احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
لفور تنمية :لعريني صلاح الدين
حدث بحجم جائحة كوفيد ١٩ يستحق أن يكون موضوعا للكتابة بشتى أصنافها!
على الناس أن يكتبوا ما يشعرونه حيال هذه التجربة الجماعية النادرة جدا، خاصة وأنهم لم يسبق لهم أن عاشوها من قبل.
عليهم أن يكتبوا لا من أجل أجيال اليوم فقط بل من أجل أجيال المستقبل أيضا، مثلما فعل جيوفاني بوكاشيو في رائعة “ديكاميرون” أو الليالي العشر، التي تحوي مئة قصة حُكيت على مدار عشرة أيام بلسان عشر أشخاص فروا من وباء الطاعون الكاسح، الذي أزهق أرواح ربع ساكنة أوروبا تقريبا، للمكوث في أحد القصور خارج مدينة فلورونسا. فبفضل تحفة جيوفاني تعرفت كل الأجيال التي أتت بعده على ما فعله الطاعون الأسود بساكنة فلورونسا وروما وبقية مدن أوروبا سنة 1348. وبفضله يمكننا اليوم استحضار هذا الماضي التراجيدي، واستجلاء المنفلت والنادر واللامرئي من وجودنا الإنساني، وإماطة اللثام عن الكثير من نوازع النفس البشرية المتقلبة والمقالب والأحداث والاعترافات التي تشكل فسيفساء هذا العمل الرائع.
ما الذي أفكره وأشعره شخصيا حيال هذا الوباء؟
لا أعتقد أن العالم قبل فيروس كورونا سيغدو نفسه بعده، من الراجح أن الكثير من الأشياء ستتغير؛ بعض المهن ستموت وأخرى ستنتعش، الحياة على الإنترنت ستتطور أكثر ، التحكم الرقمي سوف يتمأسس وسيغزو شتى مناحي حياتنا ومؤسساتنا، بعبارة واحدة سيتضخم الافتراضي ويتقلص الواقعي أكثر مما عليه اليوم.
أشعر أننا نعيش في وضع وجودي موبوء مهدد بسلطان المرض، محاصر بين الحياة والموت ومتأرجح بين الألم والأمل. لقد أصبحت “ديستوبيا” حقيقة! بعدما انقلب حالنا مع الحجر الصحي إلى حال الجرذان، كل في حفرته الخاصة ، يسحب الطعام من هنا ويختبئ هناك عندما يظهر الغرباء!!
قبل حلول هذه الجائحة كان العديد من الناس يشتكون كثرة الأعمال المتعبة، ويحلمون بالمكوت في المنزل لمدة شهر أو أكثر للانتشاء بالراحة والنوم والاسترخاء، ها هم اليوم ينتحبون ويشتكون من جديد بعدما ملوا المكوت في المنزل والراحة والأكل والشرب، سئموا الشيوعية! “لا أحد يعمل، كل شخص يأكل ويبقى في البيت”.
إننا نعيش في عالم واحد، لكن لكل واحد منا تابوته وطريقه الخاص نحو الخلاص. البعض يتخذ من اللامبالاة فلسفة للنجاة، والبعض الآخر يصلي قبل النوم وبعده من أجل خلاص إلهي موعود، بينما البعض الآخر يعيش كما لو كان يعيش يومه الأخير، يتواصل، يلعب، يرقص، يقارع الخمر، يبدع… كي ينتصر على الخوف وعلى الموت بإبداع وتخليد أثر عبوره على بسيطة النسيان …لا شيئ يقهر الموت مثل الإبداع الذي يبقينا أحياء بعدما نموت!
إن فيروس كوفيد ١٩ ليس أول فيروس يختبر مناعتنا البشرية، بل سبقته عشرات الفيروسات أكثره حدة وفتكا كالسل، التهاب الكبد الفيروسي ب، الالتهاب الرئوي، فيروس نقص المناعة البشري، والملاريا، والتيفوئيد والكوليرا وغيرها. وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية تصنفه في المرتبة السابعة عشر من حيث نسبة الوفيات التي يتسبب فيها مقارنة مع باقي الفيروسات، إلا أنه مثير للرعب وللخوف، فقد ولّد وباء آخرا في صفوف الناس هو “وباء الخوف” الخوف من الإصابة، من الموت، من فقدان العمل، من فقدان الأقارب، من انقطاع المؤونة…إلخ.
موازاة مع وباء الخوف أفرز العديد من التمثلات الاجتماعية المتباينة؛ إذ اعتقد البعض أن هذا الوباء حدث طبيعي وهو اختبار للإنسانية. بينما ظن البعض الآخر أنه جند من جنود الله وأنه عقاب إلهي للناس الذين عاثوا في الأرض فسادا وطغيانا! في حين رأى آخرون أنه تكتيك رأسمالي واستفزاز اقتصادي غايته الربح والتحكم في خريطة الاقتصاد وإعادة النظر في السيادة الاقتصادية للعولمة. واعتقد فريق رابع أنه “مؤامرة ماسونية” ضد المسلمين و/أو أعدائها من أجل خفض عدد سكان الأرض والتحكم في الموارد البشرية غير المنتجة. بينما لسان حال الفريق الخامس يقول هذا الفيروس مجرد خدعة! ويعتقد أصحاب هذا التمثل بأننا خدعنا به، كما خدعنا بإنفلونزا الخنازير ، إنفلونزا الطيور ، و السارس… وأن هناك جهة ما أو شخص ما يتلاعب بالرأي العام بنجاح وينشر الخوف والذعر في العالم.