لنقرأ…: أفلاطون ضيفا على مأدبة فكرية بإقليم الرحامنة.
عبد الواحد ايت الزين
شهدت ثانوية الرحامنة التقنية التأهيلية، يوم أمس (السبت 10 مارس 2018)، لقاء فكريا، افتتحت من خلاله جمعية اتحاد أصدقاء الفلسفة، برنامجها الفكري: “لنقرأ…”، والذي سيخصص سنته الأولى للمتن الأفلاطوني- في سياق المشروع السنوي للجمعية الحامل لاسم: “الربيع الفلسفي” الذي أعلن عنه في السنة الماضية- الافتتاح كان مناسبة لتقديم محاورتي جورجياس وطيماوس، والتعرف على موضوعهما ومناقشتهما مناقشة فلسفية ومنهجية.
استهل الأستاذ أشرف الزاوي اللقاءَ بكلمة أكّد فيها على السياق العام لهذه الحلقة النقاشية، وأهميتها في إثراء الحقل الثقافي، فالفلسفة أشبه بذبابة سقراط، التي تستحث “الأذهان المُستبغلَة” على الخروج من وضع الكسل والخمول إلى وضع القلق والسؤال، وفي هذا يشكل أفلاطون فرصة للعودة إلى تلك الأسئلة الحية والأبدية التي انتبه إليها القدامى، مشيرا إلى ملاحظة منهجية تتعلق بالتباس العلاقة بين أفلاطون وسقراط، حيث صعوبة تحديد مجال حركة كل واحد منهما بالنظر إلى التداخلات والتقاطعات الفكرية والحياتية بينهما. هذا، وقد أشارت رئيسة الجمعية الأستاذة خديجة كرومي، في كلمتها الترحيبية إلى العلاقة المتينة التي تربط “الفلسفة بالصداقة”، وبخاصة عند الإغريق، مرحبة بكل صديقات الفلسفة وأصدقائها شاكرة للحاضرين حرصهم على الفكر الحر والثقافة الجادة، في الوقت الذي يهرول فيه الجميع إلى “ولائم صاخبة”، ويستبيح فيها البعض الآخر كرامة الثقافة بكل مظاهر البهرجة والانحطاط، وقد يمكننا أفلاطون من الوقوف على كل مظاهر التمويه والخداع التي تمارس باسم قيم سامية كالثقافة. لتعيد التذكير بالغايتين الساميتين لاختيار المحاورات الأفلاطونية مفتتحا فكريا لبرنامج القراءات: غاية بيداغوجية، تسعى إلى الإسهام في تقعيد الدرس الفلسفي، وبناء “ديداكتيك فلسفي مغربي” انطلاقا من الأصول النظرية الفلسفية القوية، وغاية معرفية، تهدف إلى تقاسم المعارف والتجارب القرائية بين المهتمين بإقليم الرحامنة، شاكرة ثانوية الرحامنة على استقبالها للجمعية، شكرَها لاستجابة السادة الأساتذة وترحيبهم بالمبادرة لتقوية الذات الفلسفية والفكرية بالرحامنة.
لينتقل الجميع بعدها إلى المداخلتين المركزيتين، حيث تطرق الأستاذ عبد العاطي فنان إلى المشروعية الديداكتيكية والبيداغوجية، لتناول محاورة “جوجياس”، وإمكانية استثمار دروسها سواء في الدرس الفلسفي أو الحياة العامة، بالنظر إلى المسار الاستدلالي الذي اتبعه أفلاطون في المحاورة من جهةِ طلبِ الوضوح والدقة في تعريف الأشياء وتحديد ماهياتها. فالأمر، بالنسبة للأستاذ فنان لا يتصل فقط ب”موضوع البيان” الذي يعلن عنه عنوان المحاورة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك إلى تناول مواضيع شتى تتصل بالسلطة والعدالة والطب والصحة وغيرها، البيان ليس إلا ذريعة أفلاطونية لمناقشة جورجياس وكاليكليس وبولوس، في مواضيع السعادة والفضيلة والسياسة…إلخ، مستحضرا في هذا السياق الطريقة التي أظهر بها أفلاطون التباس موضوع البيان كما يتمثله “جورجياس”، ومتوقفا عند العديد من الأمثلة الدالة، كالصلة بين الأقوال والأفعال، والطبيب والخطيب، وفن البيان والنسيج وكذلك صلته في تمثل جورجياس له بالطهو، من جهةِ ما يخلفه من لذة وانتشاء. كما عمل الأستاذ عبد العاطي فنان في سياق تقديمه لهذه المحاورة المحسوبة على محاورات الشباب الأفلاطوني على التمييز بين الرأي والاعتقاد (الدوكسا/الظن والعلم)، والصحة والمرض، ومفارقات الخير والشر، والظلم والعدل، منفتحا على ما تتيحه هذه المحاورة من إمكانات ديداكتيكية في دروس مادة الفلسفة من جهة تأزيمها وبث القلق والتوتر عند التلامذة.
أما الأستاذ عبد الواحد ايت الزين، فقد جدد بدوره التأكيد على أن هذه القراءات هي من جملة العتاد اللازم ل”الحرفة”، وبخاصة عندما يقترن الأمر بالمحاورات الأفلاطونية، فهي تتيح اكتساب عدة استدلالية فخمة، بالنظر إلى الأدوات المتميزة لأفلاطون، في النظر والتحليل والعرض والاعتراض…إلخ، وبالتالي، فإننا، نشعر عند قراءته وكأننا في “مختبر” حقيقي لتعلم الفلسفة، ومنه وجاهة الربط بين “الفلسفة والبيداغوجيا” انطلاقا من محاوراته، دون ذبح الأولى باسم الثانية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فقد عمد إلى استفتاح قراءة لمحاورة طيماوس بملاحظات ثلاث بشأنها، تتصل اتصالا شديدا بكون المحاورة ليست “سقراطية المعنى ولا المبنى”، فهي لها طبيعتها الخاصة سواء من حيث أسلوب عرضها أوموضوعها أولا، واستدلالاتها الصارمة ثانيا، وموقع سقراط فيها ثالثا. إن “طيماوس” ليست محاورة بالمعنى الحقيقية ل”محاورة”، فقد عرضها أفلاطون على شكل “درس أو قصة أو حكاية” بأسلوب جاف تتداخل فيها الكيمياء مع الرياضيات مع الأسطورة، ويفقد فيها سقراط مكانته الاعتبارية والرمزية. وبعد أن أورد الأستاذ ايت الزين طبيعة الأسئلة التي يروم أفلاطون معالجتها، تناول معظم المسالك النظرية التي سلكها في تناوله لموضوع جلل بحجم “طبيعة الكون والإنسان والكائنات الحية”، مستخلصا شغف أفلاطون بالنظام والتناغم وفكرة الضرورة، والتصرف وفقا لقوانين الطبيعة، وأثر ذلك على رؤيته الكوسمولوجية المختلفة عن ضربين سائدين في تفسير أصل الكون آنذاك: الشعراء، والطبيعيون الاوائل، من حيث أهمية قوله بحدوث العالم عن وعاء الصيرورة( نظرية المحل)، علاوة على تفسيره العضوي للإنسان وأعضائه، واعتبار فسادها وإصابتها بالأمراض أو الشيخوخة…إلخ خروجا عن التصميم الازلي الذي وضعه لها الصانع.
لتختتم الجلسة، بفتح نقاش عميق من لدن أساتذة المادة وأصدقاء الفلسفة والمتعلمين، حول راهنية أفلاطون ومحاوراته في عصر “السفسطة”، ووجوب مراجعة العديد من “الاحكام الموروثة” عن السفسطائيين، ومساءلة الصورة التي يقدمها بها أفلاطون وغيره، زيادة على غموض نظرية المحل وامتداداتها في الفكر الإسلامي، وما تثيره ملاحظات أفلاطون بشأن النساء والجسد والسياسة والأخلاق من أسئلة والتباسات، من شروط ضمان المحاكمة العادلة لها قراءتها على ضوء حاضرها وسياقاتها.