في حوار مثير وشيق مع المفكر المغربي الحجوجي : إن أهم شيء يحدث الآن في العالم هو بالضبط ما لانرى
فور تنمية
في سلسلة حوارات تقترحها جريدة فور تنمية على زوارها مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا .
في هذه الحلقة العاشرة من حواراتنا نستضيفالمفكّر المغربيّ منِير الحجّوجِي صاحب كتاب “القوات المسلحة الأيديولوجية” الذي يرى أن مشكلنا في المغرب أننا لازلنا نفكر بابستمولوجيا الأبدية/الخطية/التكرار/الجمود/اللاتاريخ.
مرْحباً الأسْتاذ والمفكّر المغربيّ منِير الحجّوجِي، أفْتَتحُ هذَا الحوَار الفكريّ معَك بتقْديمِ واجِب الشّكْر لكَ باسْمِي واسْم جريدَة فُور تنميَة. وأوَدّ أن أَبْداَهُ معَك بسُؤَال يتعلّقُ بكَونِكَ أحَد القَلائِل في المَغْرب الذِي كُنْت تُحذّر في كِتَابَاتك ومُداخلاَتكَ منْذُ زمَن أنّ العَالَم والمغْرِب سائرَان إلَى الهَاويَة، وأنهُمَا سيصطدمَان بالحَائط، هل تصوّرْت يوماً أن تتخذَ الهَاوية والحَائطُ ومجازَاتهُما، هذا الشّكل الذِي صار عليْه العالَم مع “كورونَا”؟
شكرا لكم على الدعوة الكريمة.. فعلا.. ففي كتابي “القوات المسلحة الأيديولوجية” كنت قد قلت بأني متيقن من أننا سائرون جميعا نحو الارتطام.. و بأني فقط لا أعلم شيئين: متى سيحدث و الصوت أو الشكل الذي سيتخذه.. قلت بأن مقدمات الارتطام موجودة.. الافتراس.. التخريب.. الاهانة.. لكني قلت بأن المقدمات تظل مقدمات.. ففي التاريخ ليس هناك أية حتمية، أية قدرية.. التاريخ ليس طريقا سيارة l’histoire n’est pas une autoroute .. لماذا؟ لأن التاريخ يلعب فيه فاعلون كثيرون، و تفعل فيه برمطرات كثيرة.. التاريخ طريق وطنية une route nationale.. و كلنا نعرف أن كل شيء ممكن ونحن على طريق وطنية.. تؤكد كورونا أمرا هاما جدا نادرا ما ينتبه اليه الباحثون في العلوم السياسية.. انه دور اللامتوقع في التاريخ.. أغلب صناع القرار في العالم يعتقدون بل يومنون أشد الايمان بوهم كبير اسمه أبدية الحاضر، أن اليوم هو الغد.. كورونا توقيع جميل بفشل هذه الابستمولوجيا الواقعية.. في كل أشكالها.. من فلسفات العود الأبدي الى نظريات الاستمرارات البنيوية مرورا بأطروحة نهاية التاريخ.. ما بينته كورونا أن التاريخ دوما أكبر.. كالله في الديانات التوحيدية.. قد نتحكم في بعض البرمطرات.. لكن ستكون هناك دوما أشياء لتنفلت لعيوننا، لقلوبنا.. هذه هي خطورة التاريخ.. هذه هي جماليته.. مشكلنا في المغرب أننا لازلنا نفكر بابستمولوجيا الأبدية/الخطية/التكرار/الجمود/اللاتاريخ: ان الشمس تشرق دوما من مكانها.. على مستوى الفرد – وهذا مفهوم- الغارق في فخاخ التدبيرات اليومية.. لكن الأخطر على مستوى الدولة – وهذا غير مفهوم-، المفروض فيها النظر الى العالم في تعقده/زمنيته/فجائياته الجذرية.. في التاريخ الشمس لاتشرق دوما من مكانها.. مثالان.. من كان بإمكانه أن يتنبأ بالثورة الروسية أسابيع فقط قبل تفجرها؟ هل كانت الثورة ممكنة بلا ذلك السقوط المفاجئ، السريع، الحاد، المهين جدا لنيكولا الثاني أمام ألمانيا؟.. من كان يعتقد أن بضع ثوار صربيين عطلوا لأسابيع تقدم الجيوش النازية من جنوب أوروبا الى ستالنغراد فمكنوا القوات الستالينية من استجماع قوتها و اطلاق هجوم شامل هم من قلبوا الحرب العالمية الثانية ومعها مصير العالم؟.. اللامتوقع عنصر بنيوي في التاريخ.. ما معنى هذا بالنسبة لنا؟ معناه في تقديري شيء واحد: أن الضربة تكون قاسية جدا على من يلغيها من فهومه..
أيْن يكمُن جذْر الشرّ بالضّبْط، إنْ أمكَننَا طبعاً أن نقتَربَ من تحدِيدهِ؟
المسؤول الأول عن احتقانات العالم/المغرب هم الكوسموقراط Cosmocrates – التعبير لجون زغلر Ziegler-، وهم ورثة تلك الطبقة من السادة التقليديين البيض الذين يديرون اقتصاد العالم منذ خمسمائة سنة.
الكوسموقراط أوليغارشيا/مافيا لم تقبل أبدا كونها ولدت بمثل ملامحنا.. جذر الشر اذن هو الافتراس.. الرأسمالي شخص مفترس على الرغم من ملابسه المتحضرة و ملابسه الفاخرة.. لايمكن أن ننتظر منه أن يتصرف بشكل منطقي، لأنه مثلما تنبهنا سوزان جورج Georges لايفكر في المصالح بعيدة المدى، و لا حتى في مصلحته هو نفسه: انه يريد لهف كل شيء، وفورا… و النتيجة مثل هذه الأرقام.. سنة 2017 تحكمت الخمسمائة أكبر شركة عابرة للقارات في أكثر من 64% من الناتج العالمي الخام.. حوالي 90 في المائة من 3000 مليار دولار التي يتم تبادلها يوميا تمر عبر أيادي شركات بعينها، من مثل مايكروسوفت، اتحاد البنوك السويسرية، الشركة العامة، جنرال فورد.. سنة 2018 حققت مجموعات الكاك 40 الفرنسية ( الباطرونا الكبرى) 100 مليار أورو من الأرباح الصافية ما يعادل الميزانيات الاجتماعية للدولة.. عائلة واحدة هي كاركيل Cargill تتحكم في 30 بالمائة من سوق القمح العالمي.. أربعة بنكيين سويسريين يتوفرون على مبالغ تفوق الناتج الخام لأربعين دولة جنوب الصحراء.. 42 ثريا يملكون ما يقارب نصف ما يملكه فقراء العالم.. مليار شخص ليس لهم الا ما يمكنهم من البقاء، و ملياران ليس لهم تقريبا أي شيء.. نحن أمام تركز غير مسبوق للثروات في التاريخ une concentration sans précédent des richesses dans l’histoire .. إننا نعيش لا أقل و لا أكثر فترة فيودالية جديدة. والسادة الفيوداليون الجدد لهم سلطة لم تتوفر لأي بابا أو إمبراطور على مر التاريخ..
المشكل ليس فقط هو الافتراس.. المشكل، الأكبر، أن الكوسموقراط في بحث يومي دائم عن تجديد أدوات الابتلاع.. وهم الأن يتحولون من التحكم النسبي الى التحكم/الاحتكار المطلق (الكتابات المتأخرة لسمير أمين مثلا).. حتى ذلك الفلاح المسكين في قلب الأدغال الهندية، أو المكسيكية، أو الطوغولية يجب جره الى لعبة الأسمدة الكيمائية.. حتى تلك المراهقة يجب ايهامها بتفاهة جسدها خارج مستحضرات التجميل المترامية.. حتى طفل السنتين يجب دفعه نحو الدورة التاريخية للرأسمالية، عبر فخ اللوحة الالكترونية، الفخ/المدخل الى عالم الانتشاءات/المخدرات الاستهلاكية.. و – أخيرا- حتى ذلك المثقف الحداثي/الثوري، المفروض فيه التشكيك في البداهات المتوجة، يجب إخراجه من اللعبة، يجب دفعه الى استدخال الهزيمة، الى الايمان الصارم بأن الغول في كل مكان، و أن لاجدوى من الفعل، وأن لا شيء ينتظر من هذه الدنيا، اللهم الحدوث الدائم و الدائري للنظام العام، نظام الاستهلاك/الانتشاء المعمم بالعالم باعتباره “أفقا أنتروبولوجيا نهائيا للنوع البشري”، كما يقول جون بودريار Baudrillard.
في نفس السياق بدأنا نسمع عن اقتصاد الكارثة؟ بم يتعلق الأمر تحديدا؟
الممتازة ناعومي كلاين Klein هي التي أذاعت المفهوم في مؤلف تاريخي.. لم تعد الرأسمالية تكتفي باقتصاد النهب/المضاربة.. الكارثة هي سوقها الجديدة.. وكورونا هنا لا يجب أن تخرج عن القاعدة.. يجب استغلال حالة الصدمة لتحقيق مزيد من الأرباح الكبرى.. تشن الأوليغارشيا الأن هجوما كاسحا على الجسد.. لا شيء في الجسد يجب أن يترك لإرادة الجسد، لا شيء في الجسد يجب أن يترك خارج “الرؤية”، خارج “الفهم”، أي في النهاية خارج التحكم/الاستعمال.. تريد الرأسمالية أن تحول الجسد الى سطح مطلق، الى سطح بلا عمق، أو قل بعمق هو السطح نفسه، حيث كل شيء يجب أن يكون قابلا للموضعة، للرؤية، للمراقبة، تحت اليد.. ابستمولوجيا، الرأسمالية هي سياسة لاجتثاث السلبي la négativité.. كل شيء يجب أن يكون “إيجابيا”، واضحا، نهاريا، مموضعا في خانات “علمية”، جينية، رقمية.. هذا هو إرهاب الرأسمالية كميتافيزيقا متقدمة.. وباستعمال لغة الأساطير اليونانية توقع الرأسمالية على انتصار بروميطي Prométhée على ابيميطي Epiméthée.. انتصار انسان القوة على انسان الضعف.. انسان التحكم/التقدم على انسان التروي/التواري.. انسان الشهوة/الافتراس على انسان الصمت/الحكمة.. انسان لم يقبل أبدا التراجع أمام العالم على انسان لم يرغب أبدا المساس ب”منطق” العالم، بحق العالم في أن يكون “هو”، خارج رؤيتنا/استعمالنا له.. وما يعرف في هذه الأثناء بالايكولوجيا الجذرية أو السياسية هي منظومة جاءت لرد الاعتبار لابيميطي.. رد الاعتبار لنمط أخر لحضورنا فوق الأرض..
ماذا اذن عن التأثيرات الايكولوجية لهذا الزحف البرومتيوسي على العالم؟
الأمر أعمق و أخطر من مجرد تأثيرات.. اننا لا أقل و لا أكثر أمام “إبادة بيولوجية” anéantissement biologique غير مسبوقة.. ان نموذج العام، الرسمي، نموذج النمو، المبنى على الاستثمار المفرط للتقنية و الطاقة الأحفورية و العلوم، و الذي كان من المفروض فيه تحقيق التقدم و السعادة، انتهى بنا الى أمور فضيعة.. لقد اختفت وفقط في الأربعين سنة الأخيرة 70 % من الحياة فوق الأرض في الوقت الذي لم تبدأ فيه أثار الاحترار المناخي في الظهور بعد.. نصف وحيش الأرض اختفى منذ 40 سنة.. و الانقراضات تضاعفت 100 مرة منذ 1900.. في ألمانيا انخفض عدد الحشرات الطائرة ب 80%.. 70% من القرش انقرض و القروش كلها الأن مهددة.. و مؤخرا أحصى البيئيون 500 منطقة ميتة zones mortes في مجموع بحار العالم.. المنطقة الميتة هي حيث يقل بل ينعدم الأوكسجين ما يجعل كل حياة بحرية شبه مستحيلة بها.. السبب؟ تلوث الأنهار التي تصب فيها وتحمل إليها ما لا نهاية له من المعادن الثقيلة، كالكروم، و الكاديوم، و الزنك.. المشكل أن المناطق الميتة المحصية في توسع دائم كما بينت معاينات على مستوى واحدة من أكبر هذه المناطق و توجد في خليج المكسيك.. في فرنسا قتل تلوث الهواء السنة الفارطة 750 مرة أكثر مما قتل الارهاب.. الخ..الخ.. مشكل الرأسمال الدولي/المحلي المتوحش أنه يعتقد أن العملية الإنتاجية تحدث داخل حلقة مغلقة، أنها سيرورة اقتصادية محضة.. الأرض، الهواء، الماء، التراب، الباكتيريا، الفراشات، الحيتان، الانسان؟ هذه بارامطرات خارجية، غير اقتصادية.. و الأن نحن نؤدي الثمن غاليا عن هذه “البداهة” الملغومة..
خذ كورونا.. قدمت قراءات كثيرة للجائحة.. لكن نادرا ما تم الانتباه الى إمكانية الجذر الايكولوجي للفيروس.. “الفيروس يتحدث الينا”… هكذا يخبرنا الايكوماركسي دانييل طانيرو Tanuro.. إذا ما استمريتم في نظام الإنتاج/الاستنزاف المفرط للكوكب فإنكم تتجهون مباشرة الى الحائط.. بل ان الفيروس يقول أكبر من ذلك: ان ما تعيشوه أيها الأصدقاء لاشيء مع ما ينتظركم إذا ما استمريتم في زعزعة التوازنات الحيوية.. لقد نسف الزحف “التنموي” الحواجز التي منعت دوما من خروج الفيروسات نحو البشر.. عندما دمرنا ما لايقل عن 40 في المائة من غابات الأرض وفقط في أقل من 100 سنة (والتخريب لازال في ارتفاع) بدأنا بالنتيجة نمنح للفيروسات فرصة الوصول الى الجسد البشري.. وضحت دراسة تمت سنة 2017 كيف تفشى فيروس الايبولا.. بعد اجتثاث غابات مشهورة بالخفاش اضطر هذا الطائر الى الخروج نحو الأشجار القريبة من البشر.. بينت الدراسة أن من أذاع الايبولا شخص قضم تفاحة كانت تحمل لعاب خفاش.. هذا مثال صغير جدا.. عموما ان أي شيء نقوم به في حق الأرض يرتد في وجوهنا.. لاوجود، في الاستراتيجيات البيئية، لجرائم غير مؤدى عنها.. هذه هي اللعبة الجديدة.. القرن العشرون هو قرن التنمية الهمجية.. ونحن نجري وراء تلبية حاجياتنا لم نرى أن التخريبات التي نحدثها في الأرض وصلت الى مستويات بدأت تهدد بقائنا وبقاء كل شركائنا الأخرين.. أملي أن يكون القرن الحالي عصر التغيير الجذري لنمط حضورنا فوق الأرض.. أملي أن نفهم أن للأرض قوانين هي ما يجعل الحياة ممكنة.. لنبدأ في العيش وفق قوانين الأرض، لا وفق قوانيننا.. لننتقل من الانتروبومركزية نحو الايكومركزية.. من الايغو (مركزية الذات) الى الايكو (مركزية الحياة).. بقاؤنا، أيها الأحبة، رهين بعقد جديد مع الأرض..
كيْف تقرَأ الإجرَاءَات التِي هرعَ العَالمُ والمغْرب إلَى القيَام بهَا لمواجهَة “كورونا” ومفاجآته؟
المشاكل كوكبية و الحل لا يمكن أن يكون الا شموليا.. لم يعد من الممكن الاستمرار في علاج السرطان بالدولبران.. السرطان لا يواجه بالمسكنات.. كورونا ليس الا عرضا لمشكل أعمق.. يجب تغيير النموذج في كليته.. الخروج من نموذج الاستنزاف/الهدم الى نموذج يجب أن يكون صديقا لل”خارج”، للإنسان، للكوكب.. يجب اعادة دمج البارامطرات “الخارجية” في الحساب الإنتاجي.. سأل جاك أطالي Attali: من سيحكم العالم غذا؟ فكان الجواب: لا أحد… فنحن في قلب طائرة حيث ليس فقط لا وجود لربان ولكن ليس هناك أية مقطرة قيادة… لماذا؟ لأننا – أولا- اتجهنا نحو مجتمع السوق، نحو سوق عالمية لكن دون قانون عالمي.. و النتيجة نظام عالمي كانبالي، نظام كل الفظاعات، كل الفوارق الطبقية الرهيبة، كل الألام.. لأننا – ثانيا- سرنا في نموذج اقتصادي، نموذج الإنتاج/الاستهلاك المتطرف لم نحسب أبدا خطورته على البيت الذي ليس لنا غيره: الأرض.. اعتقدنا أنه بالإمكان الاستمرار في نمو لامحدود في قلب كوكب بموارد………. محدودة.. خدرنا أنفسنا بالأبدية.. كان هذا – و لا زال- خطأ كارثيا في قراءة العالم.. والحل، سأل أطالي؟ الرد: حكومة عالمية، عملة عالمية، مدخول عالمي، حكومة تتحكم في الرأسمال الدولي لا العكس.. و في انتظار ذلك ملفان أساسيان: أولا: التحكم في البيئة بوقف السياسات التنموية/التخريبية، بالاتجاه نحو استراتيجيات اللانمو La décroissance.. ثانيا: محاربة الفقر بمحاربة التوزيع غير العادل للمقدرات الكوكبية، بكبح نظام يقبل أن يموت طفل كل خمس ثواني من الجوع من أجل عيون توازنات سوق القمح الدولية..
من الممكن اذن أستاذ منير تغيير الأوضاع، إطلاق سير أخر للأمور؟
سأل أينشتاين Einstein: هل المستقبل يوجد في الحاضر؟ كان جوابه هو: نعم… انها الأبدية التي تتكرر إلى ما لانهاية.. أن الغد له نفس واقع اليوم.. انه العود الأبدي لنتشه.. سبينوزا.. صيوران Cioran.. البشر؟ ليس لهم أي دور في اللعبة اللهم دور التفرج البارد عليها.. المشكل أن ليس هذا ما نحتاجه لبناء معنى العالم.. ما يجب أن نعرفه هو أنه عندما نقوم بالسياسة، فيما يخبرنا اتيين كلاين Klein، الفيزيائي “الفوضوي”، يجب ترك هذا التصور والإيمان بأنه لازالت هناك لعبة سياسية، هامش حرية، اختيارات ممكنة، حتى يمكن للمستقبل أن يشبه ولو قليلا رغباتنا..
كيف اذن نصنع المستقبل؟.. تقديري أن كورونا فرصة ممتازة هنا.. كورونا ستغير شئنا أم أبينا عميقا علاقتنا مع الزمن.. أنا متيقن من أننا سننتقل من مجتمعات حلقية/تكرارية إلى مجتمعات تحولية… ببطء، لكن بقوة.. ستتحلل كل الثوابت الكبرى.. (من النتائج العرضية: تحلل الهوية.. لن نربط الهوية من الأن فصاعدا الى الماضي.. وهذا خبر سيء للمنظومات السلفية).. سنبحث عن معنى جديد للعالم.. و مركز الضربة سيكون هو الرؤية “التنموية”.. الذكاء لن يعود هو القدرة على مراكمة الأشياء.. على افتراع الأشياء.. على الجري وراء الأكثر دوما، الأكبر دوما.. الذكاء سيصبح هو القدرة على احترام الأشياء، سيصبح هو الوعي بأن هناك حياة خارج الذات ولها نفس الحق في الحياة.. يسمي بيير ربحي Rabhi هذه الحياة ذكاء كونيا، و هو الذي يمكن أن نلاحظه لدى نبتة و هي تنمو، و لدى طفل وهو يلهو، و سمكة و هي تغوص بين ذويها، وكهل وهو يداعب أحلامه، و ذبابة و هي تتجول بين “أزبال” ما.. لقد نهبنا، خربنا في صفاء ذهني، في لاوعي تام.. ثم: بوم.. ابستمولوجيا الفوري/الأناني/القصير المدى هي الخطر الأكبر على العالم، علينا.. تأملوا معي.. رياضة التزحلق على الماء.. surf.. عندما تركزون على اللوحة la planche فإنكم ترتبكون فتسقطون.. الحل لتجنب السقوط؟ أن تنظروا بعيدا.. البعيد المدى هو ما ينقذ الحاضر… ينقذنا من السقوط.. اذن: مشروع الطويل المدى هو شرط البقاء في الحاضر… مشروع، مثلما يطلب أطالي، لابد من تطويره، تنقيحه، بالاستناد الى بعض القيم الأخلاقية.. مهم جدا أن تكون لنا رؤية واضحة للخير، للشر.. العالم سيكون أقل بربرية.. النموذج الرأسمالي هو نموذج الفعالية المالية.. التي يخلطها – وهذه هي زلته الكبيرة- بالاقتصاد.. الاقتصاد شيء أخر.. الاقتصاد هو التدبير الجيد للبيت.. للموارد.. المالية هي الغرور المطلق.. نربح أنا و يمشي بو العالم لجهنم.. هكذا حدثنا أرسطو قبل ألفي سنة.. كلما راكمنا النجاح المالي كلما ابتعدنا عن المعنى.. كلما اقتربنا من الهمجية.. من الاستراتيجية الحيوانية.. لم نفهم أبدا درس الخرافة الابراهيمية الجميلة واستمرينا في ذبح/التضحية بالأخر/الأرض من أجل انتشاءاتنا.. بقاؤنا رهين بالخروج من هذا النموذج الاقتصادي وإعادة بناء معنى العالم.. كيف؟ يقترح علينا جويل دو روني Rosnay ما يسميه الوسطية الثورية centrisme révolutionnaire.. هناك ثلاثة نماذج لإدارة الحياة.. أن تضع الدولة في مركز الأشياء.. وهذه هي الفاشية.. أن تضع المال قاطرة للكل.. وهذه هي الرأسمالية الهمجية.. الخيار الثالت: أن تضع الدولة و المال في خدمة الانسان.. وهذا هو النموذج القادر على أن يبقى.. ان أكبر كارثة ونحن نفكر في النماذج أن ننسى الانسان، الأرض، المعنى..
هَل تتصوّر أنّ العَالمَ والمغربَ ما بعْد كورونَا سيكُونَان علَى غيْر ما كانَا عليْه؟
بلا أدنى شك.. دعني أضيف شيئا.. ككل الأحداث التي تمس البشر في دواخلهم ستحدث كورونا رجة قوية.. لقد فهمها جاك لاكان Lacan جيدا: ان ما يغير البشر هو امتحان الواقع l’épreuve de la réalité.. عندما يرتطم الدماغ بالحائط.. أنت تحرق أعصابك و أنت تريد اقناع انسان تحت مخدر السعادة الاشهارية.. الخوف هو محرك التاريخ الأكبر.. كورونا ستغير كل شيء.. في أي اتجاه؟ لا أدري.. لكني متيقن أننا أمام حدث بالمعنى الذي يعطيه ألان باديو Badiou للحدث: شيء سيحدث قطيعة في خطية/تكرارية الأشياء.. و من سيبقى هو بالذات من سيكون قادرا على ابداع سياسة حقيقية، عميقة للحدث.. لاحظوا معي.. ان أهم شيء يحدث الأن ليس هو ما نرى على الشاشات.. ليس هو أخبار الجثث.. ان أهم شيء يحدث هو بالضبط ما لانرى.. هو تلك الاجتماعات الغابرة.. الكبار يسابقون الزمن للاستحواذ على المستقبل.. هل يتوفر المغرب على خلية للتفكير الاستراتيجي؟ دعك من مراكز البحث التي تم خلقها لمنار السليمي و القوات المسلحة الأيديولوجية الشهيرة.. ستقولون بأن هناك لجنة التفكير في النموذج التنموي.. طيب.. لكننا نحن هنا أمام خطر كبير.. ان اللجنة مقيدة بكل الخطوط الحمراء التي يمكنكم تصورها.. ان بقينا على تقاليدنا السياسية المرعية الشهيرة فان اللجنة لن تنتج شيئا دالا.. ستقول كل شيء حتى لا تقول شيئا.. لقد ضيعنا حراك 2011.. حذار من أن نضيع كورونا.. ربما هي فرصتنا الأخيرة..
لو كانَ الأستَاذ منير الحجّوجي في “مرْكَز” القرَار السيّاسِي، ولَديْه صلاحيّات واسعَة، ما الّذي كانَ أوّل ما سيقُوم بهِ بعْد كورونَا؟
يخبرنا ادغار موران Morin بأن التاريخ يتقدم بطريقتين.. ماشي بعشرة.. التحول la métamorphose أو القطيعة la rupture.. التحول هو الانطلاق مما هو كائن للخروج نحو شكل جديد يطور الشكل الأول مثلما تفعل الدودة عندما تتحول/تخرج نحو شكل الفراشة.. هنا كل شيء يمر بهدوء القوانين العامة للحياة.. نتجه نحو القطيعة/الفوضى عندما لا ننجح أو عندما لا نريد أو عندما نكبح التحول، عندما نمنع الدودة من إكمال تبنينها، من بناء أجنحة الطيران.. يمر المغرب من لحظة مفصلية.. خطيرة جدا.. اما نتركه يربي الأجنحة، أجنحة الدخول إلى التاريخ، أو ….جهنم… ببساطة شديدة..
هناك تعريف للسياسة أحبه كثيرا: انها التدبير الذي يخلق السعادة عند أكبر عدد ممكن من الناس.. لذلك سأفعل ما يفعله أي رجل يحمل هم بلده و العالم: اطلاق إصلاحات شمولية يجب أن تكون، في نفس الوقت، متزامنة réformes globales et concomitantes.. سأعيد النظر في كل شيء، في بنية الدولة، في الاقتصاد السياسي، في السياسات التربوية، في الهوية، في العائلة، في الأهداف التاريخية.. يجب أن تكون لنا أهداف تاريخية.. لدينا تجربة جميلة جدا تم ذبحها في واحدة من أكبر جرائم المغرب المعاصر: تجربة حكومة عبد الله إبراهيم لسنوات 58-59.. أه لو تعودوا الى ما كتبه المهدي بنبركة نهاية الخمسينات.. كتب المهدي أن حل تخلف المغرب في دولة قوية ببرنامج اقتصادي/اجتماعي قوي.. مع كورونا كلكم لاحظتم كيف أن الرأسمال الخاص أدار وجهه عن المغرب.. كلكم لاحظتم كيف أن المغاربة، كل المغاربة، أداروا وجوههم نحو الدولة.. الكل أصبح بنبركيا.. حذار من تقنيات التشلهيب الشهيرة، من بهلوانيات لم تعد تضحك أحدا – اللهم القطيع المصنوع على مقاس الأجندات الملغومة.. السؤال الكوروني اذن هو: هل يتوفر المغرب على شروط التدافع/التموقع في قلب عولمة ستكون قاسية على من لايريد فهم القواعد الجديدة للعبة، على من لازال يريد إدارة عالم القرن 21 بأدوات القرون الوسطى؟
ما العمل اذن لرفع هذه التحديات الاستثنائية؟
لايمكن التقدم دون معرفة كوابح التغيير.. يخبرنا نجيب أقصبي و محمد أديب أنه مع بداية الستينيات سيحسم الملك الراحل في الخيار الاقتصادي للبلاد.. سيتبنى اللبرالية.. ما هي اللبرالية كما أرادها الراحل؟ شيئان: أولا اقتصاد السوق المبني على المنافسة وعلى القطاع الخاص (الزراعي/التجاري/العقاري/الصناعي التحويلي…) الذي افترض فيه الحسن الثاني أنه سوف يلعب دور المحرك الاستراتيجي للاقتصاد و سيقوم، اثر احداث التراكم، بتوزيع المداخيل و خلق فرص الشغل.. ثم، ثانيا، التصدير كقاطرة للتنمية الداخلية و للاندماج في التجارة الدولية.. هكذا قدمت الأمور نظريا.. أما تاريخيا، فلقد سارت الأمور نحو وجهات أخرى تماما..
بعد مرور 50 سنة، بائت هذه السياسات الى الفشل عموما، اذ لازال المغرب لم يبلغ بعد المستوى الذي يؤهله لصف الاقتصادات الصاعدة، بنمو ضعيف و غير مستقر ( في المتوسط 3 بالمائة)، وهيمنة اقتصاد الريع، وفوارق اجتماعية خطيرة.. فيما لم يكن لهذه الخيارات أي أثر على مستوى العيش الفردي الذي يبقى المعيار الأكبر لقياس/محاكمة أية سياسة اقتصادية كيفما كانت هويتها.. لنشر هنا الى أن 80 بالمائة من المغاربة – و بعد كل هذه العقود من السياسات “التنموية”- يتموقعون عند مستوى دخل يقارب ل 3000 دولار بل 1000 دولار في مناطق كثيرة، فيما تحرك نفس الدخل في دول مشابهة ليصل الى 12 ألف دولار في تركيا أو الشيلي.. ان أهم انجاز حققته لبرالية النماء/التنمية/النمو هو فضيحة كبرى اسمها المرتبة 126 في سلم التنمية البشرية الدولية…
لقد خلق الراحل القطاع الخاص ثم ريعه (من الريع) في سياق سياسة توريطية محبوكة جيدا – فقطاع خاص غارق في الفساد لن يرغب أبدا في تكسير اللعبة، و لن يرغب – وهذا هو الأخطر- في بلورة أي أفق تنموي قد يجلب أنظار/أنياب سادة البلاد و العالم.. لقد فهم صانع القرار أن رأسمالا خاصا قويا قد يتحول الى فاعل حتى لا نقول الى غول قد يشوش على لعبة التوازنات الماكروسياسية.. لقد خلق الراحل اقتصاد التصدير لأنه الاقتصاد الوحيد الذي لايمكن أن يمس بالتوازنات الماكرودولية، بالتوزيع الدولي للعمل.. لقد فشل القطاع الخاص في أن يتحول الى محرك استراتيجي للاقتصاد لأنه منع من أن يصبح محركا للاقتصاد.. لقد فشل اقتصاد التصدير/الرافعة الاستراتيجية للتنمية الداخلية لأن الراحل كان يعرف جيدا قدره، كان يعرف جيدا خطوطه الحمراء: لايمكن أن نكون الا ما تكونه لنا المافيات الديموقراطية الكبرى: بلاد ذيلية، منزوعة الأنياب الجيواستراتيجية.. و في النهاية تحول ما كان يفترض فيه أن يشكل ثورة اقتصادية الى كارثة اقتصادية: عجز تجاري مزمن.. تبعية دائمة.. عار كبير..
بعد 60 سنة من الخيارات اللبرالية، ها نحن اذن أمام اقتصاد بلا ملامح الاقتصاد.. اقتصاد تتنازعه مافيات داخلية ( الرأسمال المغربي) و مافيات خارجية ( فرنسا/البنك الدولي).. هذه هي الصورة التي يتوجب استحضارها و نحن نتداول في أسئلتنا الكورونية..
ما يهم صناع القرار أن تتحرك عجلات اقتصاد القنص l’économie de la chasse.. يقول اقتصادي برازيلي جيد جدا هو أوزفالد دي أوليفيرا Di Oliveira أنه لكي تبقى في هذا القرن عليك بشيئين: القنبلة النووية و اقتصاد بمحتوى تكنولوجي عالي une économie à haut contenu technologique.. و الاقتصاد أهم من القنبلة.. أما و أنت بلا هذا و لا ذاك، فانتظر الضواري، ضواري الشرق، ضواري الغرب، لا فرق…
بداية السبعينات نشر كونار مردال Myrdal كتابا على درجة عالية من الأهمية تحت عنوان: “تحدي العالم الفقير… برنامج من أجل نضال عالمي”..Le défi du monde pauvre.. Un programme de lutte internationale.
أطروحة الكتاب: مشكل الفقر هو مشكل سياسي.. اسمه الدولة الرخوة … و الدولة الرخوة هي تلك التي لا تطبق بها القوانين بسبب طبقات عليا لها ما يكفي من المال و السلطة ما يجعلها تخرق كل شيء دون أن تتعرض للمحاسبة.. النتيجة: تغول الفساد… الرشوة.. الاحتكار… جذر تراكم الفقر..
استحضر مردال في نهاية الحوار لأقول بأن مشكل المغرب يوجد فوق.. لن يكون هناك أي حل لأي شيء بنخب لا تنظر أبعد من دفاتر شيكاتها.. بوان بار.. نحن أمام لحظة مفصلية.. كورونا هدية من التاريخ.. أو من الله.. لا فرق..
في أحد أيام القرن 18، كان بعض سكان أستراليا الأصليين يجوبون شاطئا مثلما فعلوا دائما منذ فجر الوجود.. فجأة استوقفهم منظر شيء غريب – و رهيب- على الشاطئ.. باخرة ضخمة لم يسبق لهم رؤية مثلها.. سيخبرنا التاريخ بأن الأمر تعلق بباخرة القبطان كوك الذي جاء، مثلما سنعرف لاحقا، لنهب المكان وسكان المكان.. نظر السكان طويلا الى الشيء العجيب.. قبل أن يستأنفوا المشي نحو هدفهم المعتاد… كما لو أن إدارة الظهر للكارثة كانت كافية لتفاديها.. لا أريد أن يكون صناع القرار الحاليين هؤلاء السكان الأستراليين الأصليين…
سؤال أخير: كيْف يقْضِي الأستَاذ منير يومَه في ظلّ هذه الظّرُوف؟
في إعادة مشاهدة بعض الأفلام التي كان لها ما لها علي و…. في التفكير في هذا العالم الذي سنتركه لأطفالنا.. الأوليغارشيا واهمة وهي تعتقد أنها بافتراس العالم ستأمن مستقبل أولادها.. هذه خرافة مطلقة.. أولاد المافيا سيكونون مع كل هؤلاء الذي يخلقون بؤسهم الأن.. المافيا تزرع شروط الانفجار.. اما أن نعيش جميعا أو نسقط جميعا..