الباحث في الفلسفة السياسية يوسف أقرقاش: ” الأزمات ما هي إلا فرص لتغير الثعابين جلدها…”
فور تنمية.
ضمن سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا .
نستضيف في الحلقة الخامسة عشر من حواراتنا الباحث في الفلسفة السياسية يوسف أقرقاش الذي يرى أن السلطة، مثلها مثل الكائن الحي، محكومة بمبدأ البقاء على قيد الحياة، وليس ثمة من حالة أو ظرف يمكن أن تختبر فيه السلطة نفسها بالقدرة على البقاء أكثر من ظرف الأزمة.
مرْحباً بالأسْتاذ والباحث في الفلسفة السياسية يوسف أقرقاش، أتقدّم لك بدايةً باسمي وباسم جريدة فور تنمية بالشكر الجزيل على قبولكم إجراء هذا الحوار معنا، وأوَدّ أن أَبْدأَهُ، بالتساؤل عن معايناتكَ لإشكالية “السلطة”” في زمَن “كورونا”، بالنظر إلى اهتماماتك البحثية بالموضوع من الناحية الفلسفية؟
أنا بدوري أشكركم على هذه الدعوة الكريمة، وأغتنم الفرصة لأتمنى التوفيق والتألق لجريدة فور تنمية على المجهودات التي تبذلها للنهوض بالفكر والثقافة.
بالعودة إلى السؤال، ومن خلال تتبعي لموضوع أزمة كورونا من خلال ما يكتب أو يُذاع، أود أن أقول إن النقاش الذي حظي به الموضوع صار في اتجاه واحد، وهو التركيز على ضحايا الجائحة، والخوف من العدوى. وهذا أمر طبيعي بحكم أن ما يوجه سلوك الناس هو التشبث بالحياة والرغبة في البقاء، غير أن هذا التوجه العام أغفل عنا الذين ينتعشون من الخوف والذين ينتعشون من الأزمة.
ليس ثمة من كيان ينتعش من الأزمات أكثر من السلطة، بل ما عساها تكون السلطة غير الأزمة نفسها؟ لقد ظهرت كل أشكال السلط الاجتماعية والسياسية والدينية نتيجة ظروف وأزمات راكمها الإنسان عبر التاريخ. وهو ما يوضحه الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل بشكل مُلفت للانتباه حين يقول: “في أوقات المجاعات لم يكن هناك فائض.. ولكن المقاتلين والكهنة كانوا على الرغم من ذلك يظمنون لأنفسهم على أي حال ما كانوا يظمنون في الظروف الأخرى”. ما يُستفاد من قول الفيلسوف هو أن مصطلح الأزمة لا يتحدد معناه إلا من خلال ضحاياه، لكنه قد لا يكون كذلك في نظر من ينتعشون من الأزمات، وأولهم السلطة. فلماذا هي بوجه التحديد؟
السلطة، مثلها مثل الكائن الحي، محكومة بمبدأ البقاء على قيد الحياة، وليس ثمة من حالة أو ظرف يمكن أن تختبر فيه السلطة نفسها بالقدرة على البقاء أكثر من ظرف الأزمة. وكلما خرجت منها منتصرة زادت اطمئنانا وخلودا. ولم يكن ميكيافيلي يعني غير هذا حينما توجّه إلى الأمير ناصحا: “على الأمير أن يفتعل الحروب، من حين لآخر، حتى إذا خرج منها منتصرا زادت قوته”.
لم يمض على الأزمة التي يعيشها العالم اليوم، إلى حدود الساعة، سوى ثلاثة أشهر، وهي فترة جد قصيرة مقارنة بالحربين العالميتين الأولى والثانية. وإذا كنا نعلم أن الدول التي افتعلت الحرب، أو التي شاركت فيها، قد خرجت منها أكثر قوة وصلابة مما كانت عليه من قبل، فهذا يعني أن الأزمات ما هي إلا فرص لتغير الثعابين جلدها.
إذا سلمنا بأن السلطة تنتعش من الأزمات، فكيف ستنتعش من خلال أزمة كورونا؟ وكيف ستمتلك المبادرة أمام الاقتصاد؟
أشرت في الجواب السابق إلى أن الأزمات ما هي إلا فرص لتغير الثعابين جلدها، وهذا يعني أن كل مبادرة وكل قرار من السلطة، يخص إعادة النظر في المجال الاقتصادي، لن يكون إلا مزيدا من تحسين شروط العبودية. لقد اشتكت البرجوازية خلال القرن الثامن عشر من امتيازات طبقة النبلاء، وطلبت بالتغيير والإصلاح. انتهت هذه المطالب بثورات كبرى، سواء في بريطانيا أو في فرنسا، وكانت النتيجة أنْ هَوَتْ طبقة النبلاء إلى باقي الشرائح الاجتماعية، وظلّ القادةُ “مُلوكا بدون تاج” كما يحلو للفرنسيين أن يسمّوا رؤساءهم.
من الصعب جدا، في ظل الأنظمة التي ترتكز فيها السلطة في أيدي قليلة من الناس، الحديث عن أي تغيير لصالح الفئات المستضعفة. كل ما يمكن أن تقوم به هذه الأنظمة على المستوى الاقتصادي هو أن تضحي بالفئة التي تحاول أن تتسلق سلم الهرم الاجتماعي، لإسكات البطون الجائعة في انتظار أن تتجاوز الأزمة بسلام.
ثمة حقيقة موضوعية لا يمكن إغفالها حينما نريد تفكيك العلاقة بين السياسي والاقتصادي، وهي علاقة السلطة بالطعام. الانسان ميّال بطبعه إلى الخمول والكسل (وقد كتب راسل في هذا الشأن مقالة رائعة بعنوان “في مدح الكسل”)، فهو يسعى دائما إلى الحصول على الكثيرِ بالقليل من الجهد، ولا تُفهم ظواهر قُطّاع الطرق، القرصنة والغزو، إلا في هذا الإطار. كانت هذه الظواهر في الماضي مقبولة أخلاقيا، ولا أحد يعترض عليها إلا ضحاياها طبعا. ومن كانوا يتولون هذه العمليات إنْ لم يكن الزعماء والقادة العسكريين فهم أتباعُهُم ومُرتزقتهم. هذه هي أولى صور التماهي بين الاقتصادي والسياسي، لكن عندما نمت وكبرت المجتمعات الإنسانية، وهيمن المنطق التجاري على الاقتصاد، تحول هؤلاء القادة إلى مُضاربين. والمضاربون عموما هم قادة الدول الحديثة. والساهرون على حسن سير مؤسسات الدولة، من عمال وموظفين، هم المُرتزقة الجُدُد. لذلك لا يجب أن نغترّ بالتنظيم المحكم لأجهزة الدولة، فما هذا إلا جملة من قواعد المضاربة، يُحددها القادة مسبقا، بالصورة نفسها التي يحددون بها الأسواق والأسعار.
قد تكون فكرة المرتزقة الجدد صادمة للقارئ، لكن إذا قارنا كيف كانت تُسند المناصب العمومية داخل نظام المدينة polis القديم، حينما كانت تُفهم السياسة بمعنى politeia أو res publica، مع الصورة التي تُسند بها الآن داخل الأنظمة الدولتية systèmes étatiques الحديثة، التي تتحدد فيها السياسة كحق في السيادة، أو كحق في احتكار سلطة القرار، سيسهل علينا امتصاص الصدمة بدون شك.
لذلك لا يمكن أن نقول إن القادة السياسيين سيتخذون إجراءات من شأنها أن تعيد النظر في القطاع الاقتصادي لصالح الناس، بل سيختلقون كل السبل لاسترجاع ما يمكن أن يكون قد لحقهم من أضرار أو خسائر جراء هذه الجائحة.
هل ترى في “كورونا وما بعدها ” اختبارا حقيقياً لـ “قيم الديموقراطية” الحديثَة، وما هي الآثار التي ستتركها برأيك في الفكر السياسي المعاصر؟
ستؤثر أزمة كورونا، بدون شك، على صورة الديمقراطية الحديثة، وذلك عبر مستويين؛ الأول ستتوجه فيه الأنظمة السياسية نحو مزيد من التّحكم وتركيز السلطة واحتكارها، بسبب تضرر القطاع الاقتصادي من الأزمة. لقد مكّنت إجراءات الطوارئ، التي اتخذتها معظم الدول المتضررة من الوباء، من تقليص صلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية لصالح السلطة التنفيذية. ولن تتنازل الحوكومات، بعد انتهاء الأزمة، عن هذا المكسب بسهولة، بل ستتضرع دائما بحجة النهوض بالقطاع الاقتصادي في كل القرارات التي ستُتّخذ، لاسيما وأن أغلب الدول يحكمها رؤساء الشركات والمؤسسات المالية الكبرى ploutocratie. وإذا كنا نعرف أن منطق الانتاج القائم على التنافس والاحتكار يتعارض مع منطق الحقوق والحريات، فبديهي أن يميل التشريع والقرار السياسي لصالح أرباب المصانع والشركات على حساب العمال ودافعي الضرائب.
سيكون لهذا المسعى، بدون شك، تبعات على المستوى الدولي، بحيث سيشتد التنافس بين الدول على المستوى الاقتصادي، خاصة بين التي تقدم نفسها كدول مؤثرة في القرارات والسياسات الدولية. كما ستزداد تَبَعِيّة الدول الضعيفة للدول المُهيمنة، وربما ستظهر أقطاب سياسية جديدة، لاسيما إذا استمر التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
أما المستوى الثاني، فسيتخذ منحى معاكس لنهج الأنظمة السياسية، بحيث ستتوجه الشعوب، إذا جاز لنا أن نستعمل هذا المصطلح في عصرنا الحالي، نحو مزيد من التباعد والنفور من القواعد المنظمة للمارسة الديمقراطية الحديثة، خاصة ما تعلق منها بالنظام النيابي والتمثيل الحزبي. بدأ هذا التيار يلوح في الأفق قبل كورونا، وهو ما يستشف من خلال احتجاجات السترات الصفراء بفرنسا، وأيضا احتجاجات كل من الجزائر، لبنان والعراق. وسيزداد تجذرا في وعي الناس إذا طالت الأزمة.
لن يبقى الفكر السياسي، وهو الشق الثاني من السؤال، بمعزل عن هذه التغيرات. لقد نبّه مجموعة من المفكرين والفلاسفة، منذ القرن التاسع عشر، أمثال دو طوكفيل، جون ستيوارت مل، وبنجامين كونستان، إلى عيوب الأنظمة البرلمانية، خاصة ما تعلق منها بمبدأ الأقلية والأكثرية، وتعارض الحق مع القانون. ورفض الاشتراكيون النظام ككل. كما حاول فلاسفة أخرون خلال القرن العشرين، إصلاح عيوب الديمقراطية الحديثة بالتركيز على شروط إحقاق العدالة وإشراك الناس في القرار السياسي، مع جون راولز ويورغن هابرماس على الخصوص.
ستزداد دعوات الفلاسفة، بسبب جائحة كورونا، إلى إصلاح الأنظمة السياسية الحديثة، وستتعالى صيحات الاشتراكيين والأناركيين. لكن لا يجب أن يغفلنا التذمر، من الأنظمة الديمقراطية الحديثة، الوعيَ بمدى مناعة هذه الأنظمة ومقاومتها لكل تغيير يمس جوهرها كوسيلة لاحتكار السلطة.
ما يصنع مناعة الأنظمة النيابية أمور ثلاثة متصلة ومترابطة وهي؛ ارتباط الانتاج في العصر الحديث بالصناعة، ارتباط العلوم بفكرة التخصص، والنمو الديمغرافي. البحوث المتخصصة تطور الاقتصاد وتوفر الانتاج. والنمو الديمغرافي يوفر الأسواق والمستهلكين. لذلك، فبدون تفكيك هذه البنية (وهذا مستبعد جدا في ظل الاعتقاد الراسخ في قدسية الأسرة والملكية) ستظل الكلمة الأولى والأخيرة لفئة المضاربين الذين يستغلون المؤسسات التشريعية لتنظيم وإحكام قواعد وشروط المضاربة.
كيف ينظر يوسف أقرقاش إلى تعاطي الدولة المغربية مع الجائحة على ضوء دراساته في الفلسفة، لا سيما ما اقترن منها بالسياسة والسلطة؟
إذا كنا نقصد بمصطلح الدولة المغربية جهاز الحكم في البلد، فهو الآخر لا يمكن أن يكون استثناء في تعاطيه مع الجائحة، بل ربما هو الذي يعبر حقيقةً عن واقع السلطة. يذكر إلياس كانتي Ilias Cannetti، في كتابه “الجماهير والسلطة”، أن ظاهرة البيعة في مملكة أوغندا قديما تخضع لطقوس خاصة، وهي أن يُؤتى إلى الملك الجديد بضحيتين من رعاياه، فيَجْتَزّ رأس الأول ويعفو عن الثاني ليصير خادما له في القصر. لم تكن طقوس البيعة هذه عفوية، بل هي جزء من ممارسة السلطة ك”حق في الرقاب”، وفق تعبير ميشيل فوكو. إن المراد من هذه الممارسة إقناع الأوغانديين بأن احتفاظهم برؤوسهم فوق أكتافهم مِنَّةٌ وفَضْلٌ من الملك الجديد. وبالعودة إلى السؤال، يمكن القول إن السلطات المغربية قامت بمجهودات مُعتبرة، حينما سارعت إلى تطبيق الحجر الصحي، وحينما بادرت إلى تقديم مساعدات نقدية للمعوزين، بغض النظر عن الكيفية والأخطاء التي صاحبت ذلك؛ لكن الإصرار على غلق الحدود في وجه المغاربة العالقين بالخارج، خاصة بمدينتي سبتة ومليلية، وإصرارها أيضا على بقاء معتقلي الرأي في السجون رغم هول الجائحة، لا يُفسر إلا بكون السلطة حقا فوق الحقوق، تتدخل أحيانا بصورة رؤوفة رحيمة، وأحيانا أخرى بصورة جبارة وقاهرة.