الدكتور الايبوركي يكتب عن نوابغ الفكر المغربي(1) : قراءة في فكر الفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي
لفور تنمية : الدكتور عمر الايبوركي
نوابغ من الفكر المغربي :
لماذا عودة الاهتمام بالمفكرين المغاربة المعاصرين ؟
كان لا بد من هذه العودة للتأمل بهدوء فيما كتبه هؤلاء،واكتشاف رؤيتهم للمجتمع ولقضاياه،خاصة في هذه الشروط التاريخية التي تعيشها المجتمعات اليوم،وبعد أن هدأ ضجيج الحماس وصخب النظريات والأفكار، وتحول الإنسان المعاصر وجها لوجه أمام الحقائق والوقائع الجوهرية التي عليه أن يواجهها ليرسم لنفسه طريقا سالكا في غمرة الكوارث الطبيعية التي تفوقت على كل ما وصله الإنسان من اكتشافات علمية وتطور تكنولوجي أعتقد أنه قطع أشواطا في التحكم في الطبيعة وأخضعها لإرادته.وبعد ان طغت هذه الأفكار كانعكاس لنمط إنتاجي ومعيشي تكون السيطرة فيه للاقتصاد،واختلت فيه المنافسة بين المجتمعات، وتدمرت العلاقة بين الإنسان وبيئته.
نقدم اليوم رؤية لمفكر مغربي طرح نسقا فكريا منذ خمسينيات القرن العشرين كانت ما تسمى بدول العالم الثالث عبارة عن مستعمرات ترزح تحت سيطرة العالم الغربي،وجاءت أيضا في خضم الفلسفات التي ظهرت بعد خروج الإنسان مدمرا من الحرب العالمية الثانية.
يمكن اعتبار محمد عزيز الحبابي رائدا للفكر الفلسفي المعاصر بالمغرب ، أعاد انبعاث هذا الفكر من خلال مساهمته في التحاور مع الفكر الغربي،ومناقشة المذاهب الفلسفية التي اطلع عليها وانتقدها وحاول تجاوزها، ليؤسس لفكر فلسفي مغربي عربي.وقد اعتبر الأستاذ محمد وقيدي وهو أحد طلبته أن تأليفاته تعتبر استئنافا للفلسفة بعد فترة ركود طويلة لها في الثقافة المغربية،ومحاولة إعادة إدماج الفكر الفلسفي في الثقافة المغربية. لقد تأثر بالفكر الفلسفي الفرنسي،وانتقد مفهوم الحرية عند هنري برغسون(1859-1941)،والنظرية الماركسية،والوجودية عند جون بول سارتر(1905-1980) ولكنه ذهب مذهب ايمانويل مونيي(1905-1950) في الشخصانية. و لم يقف عند حدود الغرب،بل انتقل إلى رصد الفلسفة الإسلامية من خلال الغزالي(1058م-1111م) وابن خلدون(1332م-1406م)([1])،ومن هنا جاء تأصيل الشخصانية الإسلامية،باعتباره ينتمي إلى ثقافة عربية إسلامية،ويحاول ان يجعل فلسفته ترتبط بواقعه وثقافته.
إن السياق التاريخي للشخصانية،يرجع إلى سنوات الخمسينيات من القرن العشرين،وهي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية،وما عاشته الإنسانية من عواقب هذه الحروب المدمرة. وبسب التأثير البالغ للواقع الأوربي على الفلسفات التي نشأت وتطورت بعد هذه الفترة،تلك الفلسفات التي أعادت الاهتمام بالإنسان ومصيره وحرياته وحقوقه،ومن أشهرها الفلسفة الوجودية، وفلسفة برغسون، والشخصانية عند مونيي التي ركزت على الشخص،ومنه إلى الاهتمام بالإنسان، تم الاتجاه الماركسي الذي يركز على مفاهيم التاريخ والثورة والطبقة،والسعي لتطوير المجتمع إلى التنظيم الاشتراكي الذي يحرر الإنسان من الاستغلال الطبقي.
كان تأثر الفيلسوف المغربي ظاهرا بالفيلسوف الفرنسي الشخصاني مونيي،مما جعله قريبا من الشخصانية والوجودية. ويبدو من هذا التوجه أنه كان بعيدا عن التوجه الماركسي الذي تبنى المنهج المادي التاريخي،والتي كان التحرر لديه يرتبط بالطبقة والصراع الطبقي وليس بالشخص كذات فردية.
هذه الاتجاهات الفلسفية هي التي شكلت الأرضية لاختيار الفيلسوف المغربي أن يكون شخصانيا ،وان يطور مفاهيم الكائن والشخص بوصفه ذاتا فردية مندمجة في المجتمع،كما بلور أفكارا حول حرية الشخص ومسؤوليته.
يخص الحبابي موضوع الحرية بكتاب تحت عنوان:حرية أم تحرر ؟ باللغة الفرنسية،تم ترجم إلى العربية تحت عنوان: من الحريات إلى التحرر. كانت غايته هي تجاوز صيغة معينة للحرية تلك التي تعني شعورا ذاتيا يخلو من أي مضمون مجتمعي وتاريخي،فهي وعي ذاتي كأن الإنسان الحر ليس منخرطا في مجتمع.فهذا المفهوم يأتي منسجما مع مفهوم الشخص الذي يحيى حريته عبر الاندماج في مجتمعه.أما التحرر فهو عملية اكتساب متدرج للحرية،حيث يتحرر الإنسان من قوانين الطبيعة عن طريق المعرفة،ويصبح سيدا متحررا من ضغط أهوائه وغرائزه بضبطها ومعرفتها.
إن الحرية ليست واحدة ومطلقة،بل هناك حريات،فلا يجب ربطها بجانب واحد من حياة الإنسان الاجتماعية والنفسية،بل هناك أبعاد للحرية كحرية القول،والتفكير،والتعبير،وحرية الصحافة،وحرية الاعتقاد،تم حريات تأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية.فهذه الحريات هي نتاج للفعل الإنساني المتجه إلى تحقيقها بالتدرج،وليست مكسبا عفويا.
وزيادة في التوضيح يرى أن هناك ارتباطا وثيقا بين الحريات والديمقراطية،لأنه لا وجود لحريات في مجتمع تغيب فيه الديمقراطية،ولا وجود لمجتمع ديمقراطي إلا حين تحقق فيه الحريات المتعددة.والشخص ذاته لا يتحقق بالمعنى الكامل إلا داخل التنظيم الديمقراطي للمجتمع الذي يضمن له الحريات المطلوبة.
فهو يبحث في بعض المفاهيم التي ترتبط بالديمقراطية مثل المصلحة العامة والإرادة العامة.فالمصلحة العامة هي غير المصلحة الشخصية أو التي تهم جماعة ما،أو تتعلق بطائفة معينة أو بجماعة محدودة أو بحزب سياسي،بل هي المصلحة التي تهم الشعب بأكمله،وهذا ما يجعله يقول بأن وجود السلطة في المجتمع يكون من أجل الحفاظ على الإرادة العامة والمصلحة العامة.
ويمكن تحديد ثلاث لحظات في تطور فكره الفلسفي:
أولا: الشخصانية الواقعية: وهي نظرية حول الشخص،لأنه يعتبر مفهوم الشخص مركزيا تتمحور حوله مجموعة من المفاهيم كالكائن،الشخص،الشخصية،التشخصن، الأفق،التعالي،الزمان،التحرر. كما خص لمفهوم التحرر كتابا من أهم كتبه،لأن أهمية التحرر تكمن في كونه الفعل الأساسي في عملية التشخصن التي تنقل الكائن إلى مرتبة الشخص،فالتحرر هو جوهر عملية التشخصن([2]).
فالكائن هو المعطى الخام الذي يكونه كل منا عند الولادة،لكنه لا يتحدد كشخص إلا عندما يحقق ذاته في بعض الإمكانيات الكامنة فيه، فالشخص انبثاق عن الكائن البيولوجي الذي يحتوي على إمكانيات لانهائية ممكنة،يستطيع أن يحقق بعضها لكي يحصل من المجتمع على رخصة يعترف فيها بوجوده،ويضمن بها حياته ،ان الكائن الذي يتبناه المجتمع ويعترف به كائن بشري هو الشخصية،والإنسان إذن هو الكائن-الشخص في صيرورته.لا يمكن اذن لفهم الانتقال من الكائن إلى الشخص دون إغفال دور المجتمع.وهذه الصيرورة هي التي تشكل تشخصن الكائن وإبراز إمكانياته التي يعترف له بها المجتمع،ويضرب الحبابي مثلا لهذه الصيرورة بمثال: الكائن هو القطعة الخام من القماش التي تتدخل فيها يد الخياط الذي يمثل المجتمع لتجعل منها معطفا او شيئا محددا يقول:”فإلغاء تدخل المجتمع بالنسبة للكائن البشري،مماثل لإلغاء تدخل الخياط بالنسبة لقطعة القماش”
ثانيا:الشخصانية الإسلامية:وهي اللحظة الوسيطية في فكر الأستاذ لحبابي بحيث حاول فيها التجديد وتأويل الشخصانية الواقعية من منظور الإسلام.فهي أقرب إذن إلى اللحظة الفلسفية ،أي إلى الشخصانية الواقعية منها إلى اللحظة الثالثة،وقد أراد بها أن يحاور المفكرين المسلمين كالغزالي وابن خلدون، وحاول التقريب بين مفاهيم اللحظة السابقة ومفاهيم الشخصانية الإسلامية وإظهار عدم تناقضهما، وقد أدمج مفاهيم جديدة،كمفهوم الشهادة الذي يعبر عن وعي الأنا، والأنا المعشري الذي يعبر عن ترابط الأشخاص فيما بينهم،ومفهوم المحبة،ومفهوم الأنا المتفتح،تم مفهوم الكل الذي يعبر عن الأمة ،وهناك مفهوم المسؤولية الذي يعني أن كلكم راع وكلكم مسؤول.ويحاول في هذه اللحظة من تطور فكره أن يبحث عن الصفات التي تميز الشخص في تصوره الإسلامي،سواء من الناحية الوجودية من حيث هو ثنائية بين الجسد والروح،او من حيث هو غاية في ذاته من الناحية الأخلاقية،أو من حيث استقلاله الذاتي في تأويل الدين وفي العبادة إذ لا رهبانية كطبقة وصاية يخضع لها الفرد في الإسلام. إنها محاولة من الأستاذ لحبابي لإعطاء المشروعية لمذهبه الشخصاني داخل المجال الإسلامي الذي ينتمي إليه واقعا وفكرا،كما يهدف إلى التلاقي العميق بين الشخصانية الواقعية والشخصانية الإسلامية التي تمثل الإسلام العميق.
ثالثا:الغدية: وهي اللحظة الثالثة التي جدد فيها فيلسوفنا في موضوع اهتمامه، ومنهج التحليل وناقش الآفاق والحلول المقترحة،وتظهرفي كتاباته مفاهيم العالم الثالث والغرب كواقعين متواجهين،ولعل تلك من أهم الإشكاليات التي واجها المفكرون العرب عموما أمام صدمة الاحتكاك بالحضارة الغربية. لجأ المفكر المغربي إلى الحوار كوسيلة للدفاع عن مفهوم القيمة الأخلاقية كضرورة من أجل وضع أفق مستقبلي لعالم الغد ليسود التساكن السلمي بين الأمم،ويكون فيه التشخصن ممكنا على صعيد الأفراد. وفي هذه اللحظة لا يغيب مفاهيم التحرر، والترابط، والمحبة، والقيمة الأخلاقية والتي بفضلها يمكن تجاوز الأزمات الحالية. لقد ربط الشخصانية الواقعية، وبعدها الغدية بالواقع لتكون الفلسفة المعبرة عن هذا الواقع،والمساهمة في تغييره،ليكون واقعيا وفكريا ملائما للآفاق التي ينبغي أن يكون عليها عالم الغد.
فالغدية فلسفة تنزع إلى التفكير شموليا في عالم الغد،وهدفها دراسة الشروط التي يمكن ان تؤمن في الغد عالما تنفتح فيه أمام الشخص الإنساني كل الآفاق التي تضمن حريته وقيمته. هي فلسفة ذات نزعة إنسانية،لا تخرج عن أطار ما حدده في المراحل الأولى من تفكيره في الشخصانية الواقعية، والشخصانية الإسلامية. وتختلف الغدية عن الدراسات المستقبلية،فاذا كانت الدراسات المستقبلية تقوم على التفكير انطلاقا من معطيات إحصائية من أجل التنبؤ بالمستقبل،فالغدية تفكير في الغد انطلاقا من عالم اليوم. فهي تنطلق من نقد الحاضر، وتحمل آمال المستقبل،وغايتها أخلاقية وليست علمية،فهي لا تحصر اهتمامها في الأرقام الإحصائية،لأنها تؤمن بأن الإنسان يحمل آمالا على الدوام بان في استطاعته أن يصنع تاريخه ويكتبه بصيغة المستقبل متى توفرت بعض الشروط، وازيحت الأنقاض على الطريق كما يقول الحبابي.
انه يركز في كتابه “عالم الغد على التناقض بين عالم متقدم متخم بالوفرة المادية،والعقلانية،وعالم يعاني من ندرة تحقيق الحد الأدنى من الحياة. وتجاوز هذه الهوة من الشروط التي تؤدي إلى عالم الغد الذي يسمح بأنسنة علاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة.ويرى انه إلى جوانب مظاهر التناقض الاقتصادية والتقنية والعلمية، هناك تناقض على مستوى الفكر،لأن فلاسفة ومفكري الغرب لا يفكرون شموليا بمساهمة فلاسفة العالم المتخلف الذين يعيشون على التناقض بين تطلعاتهم،وانتمائهم إلى مجتمعات تفتقر إلى شروط تحرر الإنسان وتكتسبه قيمته الحقيقية.
نستنتج مما سبق ان المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي في حواره مع الفكر الغربي،كان مشدودا إلى أرضية الثقافة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها،وكان المثقف الذي طرح رؤية غدية للمجتمع المأمول بشروط التحرر والديمقراطية،وهو بذلك كان رائدا في أفكاره التي لم تتحمس للنظريات التي كانت شائعة في تصوراتها المثالية،بل جاءت فلسفته كتخريج ينطلق من الشخصانية العقلانية،الى الشخصانية الإسلامية،إلى الغدية.
[1] وجه أحد طلبته وهو محمد عابد الجابري بجعل بحثه في الدراسات العليا يتناول منهجية ابن خلدون،وقد تمت مناقشة البحث في الموسم الجامعي 1966/1967
[2] Personnalisation
بطاقة تعريفية للفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي:
ولد بمدينة فاس يوم 25 دجنبر عام 1922م،وتوفي يوم 23 غشت 1993م بالرباط.
درس باريس بجامعة السربون وحصل فيها على الدكتوراه في الفلسفة، أصبح استاذا لفلسفة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، تم عميدا لها.
مؤلفاته باللغتين الفرنسية والعربية:
De L’ETRE A LA PERSONNE. Essai de personnalisme réaliste
PUF. 1954, France
LIBERTE OU LIBERATION.
PUF.1956, France.
LE MONDE DE DEMAIN. Le Tiers-Monde Accuse.
Dar El Kitab, 1980,Casablanca.
من الكائن إلى الشخص. دار المعارف بمصر.
من الحريات إلى التحرر. دار المعارف،بمصر. 1973.
ابن خلدون معاصرا. ترجمة زوجته فاطمة الجامعي الحبابي .دا الحداثة،بيروت 1984
ورقات عن فلسفات إسلامية. دار توبقال للنشر الدارالبيضاء 1988.
عالم الغد: العالم الثالث يتهم (مدخل إلى الغدية). ترجمة فاطمة الجامعي الحبابي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت ،1991.