الدكتور محمد ناجي بن عمر يعود بإصدار بحثي جديد تحت عنوان :” بين الساجع والسارد “
أصدر الدكتور محمد ناجي بن عمر مؤلفا بحثيا جديدا تحت عنوان” بين الساجع والسارد ” وهو عبارة عن دراسة في السرد العربي .
ويضم هذا الكتاب مجموعة من المحاضرات العلمية التي تعيد قراءة السرد العربي القديم، بوصفه ذخيرة ثقافية وحضارية هامة، وتمثيلا سردياللذات العربية، تختزن قيمها، ومواقفها، وتجاربها، وتمثُّلها للحياة والأحياء. وينطلق من فرضية أن النثر القديم شهد نقلة نوعية تكوَّن في نطاقها، وتحوَّل من طور السجع الذي كان سمتَه الفكرية والجمالية البارزة في عصر ما قبل الإسلام، إلى طور الترسل المرتبط بنشوء الدولة الإسلامية، وتأسيس نظمها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية.
وسعى الكتاب -بين ثنايا هذه النقلة المعرفية والحضارية من السجع إلى الترسل-،وإلى البحث عن جذور السرد، واستنطاق شروط تشكله،وسياقاته المرجعية، وأنواعه، وإشكالاته التي لم تحظ -فيما نحسب- بما يكفي من المسَاءلة العلمية الرصينة والمدَارسة النقدية الجادة.
الكتاب يطرح إشكالات وقضايا كثيرة، يرتبط بعضها بالنثر عموما، ويرتبط بعضها الآخر بالسرد خصوصا. ومن الإشكالات المتصلة بالنثر، ما يتعلق بضوابطه المعجمية،والمفاهيمية،وحدوده الأنواعية، وشروط إنتاجه وتداوله وتدوينه، ثم مضامينه الدلالية ووظائفه الفكرية، وخصائصه الفنية المرتبطة بحركته التطورية، وامتداده في الزمان “عصر ما قبل الإسلام، صدر الدولة الإسلامية، أواخر العصر الأموي، وبداية العصر العباسي” والمكان “الشرق العربي، الغرب الإسلامي”. ويضاف إلى هذه الإشكالات ما يثيره السجع والترسل -بوصفهما فنين نثريين- من قضايا وأسئلة دقيقة؛ من قبيل موقف الإسلام من السجع، ومرجعيات النثر الفني وأصوله، ومواقف الدارسين المتضاربة منه.
أما الإشكالات المقترنة بالسرد، فتتصل أولا بدواعي عزوف الثقافة العالمة عن الانشغال بالسرد، رغم وفرة حوامله، وتنوع أجناسه،وأنواعه، وأنماطه، ومتونه النصية (المغازي، والسير، والتاريخ، والتفسير، والأخبار، والرحلات، والتراجم، والطبقات، والحكايات، والمقامات، والخرافات، والأساطير، والأمثال، والمنامات..)، وثانيا بالتباس الحدود المعرفية والمنهجية الفاصلة بين تلك الأجناس والأنواع، الأمر الذي يجعل على سبيل التمثيل السمات النوعية المميزة للأسطورة عن الخرافة أو الحكاية غامضةً. كما ترتبط ثالثا بالتداخل الجدلي بين المرجعي والمتخيل في الموروث السردي، ونظرة القدماء إلى التخييل، وحوامله النصية نظرة قدحية. وهي إشكالات ألقت بظلالها الكثيفة في أبعادها النظرية والعملية على فن المقامات عند بديع الزمان الهمذاني، الذي اتخذناه إطارا مرجعيا للممارسة التطبيقية.
تقديم: عمر حلي
أستاذ العليم العالي
رئيس جامعة ابن زهر
دعاني هذا المؤلف إلى مجال متعة واستفادة لا تضاهى. فبقدر ما كانت الاستجابة لطلب د. محمد ناجي بن عمر دعوة علمية وبحثية. وكانت قراءة هذا العمل، الذي أشير منذ هذا التقديم إلى أنه عمل متسم بكثير من النضج المعرفي، بقدر ما كانت دعوة لإعادة ترتيب الاهتمام بالنثر والمنثور في الثقافة العربية القديمة.. فهو مؤلف يعيد إلى ساحة النقاش العلمي في مجال السرد العربي سؤال النثر القديم ليس باعتباره نثرا وظيفيا،بقدر ما هو نثر مطبوع بطابع سردي ظل خفيا على جل المتتبعين. وبعودة هذا النقاش يكون هناك انفتاح على أسئلة يتاخم بعضها مجال التأريخ،ويهم بعضها الآخر المجال الديني، ثم يفتح جزءا منها بوابات المصادر، ورأي العلماء القدامى. وهو عمل تجاوز فيه المؤلف عالمي الوصف، والتحليل الأفقي إلى طرح أسئلة إبستمولوجية متشعبة..
كما يؤكد في نظري ترابط السلسلة الفكرية من القديم إلى العصر الحديث. ولا يعني الترابط استمرارا على الرأي الواحد، بل تجديدا دائما لسؤال مكانة النثر العربي في النقد العربي القديم، حيث يقلب طه حسين ما بحث فيه الجاحظ ويعارض شوقي ضيف ما تقدم به عميد الأدب وهكذا دواليك.
ثم لهذا الكتاب فضل آخر، يكمن في إتاحته فرصة فتح نافذة المقارنة فيما يتصل بالتنظير السردي الحديث الذي اعتمدنا فيه على المترجمات أكثر مما اعتمدنا فيه على صلات كتاباتنا المعاصرة بالإرث السردي القديم. ولولا إشراقات كتلك التي دأب عبد الفتاح كيليطو وغيره على نشرها في أعماله، منذ كتابه “الأدب والغرابة” لضاعت صلة اهتماماتنا بالأدب القديم باهتمامنا بالأدب الحديث. لأن التقسيم الذي فرضه الدرس الأدبي في تاريخ الأدب وفي الجامعات خلق هوة بين الأدب القديم والأدب الحديث، جعلت كلا منهما، أو على الأصح، كل مهتم بأحدهما، مكتفيا بذاته. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم يكسر تلك الجدران الوهمية التي أقيمت بين الاهتمامات النقدية والعصور الأدبية بطريقة تمزج بين البساطة في اللغة ،والعمق في الطرح دون تعالم أو تبارز..
ومن واجبنا اليوم، والحالة هذه، أن نذكر بأن شموخ نظريات السرد الحديثة ونبوغها، جاءت من كون أصحابها عادوا إلى الأصول النثرية وفككوا بنياتها ليدركوا كنه اشتغالاتها وبناءاتها. ويمكن أن نستدل على ذلك بالعمل الفذ الذي قام به جيرار جينيت في هذا الصدد. فهو وإن كان تطبيقا على عمل بروست الضخم “بحثا عن الزمن الضائع”، فإن تحاليله واستنباطاته كانت تستلهم كثيرا من عناصرها من “الإلياذة “لهوميروس على سبيل المثال لا الحصر. ولم يبن جينيت نظرياته السردية على الروايات الحديثة فحسب، بل أسسها على ما تزخر به النصوص النثرية القديمة من تأسيس للحكي..
تلكم أشياء يجب أن نعود إليها للتمحيص والتعميق. وحان الوقت لنمنحها ما تستحقه من فسحة لتغيير أفق الانتظار في هذا المجال من الأبحاث الأدبية من هذا القبيل.
وهذه مناسبة لأنوه فيها بالعمل الذي قام به الدكتور محمد ناجي بن عمر في هذا التناول للموضوع الذي حرص فيه على أن يتبنى خطة تأليف تراوح بين العرض البيداغوجي للموضوع في حلة علمية تحترم ضوابط التأليف وشروطه من خلال الانطلاق، والوضوح في الطرح والتناول. وكان ينطلق من السهل ليصل Yلى المركب. وقد مكنته قراءاته التراثية، وتكوينه الأدبي المتوازن والمتزن يسير سير من يفكر في الخطوة وفي الطريق معا.
وأتمنى في الأخير أن يجد هذا الكتاب طريقه إلى القراء والطلبة الباحثين لأنه يشكل إضافة نوعية للخزانة النقدية العربية.