حسن لحمادي لفور تنمية : لماذا حرمتنا جائحة كورونا من سحر شقائق النعمان؟ L’anémone Couronnée
لفور تنمية : حسن لحمادي
تكاد النفس البشرية تخرج من عقالها لتعانق الطبيعة الحالمة في عز فصل الربيع، حيث السنابل تنحني أمام ناظريها تم تتراقص على إيقاع سمفونية تشايكوفسكي في إبداعه الخالد ” رقصة البجع” .فالرياح القادمة من الجنوب دائما تمنح الحقول في هذه الفترة من السنة ، دفئا وسخونة، بينما رياح الشمال فغالبا ما تكون باردة ، تهب وتحمل معها سحبا رمادية اللون تتكاثف في السماء حينها تتساقط القطرات ، لتغرق جحور النمل والخنافس والقنافذ وتخرجها رغما عنها بعد موسم جاف وطويل.
تشتهي النفس الإرتماء وسط هذه الخضرة ألامتناهية على حد البصر ،تبسط سحرها على حقول السراغنة الممتدة من قدم جبال الاطلس الكبير (أزيلال) إلى تخوم هضاب الرحامنة التي يحدها نهر ام الربيع شمالا ، تتخللها كثبان الفوسفاط البيضاء تتراءى لك من بعيد شامخة مثل أهرامات الجيزة خرجت من باطن الأرض. فحقل الرؤية حسب أصحاب الإختصاص في مجال (السينيما-التلفزيون-الفوتوغرافيا-والفن التشكيلي) يغلب عليه اللون الأحمر بينما الأخضر يؤثت المكان ،ليفسح المجال لشقائق النعمان لتبسط احمرارها وهي تتباهى بجمالها، تتغنى وسط الطبيعة الحالمة مثل عروس تتأهب لإحتفال أسطوري ، شكلها يمنح المكان سحرا لا يقاوم، تغنى بها الشعراء وتزينت بها النساء .تقول الابحاث ان هذه الزهرة تعرف علميا باسم الشقار الإكليلي، هي زهرة برية حمراء جميلة ارتبطت بالأدب العربي ،قيل انها نبتت على قبر النعمان إبن منذر أشهر ملوك الحيرة (مدينة تاريخية توجد بالعراق) ، إذ رفض الخضوع لملك الفرس الذي طلب منه تسليمه نساء العرب،فكانت معركة ذي قار ، ولهذا نسبت اليه .
كنا أطفالا نلهو ونركض في كل الإتجاهات احتفاء بموسم الربيع ببهجته حيث تخرج النساء ويفترشن الأرض ويطلقن العنان لحناجرهن على إيقاع الدفوف والزغاريد ،تتغنى بجمال فصل الربيع والخضرة وبالماء المتدفق وبرجالات القبيلة وبكل افراد العائلة من الذكور وهي تراتبية اجتماعية يمليها منطق المجتمع الذكوري، بينما الفتيات يرددن وراءهن وبشكل متناسق مثل الكورال الأوبيرالي .كم اشتقنا الى النزهة عبر المروج الخضراء لمنطقة تملالت القديمة حيث الازهار والاعشاب تكسو التلال الجافة، بينما قطعان الماشية تزحف رويدا رويدا بعيدا عن الراعي الذي يعزف على علبة الزيت .. يعزف اغاني شعبية تتماهى معها الخرفان حديثة الولادة تقفز في كل الاتجاهات . فالمرء وسط هذه السحر الطبيعي وهذه المشاعر الفياضة يصبح حينها مثل ريشة عصفور تتأرجح وسط هذا العالم المفعم بالحياة وبالاحاسيس الانسانية التي تبحث عن نسائم الحرية ، بعيدا عن تفاهات إكشوانات مواقع التواصل الاجتماعي ومتلاشيات الليبيرالية المتوحشة التي افقدت الحياة معناها الحقيقي وبساطتها وعفويتها .العين تبقى أسيرة هذه المشاهد الفاتنة ،توحي لك برومانسية غابرة بإحساس رقيق يراود كل إنسان يعشق الحياة ،يريد أن يخلص روحه من قبضة الروتين اليومي ومن نظرات المتلصصين التي تطارده اينما حل وإرتحل .تمتلكك الرغبة الجامحة في السيطرة على كل شبر من هذا العالم الأخضر الفسيح، المترامي الأطراف. فالآذان تلتقط أصواتا قادمة من بعيد تختفي احيانا تم تعود تحملها الرياح ،هي اصوات محرك الديازيل لضخ مياه الآبار من باطن الأرض تتدفق في انسيابية نحو الحقول لتروي جدور السنابل وأشجار الزيتون التي تكون في مرحلة الإزهار يكسوها اللون الأبيض يمنحها حلة وسط هذه الخضرة السوريالية ، وأصوات الطيور وهي تغني بدون انقطاع معلنة عن بداية موسم التزاوج و بناء الأعشاش .نسجل عودة طائر السنونو والحسون والقبرة ، فالطيور لا تنسى موطنها الأصلي مخترقة الجغرافيا والصحاري والجبال تعود لتشتغل بحماس كبير وحيوية غير معهودة بعد هجرة طويلة إلى الأدغال إفريقية حيث حرارة الجو ووفرة الغذاء ،تعيد بناء أعشاشها أو ترميم أخرى قد دمرتها الرياح العاتية والأمطار الرعدية التي تتخلل فصلي الصيف والخريف .تبدأ حياة جديدة ومعها يصبح الإنسان شاردا وسط هذا الإفتتان الذي تفرضه الطبيعة مرة في السنة، تم يتغير المشهد ليبدو اكثر اصفرارا مع هبوب لهيب شهر ماي حيث تذوب شقائق النعمان وتختفي عن الأنظار في مشهد تراجيدي ،كما تستسلم السنابل لجبروت آلات الحصاد العملاقة، لم يتبقى منها سوى أشلاء التبن المترامية هنا وهناك .لكن هذا الموسم ليس كباقي المواسم، فكورونا “الجائحة” كما كان يسميها آباءنا ونحن صغار اي “الكارثة”…الطاعون…الجراد…وغيرها من الأوبئة التي تأتي على الأخضر واليابس، أفسدت كل شيء وحولت أجسادنا إلى مجرد هياكل بدون روح. تترصد الأبرياء و تقتلهم في صمت، كما تفعل الشمس بشقائق النعمان في نهاية شهر ماي.