احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.
ذ محمد الحنفي
بعد وفاة المرحوم محمد برامي مؤخرا، تبينت أهمية مكانته، ونهجه في مهنته، التي كان يمارسها. إنه كان على بساطته المؤثرة، والفاعلة في الواقع، ضد كل ارتفاع في أثمنة الكتب المقروءة، خاصة، وأن غالبية سكان إقليم الرحامنة من الرجال، ومن النساء، على حد سواء، كانوا محرومين من التمدرس. لذلك، كان المرحوم يحرص على أن تكون أثمنة الكتب، التي يعرضها للبيع، في متناول الجميع، بل إن تلك الأثمنة، تختلف حسب الشخص الباحث عن الكتاب، فإن كان من الأثرياء، طلب منه ثمنا أعلى، وإذا كان من الموظفين، طلب منه ثمنا متوسطا، وإذا كان من الكادحين، طلب منه ثمنا أقل، وإذا كان لا يملك شيئا، وله أولاد يدرسون، ويعرف أنه لا يستطيع أن يشتري الكتب، قدمها له بدون مقابل.
ولذلك، فإن المرحوم كان يقوم باتصالات واسعة، في جميع الاتجاهات، وإذا كان هناك ما يتنقل من أجله، لجلب الكتب، والأدوات المدرسية، وبأثمنة مناسبة، لمستوى دخل غالبية سكان الرحامنة، وخاصة في مدينة ابن جرير، تنقل، وجلب الكتب، وعرضها للبيع، ليحج إليه كل من له القليل من فضول الاطلاع، والبحث عن نوع معين من المعرفة، قديمها، وحديثها، ليشتري ما شاء من الكتب، والأدوات، التي تتضمن تلك المعرفة، أو تساعد عليها، وصولا إلى إغناء خزانات الأسر، بمختلف المعارف، في أبعادها المدرسية، والفكرية، والعلمية، والأدبية، والفلسفية، وبجميع اللغات المعتمدة وطنيا، وعالميا، كالعربية، والفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، التي يتم التدريس بها، في مدارس ومعاهد معينة، مما يجعل المرحوم، يحرص على أن يوفر الكتب، والأدوات لجميع المستويات، ولجميع أفراد الشعب، وبأثمنة في متناول جميع الطبقات الاجتماعية، وخاصة الكادحين، الذين كانوا لا يجدون أي بديل، فيما يخص الأثمنة، التي كان يحددها لهم، والتي لا يمكن أن تتجاوز قدرتهم الشرائية، الأمر الذي يترتب عنه، أن معروضاته رائجة، لأنها في متناول الجميع، وأن معروضات غيره من الكتبيين، غير رائجة، لكون أثمنتها ليست في متناول الجميع، بقدر ما هي في متناول النخبة، التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، في كل حي، وفي كل مجموعة من دواوير القبيلة، التي أصبحت تسمى إقليما.
ومعلوم أن الكتبي الذي يعرض بضاعته، من أجل النخبة، يرفع قيمة تلك المعروضات. والكتبي الذي يتوجه إلى الجماهير الشعبية الكادحة، لا علاقة لمعروضاته بالنخبة. والمرحوم محمد برامي، كان من هذا النوع.
والكثير من الكتب التي كنت أعجز عن شرائها من مكتبات الخاصة بالنخب، والتي توجه خطابها إلى النخبة، استطعت أن أقتنيها عنده، بالأثمان التي أستطيع اقتناءتا بها.
والمرحوم محمد برامي، لم يكن، كذلك، يحرص على أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من الخاصة، والعامة، بل إنه كان يحرص على أن تكون معروضاته في متناول الجميع، مهما كان مستواهم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي؛ بل حتى الذين لا يستطيعون أداء قيمة الكتب، التي يطلبونها، يستطيعون الحصول على ما يريدون منها، بدون مقابل، حتى وإن كان ذلك المقابل رمزيا. وعمل كهذا، لا يمكن أن يقوم به إلا الإنسان. والإنسان، مهما كان، وكيفما كان، لا تتحقق إنسانيته بالمعنى الصحيح، إلا بالتضحية. والتضحية، لا يقبل عليها إلا من يعتبرها جوهر الحياة الإنسانية. والمرحوم كان يدرك، جيدا، معنى التضحية، كطريق لتحقيق الإنسانية، في شخصه، وفي علاقاته، تجاه الغادي، والبادي، وتجاه الأصدقاء، وتجاه كل المعارف، وتجاه الأجيال الصاعدة، وتجاه الطلبة، والتلاميذ، في مستوياتهم المختلفة؛ لأن الإنسانية المعتمدة في التفاعل بين جميع أفراد المجتمع، لا يمكن أن تتجسد على أرض الواقع، بدون تبادل التضحية بين الأفراد، والجماعات. والمرحوم محمد برامي كان يجلب الكتب المستعملة، وغير المستعملة، لا لتحقيق الأرباح الهائلة، كما هو الشأن بالنسبة لأصحاب المكتبات، في جميع أنحاء المغرب، وكما هو الشأن بالنسبة لجميع تجار المواد الاستهلاكية، على المستوى الوطني، وعلى المستوى المحلي، بل ليرضي الحس الإنساني فيه، والذي كان يسكنه، ويفرض عليه أن يجعل أثمنة معروضاته، في متناول الجميع، نشرا للمعرفة، وجعل تلك المعرفة ذات طابع إنساني / شعبي، ولتمكين جميع الناس من المعرفة، حتى لا تبقى محتكرة في صفوف نخبة معينة، وقد قال لي أحد رفاقه، في زمن ما، (إن عيب محمد برامي، أنه كان يقنع بالقليل من الربح، مقابل تصريف الكتب، والأدوات المدرسية، التي يعرضها). وقد كانت، من خلال علاقتي به، إنسانيته، هي التي تفرض عليه أن يقنع بالقليل، الذي يعيش منه، ويتنقل منه، ويمول أسرته وعائلته منه… إلخ، خاصة، وأنه ليس من الذين يحرصون على مراكمة الثروات، انطلاقا مما يمارسونه من تجارة؛ بل إنه كان يجد أمامه سد الإنسانية، الذي يجعله في خدمة الإنسان. وحتى إذا جلب الإصدارات الجديدة، التي غالبا ما يجلبها من المعرض الدولي للكتاب، الذي يقام سنويا، فإن تلك الإصدارات الجديدة، تبقى في حدود 10 أو 20 أو 30 درهما، وقلما يطلب 40 أو 50 درهما، في كتاب قد تصل قيمته في المكتبات الخاصة إلى ،100 أو 150 درهما تقريبا، مع العلم أن المرحوم محمد برامي، كان يدرك، جيدا:
ماذا يفعل حينها؟
وما هي الغاية التي كان يسعى إلى الوصول إليها؟
إن شعبية المعرفة، وجعل الكتاب في متناول الجميع، وإنسانية المعرفة، هي الأهداف التي كانت تحكم المرحوم محمد برامي الكتبي / الإنسان، خاصة، وأنه كان يحرص على الوصول إلى جميع الناس، وإلى جميع الطبقات الاجتماعية، وإلى الكادحين، بصفة خاصة، لا يرضى بغير إرضاء جميع الأذواق، وجميع الميولات، مهما كانت، وكيفما كانت، إرضاء لضميره، وإرواء لإنسانيته.
وعندما يجلب الكتب القديمة، المستعملة، فلأنه كان يتوخى، من جلبها، توفير الربط الجدلي بين الماضي في إطلاقيته، وبين الحاضر في نسبيته، ليجد كل راغب في البحث عن كتاب ما يريد، وبالثمن الذي يستطيع أداءه، وعندما يرتوي المجال من الكتب التي يعرضها، يجملها بأقل من ثمنها بكثير، إلى القادمين من الأماكن النائية، كما هو الشأن بالنسبة لوارزازات، أو زاكورة.
فهل يمكن تعويض المرحوم محمد برامي، بمن يحمل نفس الرؤيا و يقتنع بنفس الفكر، وبنفس الممارسة، لتحقيق نفس الأهداف، التي كان يسعى إلى تحقيقها، في مجال ابن جرير، وإقليم الرحامنة، الذي كان يتحرك فيه، وكان يرضي سكانه، وكان يخدمهم باستماتة، شاء، من شاء، وكره، من كره؟
وهل يستطيع من يأتي مكانه أن يرضي سكان مدينة ابن جرير، وإقليم الرحامنة؟
هل يستطيع القيام بالبحث اللازم، والعميق، عن طريق الاتصالات، التي كان يقوم بها، على المستوى الوطني؟
هل يتجشم مشاق السفر إلى فاس، أو مكناس، أو مراكش، أو البيضاء، أو الرباط، لجلب الكتب المستعملة، من أجل عرضها للبيع، بأثمنة رمزية، خدمة لسكان المنطقة؟
هل يحرص على إرضاء جميع الأذواق، كما كان يفعل المرحوم محمد برامي؟
هل يصير في خدمة الطبقات الشعبية الكادحة، التي تحج إليه، في كل دخول مدرسي؟
هل يقدم الكتاب، والدفتر المدرسي، والأدوات المدرسية، إلى الذين لا قدرة لهم على اقتناء الأدوات المدرسية؟
إننا عندما افتقدنا المرحوم محمد برامي، الكتبي / الإنسان، افتقدنا سندا للجماهير الشعبية الكادحة، ولرجال ونساء التعليم، وللطلبة، والتلاميذ، وللأطفال الذين يصطحبهم آباؤهم، وأمهاتهم، وأولياؤهم، إلى مكتبة محمد برامي، ليختاروا من كتيبات الأطفال ما يشاءون، وبثمن رمزي، وافتقدنا الإنسان، الذي ساهم بشكل كبير، في تنمية خزانات الأسر.
فرحم الله محمد برامي، الذي جعل منطقة الرحامنة، تستحضره بشكل مكثف، في كل دخول مدرسي، وعوضنا بمثله، من أسرته العصامية، التي لها القدرة الكافية، في إيجاد بديل له، على نفس نهجه، وبنفس رؤياه.
إنه كان يناضل بطريقته الخاصة، بعيدا عن هرج، ومرج الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، التي لا تستطيع فعل أي شيء، ما قدمه المرحوم محمد برامي للشعب المغربي، على مستوى إقليم الرحامنة.
اللهم ارحم اخي واجعله من اهل الجنة