الباحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض صلاح الدين لعريني: الظواهر المرتبطة بالجسد ..، تستثير وتحي المخيال الجمعي
فور تنمية
ضمن سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا .
نستضيف في الحلقة الرابعة عشر من حواراتنا الدكتور صلاح الدين لعريني أستاذ باحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض نائب رئيس مركز بول باسكون للأبحاث السوسيولوجية.
ويري لعريني أن الظواهر المرتبطة بالجسد كالصحة والمرض والموت والإعاقة…، تستثير وتحي المخيال الجمعي ولا تحتاج منا الكثير من الوقت لكي ندرك تداخل البيولوجي فيها مع الاجتماعي والرمزي والثقافي والديني
مرْحباً بالأسْتاذ الباحث والسوسيولوجي صلاح الدّين لعريني، أتقدّم لك بدايةً باسمي وباسم جريدة فور تنمية بالشكر الجزيل على قبولكم إجراء هذا الحوار معنا، نلتم شهادتكم للدكتوراه في موضوع: “الصحّة والمرض”، اليوم نحن أمام “عالم مريض”، ما الذي استوقفك أستاذ صلاح سوسيولوجيا وأنثربولوجيا في هذه الفترة من عمر العالم؟
شكرا لكم على الاستضافة، وعلى مساهمتكم الإعلامية في التنوير العمومي من خلال حواراتكم الرمضانية هاته.
ما استرعى انتباهي في هذا الزمن الموبوء وأثار دهشتي حقيقة، هو نسبية الوجود وهشاشة الإنسان الذي بدا حائرا مرتبكا من هول الصدمة التي تسبب فيها هذا الفيروس الميكربيولوجي، صغير الحجم ودقيق البنية لكنه قوي الأثر، تجاوز مفعوله نظام الجسد، ليؤثر في النظام الاقتصادي والاجتماعي، ويخل بنظام الأشياء والمشاعر والأفكار والعلاقات في الحياة اليومية المألوفة، وإذ استمر الحال على ما هو عليه الآن سننتقل إلى منعطف أخطر في مسار هذه الجائحة هو التأثير في استقرار الأنظمة السياسية.
من جملة الأمور التي استوقفتني في هذه الفترة من عمر العالم، هو مسألة اللامفكر فيه، فعلى غرار النقد التاريخي الشهير الذي وجه بموجبه هايدجر نقده الجذري للميتافيزيقا الغربية ودعا إلى مجاوزتها بدعوى أنها فكرت في الموجود ونسيت الوجود، يمكنني التأكيد أن اللامفكر فيه اليوم هو اللامتوقع؛ بحيث أن مشكلة الإنسان المعاصر والعلوم اليوم هو نسيان أو تجاهل أهمية التفكير في اللامتوقع بوصفه واقعة جديدة تتسم باللايقين وبالمباغتة والصدمة؛ بحيث أن واقع علاقة الإنسان بالطبيعة مسكون بالسيطرة والاستنزاف والاستغلال والترويض، مما قلص من مساحة اليقين والأمن والطمأنينة والاستقرار، ووسع بالمقابل من هامش اللايقين والخطر والخوف والاضطراب. وما أخشاه هو أن استمرار هذه العلاقة المتوترة التي تربط الإنسان بالطبيعة والدولة بالمجتمع والفرد بالفرد والدول ببعضها البعض، ستنقلب معادلة أمن-خطر، ليصبح العيش في الخطر والتعايش معه قاعدة والعيش في الأمن استثناء.
إن نسيان اللامتوقع هذا هو سمة العلوم عامة والعلوم الاجتماعية على نحو أخص، ففي مقاربة هذه الأخيرة للاجتماعي كموضوع لها، نجد اهتماما مكثفا اليوم بكل ما هو عام ومألوف ومرئي ومشترك في الحياة اليومية، وفي مقابل ذلك نجد نسيانا وتجاهلا وفي أحسن الأحوال حضورا باهتا للتفكير والبحث في كل ما هو خاص ومدهش وغير مألوف ولامرئي. فعالم الاجتماع مثلا يغريه البحث في الوقائع والظواهر والأفعال الاجتماعية التي تكتسي خاصية العمومية والانتشار والقهرية والحتمية، والحال نفسه بالنسبة للمؤرخ الذي يهتم أكثر بدراسة الظواهر والأحداث التاريخية المشتركة والعامة، بغية استخلاص القوانين الكلية المتحكمة في منطق وحركة التاريخ العام، وهما بذلك يتجاهلان التاريخ والواقع الخاصين للامرئيين المتوارين خلف الواجهة الاجتماعية للخطاب الرسمي ممن يعيشون تحت قبضة السلطة وعلى فتات الثروة. وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا بمنتهى الوضوح في مجال دراسة الأوبئة اليوم باعتبارها أحداثا تتسم بالندرة والمباغتة واللامتوقع؛ إذ نعيش فراغا علميا مهولا في هذا الباب على مستوى بنيات البحث العلمي للعلوم الاجتماعية في المغرب والعالمين العربي والغربي.
علاوة على ذلك، ما أثار دهشتي أيضا وحثني على التفكير هو هشاشة الزمن الراهن الذي نعيشه المحفوف بالمخاطر، فعلى الرغم من كل مظاهر التقدم التقني والعلمي والاقتصادي والسياسي التي حققها الإنسان، إلا أن حدث كرونا أظهر مدي هشاشة الوجود الجماعي المشترك، وهشاشة بنايته الصحية والاقتصادية والسياسية، وهشاشة العولمة التي قدمها المبشرون بها منذ نهاية الثمانينات من القرن الفارط، كما لو كانت خالصا للعالم وللإنسان ووعدا بالحرية والعدالة والرخاء والرفاهية. لكن حدث كورونا أظهر مدى زيف هذه الوعود وسذاجتها، كما كشف عن مدى تهافت الكثير من المفاهيم النيوليبرالية من قبيل التعاون الدولي والحكامة الدولية، وبالمقابل أظهر أهمية المحلي، وأهمية الاستقلال الذاتي والاعتماد على الذات، والاستثمار في البحث العلمي وفي المورد البشري وفي التعليم عن بعد والجامعة أو المدرسة الإلكترونية من أجل بناء مجتمع المعرفة الذي نطمح إليه، وأهمية مراجعة الطرق التي تدار بها الصحة العمومية والرعاية الصحية.
على سبيل ذكركم لتدبير الدولة للصحة العمومية، كيف تبدو لكم سوسيولوجيا جدلية الدولة والصحة؟
يبدو لي أن علاقة الدولة بالصحة هي علاقة معقدة ومتشابكة ربما أكثر مما نعتقد؛ بحيث تتجاوز أن تكون مجرد علاقة حقوقية أو خدماتية، لتكون علاقة سياسية بامتياز شأنها شأن علاقة الدولة بباقي الخدمات العمومية. لأن علاقة الدولة بالصحة لا تنحصر فقط في دائرة الأجساد العليلة بل تشمل الحياة المجتمعية برمتها. وهو ما نلاحظه اليوم؛ بحيث أن فيروس لامرئي دقيق وصغير جدا أربك كل أنظمة المجتمع، وعلى المستوى العالمي، بدء بالنظام الصحي مرورا بالنظام التربوي والاقتصادي وصولا إلى النظام السياسي. وبما أن الصحة هي رأسمال عمومي ثمين ومنبع وأس باقي الرساميل، كان من الطبيعي أن توليها الدولة الحديثة والمعاصرة اهتماما خاصا؛ بحيث لم تعد الدولة أمام مواطنين أو رعايا أو شعب، بل أصبحت أمام ساكنة وفق ما يعنيه مفهوم الساكنة عند ميشيل فوكو، باعتبارها ثروة عمومية ومشكلة اقتصادية وسياسية، وباعتبارها قوة عاملة لها ظواهرها الخاصة ومتغيرتها السوسيو-صحية التي تقتضي الضبط والمراقبة البانوبتيكية للولادة كما للموت، وللمرض كما للصحة، ولنمط الحياة والخصوبة والسكن والدخل والتغذية…إلخ
فمثلما أن هدف خدمة التعليم العمومي هو تدبير العقل العمومي ليس فقط من خلال نقل المعارف وتثبيت القيم وتشييد الكفاءات، بل أيضا عبر تمرير الإيديولوجيات وتدجين الوعي وتطبيع التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية عبر التعسف الثقافي واللغوي للتربية العمومية، فإن تدبير الدولة المعاصرة للخدمات الصحية يستهدف تدبير الجسد العمومي ليس فقط من خلال التشخيص والتطبيب والرعاية، وإنما أيضا من خلال تنظيم الجسد وترويضه لكي ينضبط اجتماعيا وسياسيا بما يخدم سلسلة الإنتاج المادي والرمزي ويعظم الثروة. وذلك عبر التحكم في النسل مثلا، من خلال طب الأسرة والتخطيط الأسري وقانون الأسرة والزواج أو من خلال القانون الجنائي الذي يستهدف التحكم في السلوك الجنسي باعتباره المحدد الأساس لنمو الساكنة وتكاثرها، ونظرا لحساسية الجنس المفرطة ظل الجنس موضوع ضبط ومراقبة واستراتيجية سياسية لترويض الأجساد والأرواح وتسخيرها لخدمة الإنتاج الرأسمالي تحت يافطة حماية الصحة العمومية.
ولعل هذا ما يفسر تسييج الدولة والمجتمع معا الحياة الجنسية بالحظر والمراقبة والسجن والعقاب. وهو ما يبنه ميشيل فوكو بجلاء في تناوله لإشكالية المراقبة السيوسيو-سياسية للجسد ومساءلته لمقولة الصحة العمومية، وعلاقة المعرفة بالسلطة، والدولة بالإنسان، والمجتمع بالفرد، والشخص بالجسد، والاقتصاد بالرغبة. فعلى المستوى الجنساني مثلا أخضعت الدولة الحياة الجنسية لعمليات الضبط والمراقبة الاجتماعية والسياسية، مكرسة بذلك نظرة تشيئية للجنس بوصفه خطرا يهدد أمنها وصحتها واستقرارها. ولعل هذا ما سعى ميشيل فوكو إلى تعريته وكشف الحجاب عنه، انطلاقا من سؤال أساسي وجه بحثه في تاريخ الجنسانية وفي مفهوم الصحة العمومية وهو: لماذا يشكل السلوك الجنسي وما يرتبط به من أنشطة ومتع موضوع انشغال أخلاقي أكثر مما يشكله مثلا السلوك الغذائي أو الواجب المدني؟
لهذا، فغاية السياسة الحيوية للدولة هي حماية الإنتاج والرفع منه وحينما تفعل ذلك فهي تعمل على حماية وجوده أولا عبر حماية الصحة العمومية من خلال التحكم في الجنس وفي عدد الولادة وعدد الوفيات، والتصدي للموت والأوبئة والأمراض والكوارث وكل ما يهدد بقاء الناس على قيد الحياة، وعبر تطوير تكنولوجياتها الطبية والدوائية والعلاجية، لضبط الحياة والإطالة في أمدها وترويضها بتكلفة علاجية منخفضة. فعبر هذه السياسية الحيوية تهيئ الفرد ليخدم سيرورة الإنتاج ولو على حساب الحياة ذاتها. وهنا تبرز أولوية البعد السياسي على البعد الاقتصادي في توجيه السلطة الحيوية والانضباطية للدولة في المجال الصحي. فعبر هاتين السلطتين تم تسيس الصحة وتحويلها من ظاهرة بيولوجية فردية إلى ظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية، تُقيَّم من خلالها اليوم جودة النظام السياسي ومشروعيته.
كيف يمكن فهم وتحليل المرض والصحة سوسيولوجيا؟