كثرة الألم كان يتوق إلى ملاذ الموت، لكنه صمد. أصر على كثم المعلومات المتعلقة برفقائه. من سوء الصدف، في نفس الفترة ثم احتجاز بعض من رفقائه والقي بهم في غياهب السجون. ظنوا أنه خذلهم.
أثناء المحاكمة كانت نظرتهم اليه تشي بكثير من اللوم وكذا الحنق. وكان هو يود أن يعلمهم بحقيقة الأمر، أنه لم يخن وعده لهم، لكن هيبة القاضي وجلال المحكمة لم يمكناه من نبس بنت شفة. فظل يردد مع نفسه ذلك البوح الذي لم يتأت له أن ينفذ إلى أسماعهم. الشيء الذي حز في نفسه وجعل نفسيته تهتز لسوء ظنهم به، ولعدم قدرته على تبرير موقفه.
من خلال حواره مع صورة حبيبته كان يستجدي الذكريات. فاسترجع فصول حياته الرومانسية وفي نفس الآن كان يلقي نظره على الأرض الخلاء وعلى أحد المتشردين بالضبط ذاك الذي شد انتباهه. لأنه ران في ذهنه أنه يعيش بشكل ما نفس حالته النفسية وإن بشكل آخر. تماهى معه لانه يعيش حالة تسكع في أرض خلاء وفي أطرافها. لا يستقر على موطأ قدم. يترنح بين الدروب. عقله مستلب يعيش وضع نفسي مهلهل ولا يجد عزاءه الا في شرب الخمر أو في الاشتباك مع متشردين آخرين يحتلون نفس المكان.
هذا التقابل بين ما حدث لأحمد سابقا وما يقع للمتشرد ليس اعتباطيا وإنما يريد به الكاتب أن يفعم السرد بمسار موازي لمسار البطل، بحكاية أخرى موازية تعبر بشكل آخر عن تفاصيل الرواية. ويتبين من تسلسل أحداث الرواية أن المتشرد هو نفسه أحمد أو بشكل آخر مرآته، تعكس قصته بواقع آخر أكثر وقاحة وأكثر مرارة. يحشر الكاتب في زخم الوقائع٬ على فترات٬ صورا لما يقع للمتشرد كي تطابق بعض ما يعتمل في قرارة أحمد وكمثال لا حصرا يقول الكاتب بخصوص هؤلاء المتشردين : “ربما كانوا قد أصروا على ذلك مرات ومرات، ولما أحسوا أن كل محاولاتهم تحطمت على صخرة صلبة، لجأوا إلى هذه الأرض المقفرة يحاولون في خلسة من الزمن أن يربطوا معها علاقات من نوع خاص، تعوضهم عن ذلك الإحساس المقيت بالرفض والصدود. …”. ثم يضيف بصورة جلية تختزل بشكل مكثف حالة أحمد : “أرى من بعيد أحد أولئك المتشردين- الذين حدثتك عنهم- يتقدم بخطوات ثابتة، وخلفه المدى يعوي في أركانه الخواء، وتلك الزرقة التي أضحت تحفز في نفسي كل أنواع المقت والكراهية، لم أعد أتحملها .. إنها تضاعف في أعماقي الإحساس بأنني وحيد حتى النخاع. “